خالد روشه
الدعوة إلى الله عمل يستضيء بنور الوحي، ويستقي خطواته من سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، ويبني بنيانه على قواعد رئيسة ثابتة راسخة لا تتزحزح، أولها وأهمها الإخلاص لله سبحانه ..
والأصل في كل عمل أيا كان تخليص النية لله سبحانه فيه، وتصفيته من كدرات الرياء والشرك، فيخرج العمل صادقا طاهرا نقيا بلا شائبة .. قال سبحانه { وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ} (البينة: 5).
ولنا في الحديث عن الإخلاص في الدعوة إلى الله وقفات :
أولا- الدعاة إلى الله سبحانه لا يطلبون الأجر على أعمالهم على خلاف طلاب الدنيا فهم يسألون المقابل عن كل عمل يقومون به؛ لذلك كان كل نبي يقول لقومه {لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} (هود: 51) .. ويعرفهم أنما أجره من الله سبحانه {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي}.
ثانيا- الداعية يبتغي بعمله وجه الله وحده سبحانه، ويطلب رضاه، ولا يرتجي بدعوته مكانة عند الناس ولا منزلة ولا درجة، كما لا يطلب سمعة ولا شهرة، ولا يشتري بدعوته عرضا من الدنيا أيا كان، وإذا كان صاحب الدعوة مسئولاً في جماعة أو قائداً في ركب فإن الخطب يكون أعظم وأبلغ أثراً فيما إذا لم يتجرد من حظ النفس ولم يخلص النية لله تعالى.
ثالثا- علمنا من سنن الله الكونية أن الذين يرتجون الشهرة ويسعون وراء رؤية الناس دوما لا تصل دعوتهم لقلوب الناس، ولا تؤثر فيهم كلماتهم ولا أعمالهم، بل إن محبة الله تنقطع عنهم، وتكون عاقبتهم خسرا، سواء عرف ذلك الناس أم لم يعرفوا، وربما أخفى الله سبحانه أحوال هؤلاء المرائين حفظا لدينه ورعاية لرسالته، لكنه سبحانه يحاسبهم بما يستحقون على أية حال سواء في الدنيا أو في الآخرة.
يقول ابن عثيمين -رحمه الله-: “والدعوة النابعة عن إخلاص مع القوة والعزيمة والاعتماد على الله لا بد أن تؤثر وتعمل عملها.. ألا ترى إلى قصة موسى حين حُشد الناس له ضحى يوم زينتهم، وجمع له فرعون كيده، ثم أتى بأبهته وعزته وكبريائه {قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} (طـه: 61) فماذا فعلت هذه الكلمة؟ لقد فرقت كلمتهم وشتتت شملهم في الحال {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} (طـه: 62)، والتنازع أكبر أسباب الفشل”.
ويقول أيضا: “كلام الأولين قليل كثير البركة، وكلام المتأخرين كثير قليل البركة “.
كان محمد بن واسع يجلس قريبًا من أحد الوعاظ وهو يعظ الناس ويقول: “مالي أرى القلوب لا تخشع، والعيون لا تدمع، والجلود لا تقشعر؟”، فقال له محمد بن واسع: “ما أرى القوم أُتوا إلا من قِبَلك، إن الذكر إذا خرج من القلب وقع في القلب “.
رابعا- سبيل الدعاة طويل ممتد، ووعر غير ممهد، وشاق غير يسير، والداعية فيه يحتاج إلى ما يقيم عوده ويقويه على عناء ذلك السبيل، ولن يجد الداعية ذلك إلا في الإخلاص لله تعالى؛ إذ الإخلاص يهون على المرء المصاعب والمتاعب والآلام، وكلما تذكر الداعية أن عمله إنما هو خالص لربه صبر وثبت واستمر
خامسا- والداعية دوما يحتاج قوة قلب وثبات جنان، مع راحة نفسية وطمأنينة الداخل وسكينة الأركان، فيصير هادئا غير أرعن، ثابتا غير متردد، مرتاح الضمير، رابط الجأش أثناء المواقف، وكل ذلك مبدؤه الإخلاص ومنتهاه، فالإخلاص يهدئ النفس إذ يجعل المرء يتصالح مع نفسه، فهو في ظاهره كباطنه، وهو يرتجي شيئا علويا سامقا عظيما، فيجتنب بذلك أمراض الفصام الشخصي الذي يصيب كثيرا من غير المخلصين ويحفظهم من الخواء الداخلي الذي يسقط المرء في حمأة الشهوة والشبهة
سادسا- قد انتشر بين الدعاة في هذه العصور أمراض الشهرة، إذ انتشرت الفضائيات وبرامجها، ومواقع التواصل الاجتماعي وحساباتها، وصار البعض يسعى للإكثار من هذا وذاك رغبة في الاشتهار، وأن تشير إليه الأصابع، وتلتفت إليه الأعناق، وصار البعض يتنافسون على كثرة عدد المتابعين أو الأصدقاء في مواقع التواصل، ولا حل لتلك الأزمة إلا بإيقاظ إخلاص النفوس، يقول الغزالي رحمه الله: “إن الداعية المرائي يقترف جريمة مزدوجة؛ إنه في جبين الدين سُبة متنقلة وآفة جائحة،، وتقهقُرُ الأديان في حلبة الحياة يرجع إلى مسالك هؤلاء الأدعياء، وقد رويت آثار كثيرة تفضح سيرتهم وتكشف عقباهم، والذي يحصي ما أصاب قضايا الإيمان من انتكاسات على أيدي أدعياء التدين لا يستكثر ما أعد لهم في الآخرة من ويل.. والعمل الخالص الطيب -ولا يقبل الله إلا طيبا- هو الذي يقوم به صاحبه بدوافع اليقين المحض وابتغاء وجه الله، دون اكتراث برضا أو سخط، ودون تحرٍّ لإجابة رغبة أو كبح رغبة”.
سابعا- أكثر ما يمكن أن يعين الإنسان على الإخلاص لله سبحانه كثرة ذكره عز وجل، ففي ذكره تذكير دائم بعظمة ربه سبحانه، وتنبيه مستمر لوجوب الإخلاص، وتصغير من شأن المخلوقين مع تعظيم شأن الخالق، كما أنه لا يقدر على استدامة الذكر إلا المخلصون، فلئن شعر الداعية بصعوبة قدرته على الذكر أو مشقة ذلك عليه فليراجع نفسه فإن في إخلاصه شيئا.
ثامنا- لا يمكن أن يجتمع الإخلاص مع الانخراط في ملذات الحياة والتمرغ في نعيمها، وجعلها نصب عيني الداعية؛ فحري بهؤلاء الدعاة الذين يتصارعون على الدنيا أن يبحثوا عن الإخلاص، ولن يجدوه إلا قريبا من زهد القلب فيها، ولا يزهد القلب فيها إلا مع إخلاصه لمولاه، فكان الزهد والإخلاص صنوان وقرينان متتابعان، فمن فهم تلك العبارة فقد وفق .
تاسعا- إذا أراد الداعية إلى الله أن يقيم عمله ويختبر سبيله فليمحص إخلاصه، وليبحث في بواعث أعماله ودوافعها الحقيقية -وهو أعلم بنفسه-، فإن وجد دافعها شكر الناس ورغبة مدحهم له، وزيادة شهرته بينهم، فليقصر عن تلك الأعمال فهي بوار خاسر وهدم زائل، ومهما لقي من شكر الناس ومديحهم، مادام قد علم من نفسه سوء الباعث وخبث النية فهي ضده لا له {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} (الفرقان: 23)..{وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ}.. فليتعظ الدعاة إلى الله بهذا، وليقم كل منا عمله، وليتابع كل أحد سبيله، فلا خير إلا في الإخلاص فيه .
عاشرا- علامة الإخلاص أن تكون تصرفات الداعية منبثقة من شعوره برقابة الله عز وجل عليه وحده، ومتناسبة مع التكاليف الشرعية، وهذا دليل على تجريد القلب من الخضوع لأي قوة من قوى الأرض، وإخلاص هذا الخضوع لله تعالى وحده، فإذا تنازع قلبَه الخضوعُ لله تعالى في بعض السلوك والخضوع لقوى الأرض في أنواع أخرى من السلوك؛ فإن هذا دليل على عدم إخلاصه لله تعالى.
كذلك من علامته العزوف عن حب الرئاسة وعدم الإقدام على طلبها؛ ولذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سؤال الإمارة كما جاء في صحيح الإمام البخاري من حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: “يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أُعطيتها عن مسألة وُكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أُعنت عليها”.
فمن استشرف للإمارة من أجل حب الظهور والرئاسة فإنه في الواقع لم يتجرد بعدُ من حظ النفس، قال صلى الله عليه وسلم “إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة؛ فنعم المرضعة وبئست الفاطمة” (أخرجه الإمام البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه).
المصدر: موقع المسلم.