د. عبد الله بن إبراهيم اللحيدان
يتفاوت الناسُ في تبليغ الدعوة إلى الله – تعالى – تفاوتًا كبيرًا، وتختلف فيه ألفاظُهم وفهومهم، وأعمالهم ووسائلهم وأساليبهم، ويختلف تبعًا لذلك
تأثيرُهم، وأكملهم في ذلك مَن كان مستنًّا في دعوته بهدي النبي –صلى الله عليه وسلم– فهو أكملُ مَن دعا إلى الله – تعالى – بأحسن طريقة، ومن ابتغى الدعوةَ بغير طريقة النبي – صلى الله عليه وسلم – فلن يجدَ لدعوته قَبولاً صحيحًا، ولقد بلَّغ – عليه الصلاة والسلام – البلاغَ المبين، وهدى الناس من بعده إلى أحسن الطرق وأكملها، وأنفعها في الدعوة إلى الله، ومن واجب الدعاة في كل زمان ومكان أن يأخذوا بحظٍّ وافر من طريقة النبي – صلى الله عليه وسلم – في دعوته، وكُتُبُ السنة المطهرة وشروحها تَزخَر بذلك، وقد كان لقسم الدعوة والاحتساب بجامعة الإمام اهتمامٌ بهذا الأمر، فأخرج القسم فقه الدعوة في “صحيح البخاري” كاملاً عبرَ رسائل علمية.
إنَّ الداعية لا يستغني بحال عن زاده من الكتاب والسنة، ولن يجد الداعية أشفى ولا أوفى ولا أكفى له من سِيرة النبي – صلى الله عليه وسلم – وهدْيه في الدعوة، ولعلي أورد مثالاً في الأسلوب النبوي في التصوير الحسي لمضمون الدعوة؛ إذ يتضمَّن هذا التصوير القدرةَ الفائقة على إيصال الدعوة إلى المدعو بالصَّوْت والصورة، فلا يكفي أن يبلِّغ الداعي بصوته؛ بل لا بد أن يكون قادرًا على تصوير الألفاظ والمعاني لتستقرَّ في أذهان المدعوين ويتأثروا بها، فالداعيةُ المتمكِّن هو الذي يستطيع أن ينقل المدعوين إلى ما يريد من خلال التصوير الحسي.
جاء في “صحيح مسلم” أن حنظلة بن الربيع – رضي الله عنه – وهو أحد كُتَّاب النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: لقينى أبو بكرٍ، فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قلت: نافَقَ حنظلةُ، قال: سبحان الله! ما تقول؟! قال: قلت: نكون عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يذكِّرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عينٍ، فإذا خرجنا من عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عافسنا الأزواجَ والأولاد والضيعاتِ، ونسينا كثيرًا، قال أبو بكرٍ – رضي الله عنه -: فوالله إنا لنلقَى مثلَ هذا.
فانطلقتُ أنا وأبو بكرٍ حتى دخلْنا على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((وما ذاك؟))، قلت: يا رسول الله، نكون عندك تذكِّرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي العينٍ، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، ونسينا كثيرًا، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفسي بيده إنْ لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذِّكر، لصافحتْكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة، ساعةً وساعةً)).
وشاهد الحديث هنا قول حنظلةَ عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: يذكِّرنا بالجنة والنار كأنا رأي العين، وتلك أعظم درجات التصوير، وأوفى مقامات التبليغ، فقد بلَّغ رسالته بلاغًا عظيمًا لا عذر لأحد من بعده، ومن الواجب على الدعاة أن ينهلوا من مَعين طريقته، لا سيما عند الحديث عن الغيبيات واليوم الآخر، وإن على الداعية أن ينقل المدعو إلى عالم الغيب نقلاً صحيحًا يتقلَّب فيه يقينًا وتصديقًا، وفي هذا أعظمُ الفوائد للمدعو.
قال ابن حجر: الإعلام بجزئيات يوم القيامة؛ ليكون السامع على بصيرة، فيخلص نفسه من ذلك الهول؛ لأن في معرفة جزئيات الشيء قبل وقوعه رياضةً للنفس، وحملها على ما فيه خلاصها، بخلاف الأمر بغتة.
والدعوة في العصر الحاضر أحوجُ ما تكون إلى دعاة يصِلُون بالمدعوين إلى أقصى درجات التأثُّر، فليست الدعوة كلماتٍ يحفظها المرء، ثم يلقيها من دون مؤثرات، وليست الدعوة قراءةً مجردة من التفاعل بين الداعي والمدعو، وحق على كل داعية أن يصبر على إعراض المدعوين عنه عندما يدْعوهم، ولكن عليه أن يبحث دائمًا عن الأسباب التي تُعين على قَبول الناس لدعوته، ومن أهمها قدرتُه على تصوير دعوته تصويرًا صحيحًا.
ولقد تهيأ للدعاة في هذا العصر من الوسائل ما ينبغي أن يفيدوا منه في ضوء ضوابط الشرع المطهَّر، مقتفين بذلك هديَ النبي – صلى الله عليه وسلم – الذي كان يستخدم الوسائل المُعينة على تقريب المعاني في الأذهان، مثل قوله – صلى الله عليه وسلم -: ((أنا وكافل اليتيم في الجَنَّة هكذا – وأشار بالسبَّابة والوسطى)).
قال ابن علاَّن: أشار بإصبعه لزيادة التبيُّن، وإدخال المعاني في ذِهْن السامع؛ لكونها بصورة المحسوس المدركة عادة.
وقد كان الصحابة – رضي الله عنهم – ومَن تبعهم بإحسان ينهجون في دعوتهم نهجَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم.
قال سفيان بن عمرو: كنت إذا سمعت عكرمة مولى ابن عباس – رضي الله عنه – يحدِّث عن المغازي كأنَّه مشرف عليها، فينظر كيف يصنعون ويقتتلون.
إنَّ الداعية يسيء إلى دعوته عندما يَعرِضها على الناس عرْضًا ضعيفًا باهتًا من دون مؤثِّرات، وفي دعوة غير المسلمين خصوصًا تشتد الحاجة إلى عرض الدعوة بأبهى حُللها، وأجمل صورها، فيبالغ الداعية في تقريب الإسلام، لا بالألفاظ المجرَّدة؛ بل بالمعاني والصور التي تسهم في إقناع المدعو وتأثُّره، لا سيَّما أنَّه يغلب على كثير من غير المسلمين اليوم النظرةُ المادية المجرَّدة للكون والحياة.
وجدير بالذِّكر هنا أنَّ التصوير الحسي يشمل معظمَ موضوعات الدعوة، وهو يرتبط كثيرًا بيقين الداعية، وحظه من العلم النافع والعمل الصالح.
إنَّ براعة الداعية في التصوير للمسائل والمشاهد والحقائق الغيبيَّة يخدم الدعوة كثيرًا، ويوصلها إلى درجة عالية من الإقناع والتأثير، وقدرٌ من ذلك مَلَكة يهبها الله – تعالى – لِمَن يشاء، وهي أيضًا تدرك بالعلم والتجرِبة والتدريب، وإدراك أهميتها وحاجة الدعوة إليها.
——-
– المصدر: موقع الألوكة.