د. رمضان فوزي بديني
الانفصام هو أحد الأدواء التي يعاني منها بعض الدعاة في حياتهم، وهذا جرس إنذار لمن يعاني من هذا الداء أو من بعض مظاهره.
فالدعوة إلى الله عز وجل فضل عظيم وشرف رفيع لا يؤتاه إلا من أراد الله به الخير واصطفاه ليكون وريثا للأنبياء في الأرض.
فيكفي الدعاة منزلة ورفعة أنهم سبب خيرية هذه الأمة {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ}.
ويكفيهم فوزا وعزا أنهم هم المفلحون والسعداء {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
ويكفيهم شرفا وفخرا أن قولهم هو أحسن الأقوال وأفضلها {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}.
ويكفيهم فضلا وأجرا بشراهم برحمة الله تعالى {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
ويكفيهم نسبا وشرفا أنهم على خطى الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم- سائرون {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا}.
فالدعوة اصطفاء، والنجاح فيها توفيق من الله تعالى؛ فهو عز وجل يصطفي من عباده من يشاء، وهو سبحانه أعلم حيث يجعل رسالته.
استحقاقات وواجبات
وهذا الأمانة لها مفاخرها العظيمة التي يشرف بها السالكون طريقها. ولكن هذه الفضائل والمفاخر لها تبعات تقابلها؛ فإذا كان الدعاة إلى الله قد ارتضوا هذا الطريق فليعلموا أن عليهم استحقاقات وواجبات، لا بد من مراعاتها حتى يكونوا نموذجا للداعية المجمِّع للناس المحبب في الدين، بدلا من أن يكونوا سببا في تنفير الناس وبعدهم من الدين؛ ذلك أن الداعية بمجرد تسربله بسربال الدعوة يتم وضعه تحت منظار مكبر من قبل الناس، يجعل القذى الذي يصيبه جزعا في عين ناظره.
ولقد نعى الله تعالى على بني إسرائيل أن يأمروا الناس بالبر وينسوا أنفسهم، ووصف من يفعل هذا بعدم العقل كما قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}، وجعل أيضا من المقت الكبير عند الله أن يقول المرء ما لا يفعل فقال عز من قائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ}.
وفي أمثال هؤلاء قال المصطفى -صلوات الله عليه-: “لأعلمنَّ أقواما من أُمّتي يأتون يوم القيامة بحسناتٍ أمثال جبال تهامة بيضا، فيجعلها الله عزَّ وجلَّ هباءً منثورا”، قال ثوبان -راوي الحديث-: يا رسول الله، صفهم لنا، جَلِّهم لنا، أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم، قال: “أما إنَّهم إخوانكم ومن جِلْدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنَّهم أقوامٌ إذا خَلَوا بمحارم الله انتهكوها” (رواه ابن ماجه بسندٍ صحيح).
ووضح –صلى الله عليه وسلم- الصورة الذليلة التي يظهر عليها يوم القيامة من يخالف فعله قوله؛ حيث يقول –صلى الله عليه وسلم-: ”يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ؛ فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلانُ مَا شَأْنُكَ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنْ الْمُنْكَرِ؟ قَالَ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ” (أخرجه البخاري في صحيحه، من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه).
ولله در القائل:
لا تنْهَ عن خلقٍ وتأتيَ مثلَه *** عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ.
ليسوا ملائكة
ولكن هل يعني هذا أن المطلوب من الدعاة أن يكونوا ملائكة يمشون على الأرض، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون؟!
لا يمكن أن يقول بهذا أحد؛ فالدعاة بشر، ولأنهم بشر فإنهم معرضون للخطأ والعصيان؛ فمن سنن الإسلام التي تميز بها عن غيره من الديانات أنه دين الواقعية؛ فهو لا يخلع على أحد ألقابا كهنوتية، ولا يطلب من أحد -مهما علا شأنه في الدعوة والعلم- أن يتجرد من بشريته التي تقتضي الخطأ والصواب، والعصيان والطاعة.
لكن المطلوب أن يأتمر الداعية بما يأمر به الناس، وينتهي عما ينهاهم عنه؛ حتى إذا بدر منه خطأ أو ارتكب إثما بحكم بشريته فعليه أن يسارع بالاستغفار والإقلاع عنه، حتى لا يُستغل هذا الموقف ضد الدعوة والدين متمثلا في شخصه هو. فالداعية هو حارس حدود الله في الأرض، فإذا انتهك هو حدًّا من هذه الحدود فإن ذلك يكون مدعاة للآخرين للتجرؤ على هذه الحدود.
أما إذا رأى الناس من الداعية ما ينكرون وما لا يستسيغون أو ما يرونه هم خطأ فعليهم أن يضعوا الأمر في حجمه الطبيعي، دون تهويل أو تضخيم. وليعلموا أنه ليس هناك معصوم بعد الحبيب محمد –صلى الله عليه وسلم-، وأن كل بشر معرض للخطأ والزلل حتى يبقى الكمال المطلق لله تعالى، ويبقى الكمال البشري للمعصوم -صلى الله عليه وسلم-. وبهذا يكون خطأ الداعية هنا تحقيقا لسنة الله في الأرض وإمضاء لنواميسه في خلقه. ولا يمنعنَّهم خطأ الداعية من الأخذ بأقواله؛ فليأخذوا ما يرونه مفيدا ويدَعوا حاله لربه، مع النصح له؛ فهو داعية في موقف ومدعو في موقف آخر، ولا ضير في ذلك؛ بل هذا من باب التواصي بالحق والخير الذي يقتضي المشاركة من الجميع.
مجالات الانفصام
اصطلحنا هنا على استعارة مصطلح الانفصام من علماء النفس للتعبير عن هذه الظواهر التي تعد اضطرابًا في تفكير وسلوك الداعية؛ وهو ما يكون لها آثارها السلبية على تأثيره الدعوي، فضلا عما قد يعاقب به أما ربه يوم القيامة، إن لم يتب الله عليه.
ومجالات الانفصام الدعوي يمكن تلمس مظاهرها في عدد من المجالات التي تعد هي دوائر علاقات الداعية ومجالات عمله، وهي على النحو التالي:
– الانفصام مع النفس.
– الانفصام مع الدعوة.
– الانفصام مع العائلة.
– الانفصام مع المجتمع.
وفي هذه السلسلة سنفرد الحديث عن كل مجال من هذه المجالات في حلقة مستقلة؛ لنتعرف على مظاهر الانفصام في كل منها، ونحاول تلمس أسباب العلاج فيه.
نسأل الله تعالى أن يجعل سرنا خيرًا من علانيتنا، وباطننا خيرًا من ظاهرنا، وأن يرزقنا الإخلاص والقبول.