الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

الصبر على الإصلاح

حسام العيسوي إبراهيم

إذا استحكَمت الأزمات وتعقَّدت حِبالُها، وترادَفت الضوائق وطال ليلُها، فالصبر وحْده هو الذي 1016يُشِعُّ للمسلم النورَ العاصم من التخبُّط، والهدايةَ الواقية من القنوط.

والصبر فضيلةٌ يحتاج إليها المسلم في دينه ودنياه، ولا بد أن يبني عليها أعماله وآماله، وإلا كان هازلاً، يجب أن يوطِّن نفسه على احتمال المكاره دون ضجرٍ، وانتظار النتائج مهما بَعُدت، ومواجهة الأعباء مهما ثقُلَت، بقلبٍ لم تَعلَقْ به رِيبة، وعقلٍ لا تَطيش به كُربة، يجب أن يكون موفور الثِّقة، باديَ الثبات، لا يَرتاع لغَيْمة تَظهر في الأُفق، ولو تَبِعتْها أخرى وأخرى، بل يبقى موقنًا بأن بوادر الصفو لا بد آتية، وأن من الحكمة ارتقابَها في سكون ويقينٍ.

وقد أكَّد الله أن ابتلاء الناس لا مَحيص عنه؛ حتى يأخذوا أُهْبتهم للنوازل المتوقَّعة، فلا تَذهَلهم المفاجآت ويَضرعوا لها[1].

﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ [محمد: 31].

وذلك على حد قول الشاعر:

عَرَفْنا الليالي قبْلَ ما نَزَلَتْ بنا *** فلمَّا دَهَتْنا لم تَزِدنا بها عِلْمَا!

ولا شكَّ أن لقاء الأحداث ببصيرة مستنيرة، واستعدادٍ كامل – أجدى على الإنسان، وأدنى إلى إحكام شؤونه؛ قال تعالى: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾ [آل عمران: 186][2].

والتريُّث والمصابرة والانتظار يتَّسق مع سُنن الكون القائمة، ونُظُمه الدائمة؛ فالزرع لا يَنبُت ساعةَ البذر، ولا يَنضَج ساعةَ النبت؛ بل لا بد من المكث شهورًا؛ حتى يُجتنى الحصاد المنشود، والجنينُ يظل في بطن الحامل شهورًا؛ حتى يستوي خَلْقه، وقد أعلمنا الله -عز وجل- أنه خَلَق العالم في ستة أيام، وما كان ليَعجِزَ أن يُقيم دعائمه في طرْفة عينٍ أو أقلَّ.

وتراخي الأيام والليالي على الناس هو المدى الذي تُقتَطع منه أعمارُهم، وتَستبين فيه أحوالُهم، وتَنضَج على لَهبه الهادئ طباعُهم، ثم يَنقلبون بعدُ إلى بارئهم؛ ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ﴾ [الأعراف: 29، 30].

فالزمن مُلابِس لكلِّ حركة وسكون في الوجود، فإذا لم نُصابره، اكْتَوينا بنار الجزَع، ثم لم نغيِّر شيئًا من طبيعة الأشياء التي تسير حتمًا على قَدَرٍ[3].

من نوح إلى محمد -عليهما السلام- صبرٌ متواصل على الإصلاح:

يضرب لنا القرآن الكريم أروعَ الأمثلة في الصبر على الإصلاح؛ قال الله تعالى عن نوح – عليه السلام -: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾ [العنكبوت: 14].

هكذا ذَكَرَ الله – عز وجل – المُدة التي قضاها نوحٌ مع قومه، فما هي الوسائل التي استخدمها مع قومه؟

قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا * وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا * قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا﴾ [نوح: 5 – 21].

بعد هذا الجهد الكبير، وبعد هذا العمل المتواصل، تُرى كم آمَن مع نوح – عليه السلام؟

يقول الحق -تبارك وتعالى-: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [هود: 40].

فرغم هذه المدة التي قضاها بين أظْهُرهم ألف سنة إلا خمسين عامًا، لم يؤمن معه إلا القليل؛ فعن ابن عباس كانوا ثمانين نفسًا منهم نساؤهم، وعن كعب الأحبار: كانوا اثنين وسبعين نفسًا، وقيل: كانوا عشرة، والله أعلم[4].

النبي -صلى الله عليه وسلم- بذَل الجهد الكبير في إصلاح الأمة، وفي نشْر هذه الدعوة المباركة، فعلى امتداد المرحلة المكية: ثلاثة عشر عامًا؛ أي: أكثر من نصف عمر الرسالة – كانت الصناعة الثقيلة التي أقامها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هي إعادةَ صياغة الإنسان؛ بإقامة الأصول، وتجسيدها في القلة المؤمنة، وفي دار الأرقم بن أبي الأرقم – مدرسة النبوة، والمؤسسة التربوية الأولى في تاريخ الإسلام – كانت صياغة القلوب والعقول بخُلق القرآن وقِيم الإسلام، فلمَّا تكوَّن الجيل الفريد، وتبلوَرت الجماعة والأمة التي صنَعها الرسول – صلى الله عليه وسلم – على عينه، جاءت بعد الهجرة مرحلةُ النشر والانتشار للإصلاح في ميادين الفروع؛ جاءت الدولة والسياسة، والجيوش والفتوحات، والنُّظم والمؤسسات، والقوانين والعلاقات الدولية، إلى آخر ميادين فروع الإصلاح.

لقد تقدَّمت “الدعوة” على “الدولة”، وتقدَّمَ تغييرُ “النفس” على تغيير “الواقع”؛ ولذلك كان التغيير منطقيًّا وحقيقيًّا، وراسخًا كل الرسوخ.

وبلَغ هذا الجهد من النبي – صلى الله عليه وسلم – حتى كانت “الأمة العامة” التي اعتنقت الإسلام عند وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم – قد بلغ تَعدادها 124000، وإن “الأمة الخاصة” – التي مثَّلت الأعلام والقيادات، والريادات والصفوة التي تخرَّجت في مدرسة النبوة – قد أحصى العلماء عددَهم في نحو ثمانية آلاف – منهم أكثر من ألف امرأة – جاءت تراجِمُهم في الأسفار التي رصدت أعلام الصحابة الذين صنعوا وقادوا من حول الرسول – صلى الله عليه وسلم – أعظمَ نماذج الصلاح والإصلاح في تاريخ النبوَّات والرسالات[5].

لم يصبر النبي – صلى الله عليه وسلم – على صناعة النفوس فقط، بل كان هناك صبرٌ آخر على صناعة البيئة المهيَّأة للدعوة.

فقد أجمَع المشركون من أهل مكة على محاربة الدعوة التي عرَّت واقعَهم الجاهلي، وعابت آلهتَهم، وسفَّهت أحلامَهم – آراءهم وأفكارهم – وتصوُّراتهم عن الله والحياة، والإنسان والكون، فاتَّخذوا العديد من الوسائل والمحاولات لإيقاف الدعوة وإسكات صوتها، أو تحجيمها وتحديد مجال انتشارها، فكانت هذه المحاولات الكثيرة لإيقاف هذه الدعوة من حروب مختلفة، وأهمها ثلاثة أنواع من الحروب:

النوع الأول: حرب الاضطهاد:

وقد وُجِّهت للضُّعفاء الذين لا عِزوة لهم ولا عصبيَّة، والرسول – صلى الله عليه وسلم – كان لا يَملك شيئًا، وليس لديه ما يقدِّمه من حماية؛ إذ رأى أسرة كأسرة عمار بن ياسر – هو ووالده وأمه رضي الله عنهم – تُعذَّب، فماذا يقول لها؟ لا يستطيع أن يقول إلا: “اصبِروا آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة”، وعن جابر – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مرَّ بعمار وأهلِه وهم يُعذَّبون، فقال: “أبشِروا آل عمار وآل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة”.

النوع الثاني: حرب السخرية:

وحرب السُّخرية كانت حربًا فيها نوع من الإيذاء النفسي ومن الإحراج البالغ، كانت حربًا مُوجعة؛ ﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ [الحجر: 6]، ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ﴾ [المطففين: 29 – 32].

إنهم يضحكون ويَسخرون، ويُنكِّتون؛ غمزًا، ولمزًا، وتنكيتًا، لكن أتْباع محمد – صلى الله عليه وسلم – ثبَتوا وصبروا على هذا كله.

النوع الثالث: حرب المقاطعة والحصار:

وهي حرب مُؤذية عندما يكون الإنسان تاجرًا، ثم تتقرَّر مقاطعته، أو عندما يكون له بنات وبنون، فيتقرَّر ألا يَتزوَّج أحد من بناته، هكذا صنَع المشركون بأتْباع محمد – صلى الله عليه وسلم – ولكنهم تحمَّلوا هذا كلَّه، وكان هذا الحصار الاقتصادي والاجتماعي في آخر العام السابع من البعثة، فازداد إيذاء المشركين من قريش، أمام صبْر الرسول – صلى الله عليه وسلم – والمسلمين على الأذى، وإصرارهم على الدعوة إلى الله، وإزاء انتشار الإسلام في القبائل، وبلَغ هذا الأذى قمتَه في الحصار المادي والمعنوي، والذي ضربته قريش ظُلمًا وعدوانًا على النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه ومَن عطَف عليهم من قرابتهم[6].

هذه هي بعض الصور في الصبر على الإصلاح، والتي تدعو المسلمَ إلى أن يتحلَّى بهذا الخُلق؛ فلا يَعجل، ولا يَقنَط، ولا يَيأس من رحمة الله.

 

وسائل عملية للصبر على الإصلاح

هناك وسائل عملية تُعين المسلم على التحلِّي بهذا الخُلق، ومنها:

1-   أن يعرف المسلم الغاية التي من أجلها خلَقه اللهُ في هذه الحياة:

 إذا نظَر المسلم إلى غايته، هان عليه كل شيء في سبيلها؛ يقول الحق – تبارك وتعالى -: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 111].

والغاية التي من أجلها يعيش الإنسان أن يُعبّد هذا الكون لخالقه، وأن تَنتشر تعاليم الإسلام بما تحمله من قِيَم الحق والخير، والسعادة والعدل والمساواة بين الناس.

وهذا ما أجاب عنه “ربعي بن عامر” حين سأله “رستم”: لماذا خرَجتم من دياركم، وطمِعتم في غزو ديارنا؟ أجاب: “لقد ابتَعثنا الله؛ لنُخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سَعتها، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام”[7].

هذه الغاية أيضًا تمثَّلت في إجابة “حاطب بن أبي بلتعة” في حواره مع “المقوقس” عظيم القبط بمصر، سنة 7 هجرية (628م)، والوارث لمواريث أقدم حضارات الدنيا وأعرقها.

لقد بدأ المقوقس حواره مع حاطب بالتحدي والتساؤل الاستنكاري، المتسائل عن صدق نبوة محمد وسلطان نبوَّته – صلى الله عليه وسلم – فقال لحاطب:

“ما منعه – أي الرسول – إن كان نبيًّا، أن يدعو عليَّ، فيُسَلَّط عليَّ؟!

فكان جواب حاطب:

منَعه ما منع عيسى ابن مريم أن يدعو على مَن أبى عليه أن يُفْعَلَ به ويُفْعَل!

فوجَم المقوقس ساعة – أي: فترة – ثم استعاد إجابة حاطب، فأعادها عليه حاطبٌ، فسكت المقوقس، وهنا استأنف حاطب محاورة المقوقس، فقال:

إنه كان قبلك رجل – يشير إلى فرعونِ موسى – زعَم أنه الرب الأعلى، فانتقم الله به – أي من الذين استخفَّهم فأطاعوه – ثم انتقَم منه، فاعتَبِرْ بغيرك، ولا يُعْتَبَر بك! وإن لك دينًا – أي: النصرانية – لن تَدعه إلا لما هو خير منه، وهو الإسلام، الكافي به اللهُ فقْدَ ما سواه، وما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد، وما دعاؤنا إيَّاك إلى القرآن إلا كدعائك أهلَ التوراة إلى الإنجيل، ولسنا نَنهاك عن دين المسيح، ولكنَّا نأمرك به”.

فمن جعَل حاطبًا يتكلم بهذه الفلسفات في الدين والدنيا، وفي الحرية والتاريخ؟! ومن الذي جعله يُكثِّفها في كلمات، هي عصارة للحكمة العالية؟!

إنها الغاية التي إذا عاش بها الإنسان أسفَرت عن جميل الطبْع، وبديع الفِطرة[8].

2-أن يعرف المسلم طبيعة الحياة:

فإن الحياة الدنيا لم يجعلها الله دارَ جزاءٍ وقرار، بل جعَلها دار تمحيصٍ وامتحان، والفترة التي يقضيها المرء بها فترةُ تجارِب متَّصلة الحلقات، يخرج من امتحان ليَدخل في امتحان آخرَ، قد يغاير الأولَ مغايرة تامَّة؛ أي: إن الإنسان قد يُمتحن بالشيء وضده، مثلما يُصهَر الحديد في النار، ثم يُرمى في الماء، وهكذا.

وكان سليمان عالِمًا بطبيعة الدنيا عندما رُزِق التمكين الهائل فيها، فقال: ﴿هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ [النمل: 40].

والابتلاء بالأحزان مُبْهَم الأسباب! ويَحسُن أن نفهم أن أوضاع الناس في الحياة كجيش عبِّئ للقتال، وقد تُكلَّف بعض فِرَقه بالقتال حتى الموت؛ لإنقاذ فرقة أخرى، وإنقاذ الفرق الباقية يكون للقذف بها في معاركَ أخرى، ترسمها القيادة حسبما توحي به المصلحةُ الكبرى، فتقدير فردٍ ما في هذه الغمار المائجة لا يُنظر إليه؛ لأن الأمر أوسع مدًى من أن يَرتبط بكِيان فرد معيَّن.

كذلك قد يكتب القدر على البعض صنوفًا من الابتلاء ربما انتَهت بمصارعهم، وليس أمام الفرد إلا أن يَستقبل البلاء الوافدَ بالصبر والتسليم، وما دامت الحياة امتحانًا، فلنُكرِّس جهودنا للنجاح فيه.

وامتحان الحياة ليس كلامًا يُكتب، أو أقوالاً تُوجَّه؛ إنها الآلام التي تَقتحم النفس وتَفتح إليها طريقًا من الرعب والحرَج، إنها النقائص التي تجعل الدنيا تتخم بطون الكلاب، وتُنيم صِدِّيقين على الطَّوى، إنها المظالم التي تجعل قومًا يدَّعون الألوهيَّة، وآخرين يُستشهدون وهم يدافعون عن حقوقهم المُنهوبة.

إن تاريخ الحياة من بَدء الخلق إلى اليوم مؤسفٌ! ومن الحق أن يشقَّ المرء طريقه في الحياة وهو موقن بأنه غاصٌّ بالأشواك والأقذاء[9].

3-أن يَنظر المسلم إلى الأسباب لا إلى النتائج:

من أهم الوسائل للصبر على الإصلاح، أن ينظر المسلم إلى الأسباب، فيَبذل قُصارى جُهده في تحصيلها، ولا ينظر إلى النتائج، فالنتائج بيد الله، والمسلم محاسَب على العمل لا على النتيجة.

وأروع الأمثلة على ذلك:

ما قدَّمه المسلمون الأوائل من تضحيات جِسام، ومع ذلك فإنهم قابَلوا الحق – تبارك وتعالى – ولم يروا نصْر الإسلام.

فها هو ياسر وسميَّة – رضي الله عنهما – والدا عمَّار بن ياسر، يموتان في سبيل الله، ويتحملان الأذى على تبليغ الدعوة، ويصبران على الإصلاح، ومع ذلك ماتا ولم يرَيَا للإسلام راية تُرفع، ولا دولة تُقام، قامَا بما عليهما، وكانت النتيجة على الله.

وها هو سفير الإسلام مصعب بن عُمير، يقول عنه عبدالرحمن بن عوف:

قُتِل مصعب بن عمير وهو خير مني، كُفِّن في بُردة؛ إن غُطِّي رأسه، بدَت رِجلاه، وإن غُطِّي رجلاه، بدا رأسه، وقال: أُعطينا من الدنيا ما أُعطينا، وقد خشِينا أن تكون حسناتُنا عجِّلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترَك الطعام[10].

وعن خبَّاب قال: هاجَرنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نبتغي وجه الله، فوجَب أجرنا على الله – عز وجل – فمنَّا مَن مضى ولم يأكل من أجره شيئًا، منهم مصعب بن عمير، قُتِل يوم أُحد، فلم نجد له شيئًا نُكفِّنه به إلا نَمِرة[11]، كنَّا إذا غطَّينا بها رأسه، خرَجت رجلاه، وإذا غطَّينا رِجليه، خرج رأسُه، فأمرَنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن نُغطي بها رأسه، ونجعل على رأسه إذخِرًا[12]، ومنَّا من أينَعت ثمرتُه، فهو يَهْدِبُها[13]”؛ أخرجاه في الصحيحين[14].

4-أن يتعرَّف المسلم على المنهاج الإسلامي في الإصلاح:

للإصلاح – في الرؤية الإسلامية – منهاجٌ متميِّز عن نظائره في كثيرٍ من الأنساق الفكرية والفلسفات والحضارات التي انتشَرت وسادت خارج إطار الإسلام.

فالإصلاح الإسلامي ليس تغييرًا جزئيًّا ولا سطحيًّا؛ وإنما هو تغيير شامل وعميق، يبدأ من الجذور، ويمتد إلى سائر مناحي الحياة، بل إنه لا يقف عند ميادين الحياة الدنيا؛ وإنما يجعل من صلاح الدنيا السبيلَ إلى الصلاح والسعادة فيما وراء هذه الحياة الدنيا.

وهو لا يقف عند “الفرد” – كما هو الحال في المذاهب “الفردانية” – كما أنه لا يُهمل الفرد مركِّزًا على “الطبقة” – كما هو الحال في كثير من المذاهب والفلسفات الاجتماعية اليسارية الوضعية والمادية – وإنما يبدأ الإصلاح الإسلاميُّ بالفرد؛ ليكون منه الأمَّةَ والجماعة، فالإسلام هو دين الجماعة – والجماعة أشمل وأوسع من الطبقة – وبدون صلاح الأفراد لن يكون هناك صلاح حقيقي للأُمم والمجتمعات[15].

والإصلاح الإسلامي يقوم على التدرُّج – سُنة الله في الأرض – فالزرعُ لا يَنبت ساعة البذر، ولا يَنضَج ساعة النبت؛ بل لابدَّ من المكث شهورًا؛ حتى يُجتنى الحصاد المنشود، والجنين يظل في بطن الحامل شهورًا؛ حتى يستوي خَلقه، وقد أعلمنا الله – عز وجل – أنه خلَق العالم في ستة أيام، وما كان ليَعجِزَ أن يُقيم دعائمه في طرْفة عينٍ أو أقلَّ.

هذه هي بعض الوسائل التي تُعين على الصبر على الإصلاح، ندعو الحق – تبارك وتعالى – أن يَجعلنا من الصابرين الذين يُوَفَّون أجورهم بغير حسابٍ.

————————————-

[1] أي: يَذِلُّوا.

[2] خُلق المسلم؛ ش. محمد الغزالي.

[3] المرجع السابق.

[4] مختصر تفسير ابن كثير؛ للصابوني.

[5] المنهاج الإسلامي في الإصلاح؛ د. محمد عمارة، مجلة الأزهر، جمادى الأولى 1433 هجرية، أبريل 2012م، الجزء (5)، السنة (85).

[6] خُطب الشيخ الغزالي، دار الاعتصام.

[7] دور الشباب في حمل رسالة الإسلام؛ د. عبدالله ناصح علوان.

[8] المنهاج الإسلامي في الإصلاح؛ د. محمد عمارة، مجلة الأزهر، جمادى الأولى 1433 هجرية، أبريل 2012م، الجزء (5)، السنة (85).

[9] خُلق المسلم؛ ش. محمد الغزالي.

[10] قصة الإسلام؛ مصعب بن عمير، على الرابط التالي:

http://islamstory.com/%D9%85%D8%B5%D8%B9%D8%A8_%D8%A8%D9%86_D8%B9%D9%85%D9%8A%D8%B1

[11] النمرة: ثوب مخطط.

[12] الإذخر: نبات يَنبت في صحراء الجزيرة، له رائحة زكية.

[13] أي: يَجنيها.

[14] صفة الصفوة؛ لابن الجوزي.

[15] المنهاج الإسلامي في الإصلاح؛ د. محمد عمارة، مجلة الأزهر، جمادى الأولى 1433 هجرية، أبريل 2012م، الجزء (5)، السنة (85).

 * المصدر: موقع الألوكة.

مواضيع ذات صلة