الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

الدعوة بتلاوة القرآن..

د. عامر الهوشان

أسلوب أصيل للدعوة إلى دين الله الخاتم غفل عنه الكثير من الدعاة، وطريقة فريدة لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، حادت عنها –وللأسف الشديد- الكثير من المؤسسات والمراكز الدعوية. والذريعة الجاهزة لتبرير هذا الابتعاد عن منهج القرآن وهدي النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح هو متطلبات العصر الحديث.

ليس هناك مانع بالطبع من استخدام الدعاة وسائل العصر الحديث لإدخال الناس في دين الله الحق، واستخدام جميع الوسائل المساعدة من قصص وضرب أمثال و…. لتحبيب عباد الله بالله ودينه، وليس هناك أي اعتراض على مخاطبة الكثير من المراكز الإسلامية في الدول الغربية للعقل الأوروبي، والتركيز على الإعجاز العلمي للقرآن الكريم، والتأكيد على عدم وجود أي تعارض بين العقل والنقل في دين الله الإسلام، ولكن….

تبقى تلاوة القرآن الكريم على المدعوين غضا طريا كما أنزل أفضل الطرق للتأثير بهم نفسيا وسلوكيا، وأسرع الوسائل لفتح مغاليق قلوبهم، والانتقال بها من سحيق التعلق بزخرف الحياة الدنيا وزينتها إلى قمة السمو الروحي والتعلق بما عند الله في الدار الآخرة.

يقول محمد فريد وجدي: إن في القرآن طاقة روحية هائلة ذات تأثير بالغ الشأن في نفس الإنسان، فهو يهز وجدانه، ويرهف أحاسيسه ومشاعره، ويصقل روحه، ويوقظ إدراكه وتفكيره…. دائرة معارف القرن العشرين 7/679

ويقول صاحب كتاب التعبير القرآني والدلالة النفسية: “….فالقرآن له سلطان الجلال والمهابة، يستولي على قلوب المخاطبين استيلاء كالقهر وما هو بالقهر، له فعل في القلوب كالسحر وما هو بالسحر، لا يختص ذلك بالأنصار دون الخصوم، ولا بمحالفيه دون مخالفيه، بل يغزو القلب من حيث لا يمكن لصاحبه رد، ويؤثر فيه من حيث لا يمكن دفع، أثر في الأعداء كما أثر في الأتباع”. ص128 لــ عبد الله الجيوسي.

وكيف لا تكون لتلاوة القرآن الكريم ذلك الأثر الكبير في نفوس المدعوين، وتلك التجليات الروحية في أفئدتهم، وهي الطريقة التي أمر الله تعالى خاتم رسله وأنبيائه باتباعها في دعوته للمشركين فقال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} (التوبة: 6)؛ بل أمر الله تعالى رسوله الخاتم أن يقرأ القرآن على الناس أجمعين فقال تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} (الإسراء: 106).

لقد التزم الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم بتلك الأوامر الإلهية، فجعل من تلاوة كلام الله على المشركين والناس أجمعين وسيلته الأولى في دعوة الخلق إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة سبحانه، وطريقته المفضلة لاختراق الأفئدة المغلقة بنور الوحي الإلهي، والتأثير على القلوب الميتة بوابل قطرات آيات الذكر الحكيم، فكانت النتائج عظيمة ومبهرة.

نماذج من الدعوة بالقرآن

لا يمكن استعراض جميع الأمثلة النبوية التي تؤكد الحقيقة السابقة، فهي من الكثرة بمكان، ويكفي الإشارة لبعضها في هذا المقام، ولعل أشهرها وأبرزها قصة اكتفاء النبي صلى الله عليه وسلم بتلاوة القرآن الكريم كرد على ما جاء يعرضه عليه أحد أبرز مشركي قريش عتبة بن ربيعة ليتخلى عن رسالة ربه، تلك التلاوة التي كانت من شدة أثرها العظيم على عتبة – وغيره من المشركين عموما – أبلغ من أي أسلوب دعوي آخر، وكيف لا وقد جعلت عتبة يعود إلى قومه بعد التلاوة بغير الوجه الذي ذهب به، بل ويسجد مع النبي صلى الله عليه وسلم في موضع السجود كما ورد في بعض روايات الحديث.

تقول الرواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عتبة – بعد أن سمع منه ما جاء يعرضه عليه من عروض بكل هدوء وإنصات – (أفرغت يا أبا الوليد)؟ قال: نعم. قال: (فاسمع مني) قال: أفعل. فقرأ صلى الله عليه وسلم من بداية سورة فصلت: {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} ثم مضى رسول الله فيها فلما سمعها عتبة أنصت له وألقى بيده خلف ظهره معتمدا عليها يسمع منه حتى انتهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – للسجدة فسجد فيها ثم قال: (قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك).

لقد كان تأثير الدعوة بتلاوة القرآن الكريم على عتبة عظيما إلى درجة أنه فاجأ أصحابه من المشركين بما عاد به من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي ذهب لإقناعه بالتخلي عن دعوته !! إذ قال لهم جوابا على سؤالهم: ما وراءك يا أبا الوليد ؟! فقال ورائي أنى والله قد سمعت قولا ما سمعت بمثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش: أطيعوني واجعلوها فيّ، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه فوالله ليكونن لقوله الذى سمعت نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر في العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به. (الجامع للسيوطي برقم/44635،  والسيرة النبوية لابن هشام 1/315).

لا يمكن لأحد أن يجادل في حقيقة تميز تأثير تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمشركين والناس أجمعين عما سواه من التالين، إلا أن ذلك لا يعني بحال ترك الدعوة بتلاوة القرآن بدعوى أنها لا يمكن أن تكون كتلاوة خاتم الأنبياء والمرسلين !!

فها هو تلميذ المدرسة النبوية وسفير دعوة الإسلام إلى المدينة المنورة مصعب بن عمير رضي الله عنه يتأسى بفعل النبي صلى الله عليه وسلم ويقتدي به في أسلوب دعوته إلى الله من خلال تلاوته لآيات من الذكر الحكيم على المدعوين، وتكون النتيجة فتحا مبينا ودخول كثير من أهل المدينة في الإسلام على يدي مصعب رضي الله عنه، وعلى رأسهم سيد الأوس والخزرج أسيد بن حضير و سعد بن معاذ رضي الله عنهما.

لم يزد مصعب بن عمير على تلاوة كلام الله تعالى على كل من أسيد بن حضير وسعد بن معاذ، حتى قالا تباعا بعد سماع شيء من القرآن الكريم: ما أحسن هذا وأجمله !! وكيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الدين؟ قال مصعب: تغتسل وتطهر ثيابك وتشهد شهادة الحق وتصلي ركعتين، ففعلا.

سيبقى أسلوب الدعوة بتلاوة القرآن الأصل في دعوة الناس إلى دين الله تعالى في كل زمان ومكان، ما دام هناك مؤمنون به وبمدى فاعليته وتأثيره في النفوس والقلوب والعقول، ويتلونه على المدعوين حق تلاوته بنية خالصة وقلب خاشع وعقل حاضر.

والحقيقة أن نماذج الدعاة الذين أثروا في الكثير من الناس في العصر الحديث بمجرد تلاوتهم للقرآن أكثر من أن تحصى، ولعلي أكتفي هنا بذكر نموذج عاصرته وعاينت تأثير تلاوته في الكثير من المخاطبين والمدعوين.

لم يكن يملك صوتا شديد النداوة حتى يقال إن جمال صوته هو ما جلب الناس من كثير من أحياء دمشق إلى المسجد الذي يؤم الناس فيه بصلاة التراويح في رمضان، ولكنه كان يملك تفاعلا وحضورا أثناء تلاوته للقرآن جذبت إلى مسجده الكثير ممن لم يكن يصلي التراويح من قبل، وهي لعمري دعوة إلى الله أبلغ من كثير من الكلمات والمحاضرات والمواعظ والخطب.

——

* المصدر: موقع المسلم.

مواضيع ذات صلة