د. خالد فهمى
في ظل التعرض المستمر لمقام النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فإن أولى علامات الانتصار له هي فحص جوانب عظمته الباقية على الزمان. وفحص خصائص بيانه أمر مهم جدا دعويا وإنسانيا وحضاريا.
مدخل
من الثابت الوارد في حق اللسان النبوي الكريم أنه أوتي جوامع الكلم، وهو بعض المفهوم من منطوق الحديث الصحيح الذى يروى فيه أبو موسى الأشعري رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: “أعطيتُ فواتحَ الكلمِ وجوامعَهُ وخواتمَهُ” (رواه أحمد وصححه الشيخ شاكر والألباني).
صحيح أن الحديث مروي في باب مناقب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وصحيح أنه مثار ثناء وارتقاء، لكنه مع ذلك شيء ينبغي أن يتأمل في سياق عظمة الرسالة التي جاء بها، وهي الرسالة التي ترى البيان شرطا تأسيسيا لمعنى النبوة ووظائفها، وهو بعض المفهوم من المنة الإلهية الكريمة في مفتتح سورة الرحمن في (علمه البيان) وهو بعض المفهوم الذى توصل إليه سادتنا الأصوليون عندما قرروا أن التفهيم أصل تنبني عليه الشريعة، على ما قرر – مثلا – الإمام الشاطبي في الموافقات.
على أن المهم جدا في هذا السياق أن نرى هذا الحديث يمثل ظاهرة جديرة بالدرس والتأمل؛ وأعني بذلك أن علماء السيرة -ومن ظاهرهم من علماء الحديث تعيينا- اعتنوا ببحث هذه الظاهرة وهو بعض ما يتجلى في الأبواب الكبيرة التي وردت في كثير من المصنفات التراثية حول كلامه صلى الله عليه وسلم، وهو ما تجد أمثلة عليه في:
- الشمائل، للإمام الترمذي المتوفي 279هـ.
- جمع الوسائل في شرح الشمائل، للإمام القاري المتوفي 1014هـ.
- شرح الشمائل، للإمام المناوي المصري المتوفى 1031هـ.
وهذا الكتاب بشرحيه مثال واحد لما أخبرتك عنه من العناية الموصولة في سلف الأمة وخلفها بهذا الباب المهم من أبواب نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ وإلا فإن ثمة تاريخا ممتدا يعيي الجامعين – من الأدبيات الواصفة والشاهدة لبيانه صلى الله عليه وسلم.
خصائص البيان النبوي من المرويات الواصفة له
ومن تأمل المرويات الحديثية حول منطقه وكلامه يقف على عدد مهم من الخصائص المائزة والفارقة في آن معا تتعاطى مع مسألة بيانه التي يجب أن ترعى خلال كونها مسألة تأسيسية في أمر النبوة وتكوينها، وهذه الخصائص التي نطقت بها المرويات الحديثية مجملة فيما يلى:
- إيثار الوضوح والبيان: وهو الأمر الذى تجده ظاهرا مستعلنا في حديث أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها أنها قالت: ”ما كان رسول الله يسرد سردكم، أو كسردكم، و لكنه يتكلم بكلام بيِّن”، وفي شرحه يبين القاري أنه لم يكن يعجل في كلامه، ولا تتابع في كلامه بحيث يلتبس على السامع، بل كان يفصل كلامه ويتكلم بكلام واضح مفهوم غاية الوضوح.
وهذه السمة تبدو مفهومة ومقبولة في إطار كونه صلى الله عليه وسلم مأمورا بالبلاغ للناس، وليس ثمة تكليف بدون إيضاح وإفهام وتبيين، وفي ذلك من الشفقة والرحمة بالخلق الأمر الظاهر الجلي.
- الكلام عند الحاجة: ومما ورد في وصف منطقه صلى الله عليه وسلم ما رواه هند بن أبي هالة أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتكلم في غير حاجة؛ أي من غير ضرورة دينية أو دنيوية؛ وهو أمر مفهوم في إطار قضية التحرز والتوخي من الكلام بلا فائدة حسية أو معنوية، والمفهوم هو التطبيق العملي لقول الله تعالى: {والذين هم عن اللغو معرضون}.
وهذا الذى نذكره هنا مستنبطا من حديث ابن أبى هالة استقر قانونا ملهما في أيدى البلاغيين القدامى، وعلماء علم لغة النص المعاصرين يعين على تفهم الخطاب، وهو المعروف بمبدأ تحكيم المقام، وهو بعض المفهوم من قول الحديث إنه لم يكن يتكلم من غير حاجة، فالحاجة، أو الضرورة أيا ما كان نوعها تجعل للكلام الصادر بشأنها قيمة ووجاهة، وتجعل ارتباط المتلقين له بمرسله ارتباطا ذا خصائص نوعية مؤثرة.
- إحاطة الكلام افتتاحا واختتاما بذكر الله تعالى: وقد نص العلماء في معرض بيان خصائصه صلى الله عليه وسلم في الكلام أنه كان يفتتح الكلام ويختمه أو يختتمه بذكر الله تعالى، والمعنى أن كلامه عليه السلام كان محفوفا بذكر الله، ومستعانا بالله، ويستفاد من هذه السمة تعليم الأمة استيعاب الزمان بذكر الوقتين ابتداءً وانتهاءً لتحقيق البركة حالا وقالا.
- التكلم بجوامع الكلم: وهذه سمة من متواتر ما استقر عند أهل العلم وصفا لمنطقه صلى الله عليه وسلم، وهى تعنى انطلاقه فيه واحتكامه إلى القرآن في كلامه، وهو من هذه الناحية أعلى نموذج ذاب القرآن الكريم في جنانه وتجلى على لسانه.
صحيح أن هذه السمة مسوقة سوق المدح في شأن حديثه صلوات الله وسلامه عليه، لكن ذلك ليس كل ما في المسألة بل هي عاكسة لأمر مهم جدا أشار إليه القاري في شرحه لشمائل الترمذي عندما قرر أن واحدا من معاني هذه السمة جمعه بين فعل القرآن وقوله في سلوكه صلى الله عليه وسلم.
أضف إلى ذلك أن هذه السمة تعكس مسألة مهمة جدا متعلقة بمستوى بديع من القدرة العقلية، والاتزان الانفعالي تجلى في التكلم بألفاظ يسيرة متضمنة لمعان كثيرة، وهو أمر جاء في حق موضعه؛ إذ قد ثبت له من قبل بعثته هذه الرجاحة التي كان الكلام مجلى ظهورها، ومسرح تجلياتها، ولأمر ما قالوا قديما: “المرء مخبوء تحت لسانه؛ فإذا تكلم ظهر”، وفي هذا السياق يمكن أن يقف المرء طويلا أمام النصوص العوالي النفسية التالية:
“المحتكر ملعون” (المستدرك للحاكم )… “الندم توبة” ( مسند أحمد )… “الصوم جنة” (سنن النسائي)… “المستش ر مؤتمن”(صحيح مسلم)… “الصبر رضا” (تاريخ ابن عساكر).
ففي هذه النصوص دليل واضح على هذه السمة، ودليل واضح على ما يندرج تحتها من علم وافر، لا فضول فيه ولا تقصير، بحيث لا يمكن استشعار نقصان أو زيادة فيه.
جوامع الكلم الموصوف بها حديثه صلى الله عليه وسلم نصوص مكتنزة بالحكمة، ترمي نحو الفصل بين الحق والباطل، ومن ثم كان كلامه صلى الله عليه وسلم فصلا، متناسقا.
- استثمار اللسان وغير اللسان في منطقه صلى الله عليه وسلم:
ومما اتسم به حديثه صلى الله عليه و سلم أنه كان حريصا على استثمار اللغة؛ أي الألفاظ بجوار أعضاء جسمه الشريف في عملية التواصل مع الآخرين، في بر بالغ ظاهر من وصفه بأنه لم يكن جافيا ولا غليظا قولا وفعلا؛ وفي هذا السياق يرصد شراح المرويات حول صفة كلامه ما يلى:
- أنه إذا أشار إلى أحد أشار إليه بيده، أو بكفه كلها؛ فرارا من احتمال مظنة التكبر والتجبر.
- وأنه إذا تعجب قلب كفه من الهيئة التي كانت عليها حال التعجب.
- وأنه يصل إشارته بكلامه في المسألة التي يستعمل الإشارة فيها.
- وأنه إذا غضب أعرض وأشاح: إما عدولا عما يقتضيه الغضب، أو أظهره التماسا لفهم الآخرين.
- وأنه إذا فرح غض طرفه، تواضعا، وظهرت الوضاءة على وجهه.
وفي هذا السياق يمكن صنع معجم لإشاراته صلى الله عليه وسلم يكون هاديا لتحصيل المراد منها في سياقاتها المختلفة؛ توصلا إلى دراسة أساليب الاتصال غير اللفظي عنده وغاياته، وآثاره في إيضاح المعاني، والتأثير في المخاطبين والمستمعين.
كانت هذه الخمسة خصائص هي ما دار حولها مرويات وصف حديثه ومنطقه في أدبيات السيرة النبوية المطهرة قديما في هذا الباب المهم.
—-
المصدر: إسلام ويب.