د. محمود فتوح محمد سعدات
الصيام مدرسة تربوية كبرى يتربى فيها المسلم على الإيمان الحقيقي، الإيمان الذي تزينه التقوى والمراقبة والمراجعة والمحاسبة، الإيمان الذي يتربى فيه المسلم على الحمد والشكر والتحمل والصبر، والإيمان الذي يجمله علم ويحليه حلم؛ فالصوم من أهم العوامل والمؤثرات التي تربط الإنسان بخالقه وتوقظه من غفلته؛ فيندم على ما ارتكبه من المخالفات والآثام، وتصحو هذه النفس عن المعاصي، وينقطع شهرا إلى الله تعالى حتى وهو في عمله دائما يتذكر صيامه ومع تلاوة القرآن وفي كل أحواله هو مع الله تعالى. إشراقات ونورانيات وروحانيات كلها ببركة شهر القرآن توبة وغفران وعفو ورضوان ينقاد إليه المسلم في هذا الشهر فيعود إلى نقاء وصفاء وسمو روح عن كثير من الشهوات وملذات الجسد.
الآثار التربوية للصوم:
إن الصائم الذي يستطيع أن يمتنع عن الطعام والشراب، ويكبح جماح شهوته، فإن صيامه هذا سيترتب عليه أجر كثير، وآثار عظيمة تسهم في إصلاح جانبه الروحي، وتقويم صحته وتقويتها. ولما كانت آثار الصيام كثيرة، فإننا سوف نقتصر على الآثار التربوية، التي سنعرض لأهمها فيما يلي:
- تربية للجود بجميع أنواعه: يعد الصيام مدرسة للتربية على الجود بجميع أنواعه:
أ- جود المال: ففيه الحث على الصدقة وتفطير الصائمين والإنفاق وتعهد الأرامل والمحتاجين.
ب- جود الوقت: ففيه نفع المسلمين والمشي في حاجاتهم والقيام على شؤونهم.
ج- جود الذات: ففيه بذل الجاه عند الأغنياء وأصحاب اليسر ابتغاء الأجر من الله.
د- الجود ببذل الأعمال الصالحة: فيفعل الصالحات، وينوع العبادة ما بين فرض ونفل وصلاة، وصدقة وقرآن وتفطير، وإمامة وأذان وقيام على حاجات الناس، وإنفاق وكلمة وخطبة وهكذا. ولهذا كان صلى الله عليه وسلم أجود ما يكون في رمضان، أجود بالخير من الريح المرسلة، كما ثبت في الحديث الصحيح.
- تجديد النية والاحتساب: يربي الصيام المسلمين على تجديد النية والاحتساب، ويُؤخذ هذا من قوله صلى الله عليه وسلم: “من صام رمضان إيماناً واحتساباً” فجاء رمضان يؤكد قضية النية وتجديدها في الصيام وفي السحور وفي الإفطار، فيتربى المسلم على تجديد النية في الأمور الإيمانية والعبادات بل حتى في الأمور العادية من أكل وشرب، ولا يخفى أثر النية على الأجر المترتب على العمل وعلى النفع به في الدنيا.
- تدارس القرآن وتدبره: يربي الصيام المسلمين على تدارس القرآن وتدبره، فيعيش المسلم بين آيات القرآن وقصصه ووعده ووعيده، فتدمع عينه تارة ويلين قلبه تارة أخرى، يرى الأمم الماضية حاضرة عنده، ويعيش مع الأنبياء صبرهم ونصحهم وابتلاءهم، ويستنبط الأحكام ويستفيد الفوائد، ولذلك كان جبريل يدارس النبي -صلى الله عليه وسلم- القرآن في رمضان كل ليلة”.
- تربية على عبادة قيام الليل: يربي الصيام المسلمين على عبادة قيام الليل وهي تجمع عدة فضائل:
أ- قراءة القرآن.
ب- كونها في الثلث الأخير من الليل.
ج- قراءة الليل أشد وطئاً وأقوم قيلاً.
د- نور في الوجه.
هـ- أقرب لاستجابة الدعاء.
- يربي في النفس الإكثار من الأعمال الصالحة: يربي الصيام المسلمين على الإكثار من الأعمال الصالحة، فما من عمل إلاّ وهو مضاعف في رمضان لأضعاف كثيرة، فإذا تذكر ذلك المسلم حرص على الإكثار من الأعمال الصالحة والتزود منها خاصة إذا علم أن تكرر فرصة رمضان قادم هي من علم الغيب التي اختص الله بها؛ فيورثه ذلك اغتنام الأعمال الصالحة.
- يربي في النفس التكيف على التغير: يربي الصيام في النفس التكيف على التغير، فإذا جاء رمضان يحدث تغير حتى في العالم الغيبي فمثلاً:
أ- الجنة تتغير فتفتح أبوابها
ب- النار تتغير فتغلق أبوابها.
ج- مردة الشياطين تتغير فتُصفد وتُسلسل
ويجب على الإنسان المسلم أن يتغير إيماناً وسلوكا وعبادة وقلباً، فيتعلم حسن الأخلاق وحسن أداء العبادة والصبر والإحسان إلى الناس وخدمتهم والتمسك بالفرائض وإتباعها بالنوافل، فيخرج من الصوم، وقد تغير إيمانه وخلقه وصفاته وسلوكه.
- تربية للأمة على الوحدة والاجتماع وعدم التفرق: يعد الصيام تربية للأمة على الوحدة والاجتماع وعدم التفرق، فتصوم الأمة كلها إذا رأوا الهلال، ويفطروا جميعاً إذا غربت الشمس، كل ذلك ليتعود الناس رغم المسافات بينهم على الوحدة ويعرفوا ثمرتها وفائدتها، حتى إذا انتهى الصوم سعى الناس للوحدة في الكلمة والهم والهدف والغاية.
- يربي الإنسان على التحكم بعواطفه: يعد الصيام تربية للإنسان على التحكم بعواطفه، وتسييرها كما يريد الشرع لا كما تريد النفس؛ فالله منع الصائم من الأكل والشرب والشهوة لا تعذيباً له، بل ليتعلم كيف يترك الشيء لله رغم منازعة الهوى له، وحتى نعلم قدر هذه الفائدة، فإن منازعات الناس وخصوماتهم وحالات الطلاق والقتل والاعتداء والاختلاف والتفرق ما كان كل ذلك ليحدث لو قدر الشخص على التحكم بعاطفته ومحبته وبغضبه، وجعلها تحت حكم الشرع وليس النفس والهوى، فجاء الصيام ليعطي الإنسان درساً عمليا في هذا الجانب.
- يربى المسلم على حفظ اللسان: يعد الصيام تربية للمسلم على حفظ اللسان عن فاحش الكلام، ومن حفظ لسانه سلمت له أعماله.
يربي الإنسان على الصبر بنوعيه: يعد الصيام تربية للمسلم على الصبر بنوعيه:
أ- الصبر على الطاعة
ب- الصبر عن المعصية.
- يربي في نفس المسلم الانتصار: يعد الصيام تربية للمسلم على الانتصار بمعناه العظيم، فيتعلم المسلم الانتصار على شهوة الأكل، والبطن والفرج ووسائلها من نظر وتفكير، وهذا أول خطوة في طريق الانتصار والمجاهدة، بالصيام يتعلم المسلم كيف يقهر نفسه وهواه؛ لأن طاعة النفس والهوى أساس المعاصي والذنوب.
- تربية على التعاون والنفع الغير: يعد الصيام مدرسة ليتعلم الناس فيها نفع الغير، وتقديم المساعدة لهم والإحسان عليهم، ففي الصيام تكثر مشاريع الإفطار والصدقات والهدايا والهبات، ويتسابق الناس في البذل والعطاء، وهذا درس عملي ميداني للنفع، مما هو مقصود للشرع؛ فإن الشرع يسعى أن يتعاون المؤمنون فيما بينهم، ويخدم بعضهم بعضاً، والمجتمع الإسلامي اليوم أحوج ما يكون لأن يتدرب أفراده على ذلك.
- يربي الأمة على عبادة الدعاء: يعد الصيام مدرسة لتربية الأمة على عبادة الدعاء؛ فالصائم دعوته لا تُردّ، ويُسن في الوتر الدعاء، وورد عن بعض السلف الدعاء عند ختم القرآن؛ فهذا له أثر في بث رسالة الدعاء في الأمة، وتعلم فنونه وأوقاته وآدابه لحاجة المسلم والمجتمع الإسلامي له. يربي في النفس الخلوة مع الله: يربي الصيام في النفس الخلوة مع الله؛ فالاعتكاف من سنن رمضان، وخلاصته التفرغ لعبادة الله والخلوة به، ومن خلا بربه واستأنس به صح إيمانه، وأورثه ذلك المحاسبة، فيتربى المؤمن على الخلوة بالله والأنس به واستغلال أوقات الخلوات بالعبادات والطاعات.
- يربي في المسلم مراقبة الذات: يربي الصيام في المسلم مراقبة الذات، بأن يكون عليه رقيب من قبل نفسه فينشأ بعد ذلك بينه وبين حدود الله وقاية، وهذا يجعله يترقى في منازل الإيمان، إلى أن يصل للإحسان بأن يعبد الله كأنه يراه، فإذا كان له مراقب من نفسه صار أبعد ما يكون عن انتهاك حرمات الله. وتربية النفس على مراقبة ذاتها يجعل هناك حصانة تقوى مع الأيام، وتزداد قوة فإذا عرضت عليه المعاصي سهل عليه مجاهدتها، بل يستلذ تركها خوفاً وحياء من الله.
- يربي في الناس علو الهمة على التنافس في الخيرات: يربي الصيام في الناس علو الهمة على التنافس في الخيرات، والمسابقة في الصالحات، ويظهر هذا في بداية رمضان فإنك تجد همم الناس عالية، وأنفسهم لديها الاستعداد للجد في العبادة، فيخطط بعضهم بأن يختم القرآن أكثر من مرة، والآخر بأن يقوم الليل، والثالث بالاعتكاف، وعلو الهمة يجعل الشخص لا يستثقل العبادة ولا يرضى دون السير على طريق السلف.
- يربي الناس على تعظيم أوامر الله: يربي الصيام الناس على تعظيم أوامر الله، وذلك بأداء هذه العبادة الشريفة؛ لأن أداء الأوامر يربي تعظيم الله وأوامره في النفوس، والتعظيم قائم على المحبة ومرتبط بها وهي أساس الأعمال القلبية، فالتعظيم أمر قلبي تظهر آثاره وكمال صدقه على الجوارح بامتثال الأوامر وترك النواهي.
- يربي الجوارح على صيامها عن المنكرات: يربي الصيام الجوارح على صيامها عن المنكرات فيتدرب المسلم شهراً كاملاً على ترك المنكرات، وأنها تناقض مقصود الصيام، فيعود ذلك عليه بالنفع؛ لأن الغالب من المعاصي تتحول إلى عادات مع الاستمرار عليها، فإذا غفل عنها أياماً سهل تركها.
- يعلّم الناس التوازن في الحياة: يعلّم الصيام الناس التوازن في الحياة، فمن التناقض أن تصوم عن المفطرات الحسية وتقع في المفطرات المعنوية، ومن التناقض طاعة الله في جانب وعصيانه في الجانب الآخر؛ فرمضان مدرسة للتوازن في حياة المسلم، فأوامر الله كلها تُطاع، ومناهي الله تُجتنب،؛ ليبين أن التناقض ينبغي ألاّ يوجد في حياة المسلم، فإذا خلا بمحارم الله لا ينتهكها، ولا يطيع في الحضر ويعصي في السفر، أو يتقي في النهار ويفجر بالليل.
—–
* المصدر: الألوكة.