إسلام ويب
علاقة الداعية بدعوته هي الأصل في رسم وتشكيل طريقة خدمته لهذه الدعوة، وأسلوب عمله لها، ومقدار تأثيره في غيره لإيصالها إليهم، وكلما كانت الدعوة هما لصاحبها، تخالط مشاعره، وتختلط بدمائه، وتسري في عروقه، وتملأ عليه حياته، كلما كان أصدق وأقدر على التأثير ومداومة العمل.
يقول الشيخ الغزالي رحمه الله: “والرجل صاحب الرسالة يعيش لفكرته ويعيش في فكرته، فحياته فكرة مجسمة تتحرك بين الناس، تحاول أبداً أن تفرض على الدنيا نفسها، وأن تغرس في حاضر الإنسانية جذرها ليمتد على مر الأيام والليالي فروعاً متشابكة تظلل المستقبل وتتغلغل فيه، ومن ثم تبدأ الدعوات والنهضات الكبرى برجل واحد، هو في بداية أمره أمة وحده، أمة يتخيل حقيقتها في رأسه، ويحس ضرورتها في دمه، ويبشر بها في كلامه، ويحمل أثقالها على كاهله”.
ويقول البهي الخولي في كتابه تذكرة الدعاة: “إن الداعية يجب أن يشعر بأن دعوته حية في أعصابه، متوهجة في ضميره، تصيح في دمائه فتعجله عن الراحة والدعة إلى الحركة والعمل، وتشغله بها عن نفسه وولده وماله… وهذا هو الداعية الصادق، تحس إيمانه بدعوته في النظرة والحركة والإشارة، في البسمة التي تختلط بماء وجهه، وهو الداعية الذي ينفذ كلامه إلى قلوب الجماهير فيحرك عواطفهم إلى ما يريد من أمر دعوته”.اهـ
أقول: وهذا الصنف من الدعاة يظهر صدقه من خلال نبرات صوته، وتفاعل جوارحه، ومن خلال قسمات وجهه؛ حتى يرى الناس صدقه في محياه قبل سماع صوته، كما قال عبد الله بن سلام ـ عندما رأى النبي صلى الله عليه وسلم عند هجرته لأول مرة ـ فقال: “فلما رأيته علمت أن وجهه ليس بوجه كذاب”، ولقي أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فسأله، فلما علم أنه رسول الله، قال: أنت الذي يقول عنه قومه إنه كذاب؟، فقال: أنا هو أو قال نعم، فقال الأعرابي: لا والله ما هذا الوجه بوجه كذاب”.
ويقول صاحب تذكرة الدعاة عن الدعاة المتوهجين: “… يتكلم فتتكلم أسرار الدعوة في ألفاظه ونبراته، وهو إذ يفعل ذلك لا يثيرهم إلى باطل، بل يهيئهم لقبول الحق الذي يألفه العقل والفطرة.. وإذا كان هذا لازما للرسالات الأرضية على ما فيها من باطل فهو ألزم للإسلام؛ لأنه رسالة الحق الخالص، وبين الحق وفطرة الإنسان نسب؛ فكلاهما من روح الله، فإذا أثرت حماسة قلب المرء إلى حقائق هذه الرسالة رأيت فطرته تسرع إليها إسراع الأليف إلى أليفه في غير إنكار ولا تردد، وتقبل عليها في معرفة وثقة ويقين، بل في لذة وشوق وحنين {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}(المائدة:83)؛ ذلك بأن الحق مسطور بقلم الله في كل فطرة، والفطرة السافرة التي لا رين عليها إذا سمعت الحق يتلى في أي وجه أحست أنه صدى أحاديثها وصورة ما هو مكتوب في أطوائها {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ}(العنكبوت:49).
وخلاصة أمر الداعية مع دينه ودعوته أن يملأ الإسلام ودعوته عليه حياته: فكل ما يرى ويسمع يذكره بالله والدين، ويثير في نفسه قضية الإسلام، فتكون هذه القضية في قلبه أعظم من مكان صخر في قلب الخنساء التي بكت حتى كاد البكاء يقتلها وقالت:
يذكرني طلوع الشمس صخرا *** وأذكره لكل غروب شمس
ولــــولا كــثرة الباكـين حولي *** على إخوانهم لقتـلت نفسي
وأكبر من زيد في قلب أبيه حارثة الذي ضاع ولده منه فجاب الأرض يبحث عنه، يذكره عند طلوع الشمس وغروبها، وعند الليل ورؤية النجم والقمر، وعند الطعام والشراب والنوم واليقظة، فما هدأ حتى وجده في مكة عند النبي صلى الله عليه وسلم. وكان يصف حاله ويقول:
بكيت على زيد ولم أدر ما فعل *** أحــيٌّ يرجى أم أتـى دونــه الأجــل
فوالله ما أدري وإن كنت سائلا *** أغالك سهل الأرض أم غـالك الجـبل
فيا ليت شعري هل لك الدهر رجعةٌ *** فحسبي من الدنيا رجوعك لي مجل
تذكرنيــه الشمس عند طلوعها *** وتُعـرِضُ ذكــراه إذا ما غـربها طفل
وإن هبت الأرياح هيجن ذكره *** فيا طول ما حــزني عليـه ويا وجــل
سأعمل نص العيس في الأرض جاهدا *** ولا أسأم التطواف أو تسأم الإبل
حــياتي أو تـأتي عـلي مــنيتي *** وكــل امـرئ فـان وإن غــره الأمــل
سأوصي به قيسا وعمروا كليهما *** وأوصـي يزيــدا ثم من بعـده جبل
وهكذا ينبغي أن نكون ويكون الدعاة الذين نريدهم ونتمناهم، كل حدث نذكر به الإسلام، ونذكر به الناس كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل.
روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم “رأى امرأة في السبي تبحث حتى إذا وجدت صبيا صغيرا أخذته فحملته وألزقته في بطنها وأرضعته فقال: أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا يا رسول الله وهي تقدر ألا تطرحه، فقال: والله لله أرحم بعباده من هذا بولدها”.
وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه: “أَنَّ رسولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم مَرَّ بِالسُّوقِ وَالنَّاسُ كنفته، فَمَرَّ بِجَدْيٍ أَسكَّ مَيِّتٍ، فَتَنَاوَلَهُ، فَأَخَذَ بَأُذُنِهِ، ثُمَّ قَالَ: “أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟ “فَقالوا: مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشيْءٍ، وَمَا نَصْنَعُ بِهِ؟ ثُمَّ قَالَ:”أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ؟ قَالُوا: وَاللَّه لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْباً فيه، لأنه أَسَكُّ. فكَيْفَ وَهو مَيَّتٌ، فقال: “فَوَ اللَّه للدُّنْيَا أَهْونُ عَلى اللَّه مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ” (رواه مسلم).
وفي صحيح ابن حبان عن البراء بن عازب قال: “أُتِي رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بثوبٍ مِن حريرٍ فجعَلوا يلمِسونَه ويتعجَّبونَ مِن لِينِه قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لَمَناديلُ سعدِ بنِ مُعاذٍ في الجنَّةِ أليَنُ مِن هذا أو خيرٌ مِن هذا” (صححه الأرناؤوط).
وهكذا الذي يحمل هم الدين يربط الناس به في كل أمر، وفي كل وقت، وفي كل حال.
“فإذا رأيت نفسك أيها الداعي راكد العاطفة، منطفئ الحماسة لرسالتك، أو إذا وجدت من نفسك أنك تقبل على الناس لتكون خطيبا يعجب الناس ببلاغتك؛ فاعلم أنك في حاجة إلى فهم جديد لدينك ودعوتك، هو الفهم العاطفي والتصديق القلبي، هو الإيمان القوي الذي يشغل ضميرك بدعوتك في كل لحظة فتذكرها في نومك ويقظتك، وعلى طعامك وبين أهلك وفي حلك وسفرك، وفي كل مجالسك، إذا قصدت إنسانا فللدعوة وإذا سالمته أو عاديته فلها، وإذا فرحت أو حزنت فمن أجلها.
وبالجملة تكون هي المسألة الأولى الحاضرة لديك في كل وقت من أوقات حياتك.. هي صلب الحياة ولبها وصميمها، وأمور عيشك على هامشها وأطرافها، ولا تظن أن هذا كثير عليك، فأنت داعية ولست مدعوا وشتان ما بين حال هذا وذاك؟”اهـ.