د. رمضان فوزي بديني (خاص بموقع مهارات الدعوة)
إذا كان العالم بمؤسساته الحديثة كالأمم المتحدة قد انتبه مؤخرا لأهمية المياه، وعين يوما دوليا للاحتفال بالمياه (22 من مارس)؛ فإن الإسلام قد سبق
الجميع في هذا الأمر؛ من خلال إيلائه الماء عناية كبيرة باعتباره عنصرا مهما من عناصر الطبيعة؛ حيث تقوم عليه الحية؛ فالإسلام هو الدين الخاتم الذي جاء لإسعاد الإنسان في دنياه وأخراه، إذا اتبع أوامره وانتهى عن نواهيه؛ فالإسلام عقيدة وشريعة، كما هو نظام رباني متكامل يشمل كل مناحي الحياة؛ فلم يترك شيئا فيه خير للبشر إلا وأمرهم به، ولم يترك شيئا فيه شر لهم إلا ونهاهم عنه.
ومن مظاهر شمولية الإسلام للحياة كلها اهتمامه بالبيئة وعناصرها وكيفية إحداث توازن بين هذه العناصر اهتماما كبيرا، دون أن يطغى عنصر على آخر؛ ويمكن عرض بعض مظاهر الهدي الإسلامي في التعامل مع الماء باعتباره عنصرا بيئيا هاما فيما يلي:
أولا- التذكير بأهمية الماء للحياة:
حرص الإسلام -في عشرات الآيات التي ورد فيها لفظ الماء- على إبراز أهيمته في الحياة؛ حتى يحرص الناس عليه حفظا لحياتهم ومعاشهم وابتغاء رضوان ربهم.
فقد أبرز القرآن أن الماء يستمد أهميته من أنه أصل الحياة على هذه الأرض، فقد أخبر تعالى عن ذلك في قوله تعالى: ﴿أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ﴾ (الأنبياء: 30)، وقال عز من قائل: {وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ مَا يَشَاءُ} (النور: 45). وقال عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} (الفرقان: 54}.
ومن مظاهر إبراز أهمية الماء في القرآن الكريم –أيضا- قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} (المؤمنون: 18)؛ فالشيء المنزل بـ”قدر” هو الشيء العزيز الغالي الذي يجب الحفاظ عليه، خاصة مع التهديد الإلهي الذي يُستشف من قوله تعالى (وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ)؛ فإن لم تحافظوا على هذه النعمة فإننا قادرون على سلبها منكم. ثم في الآية التالية يشير سبحانه إلى النعم الحاصلة من هذا الماء –كما هو الحال مع كثير من الآيات التي تحدثت عن نزول الماء- فيقول تعالى: {فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} (المؤمنون: 19).
ويأتي هذا التهديد واضحا في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ} (الواقعة: 68-70).
ويضيق المجال والسياق عن استقراء الآيات الدالة على أهمية الماء استقراء كاملا.
ثانيا- النهي عن الإسراف:
الإسلام دين الوسطية؛ فهو ضد الإفراط والتفريط، وقد حارب الإسلام الإسراف والتبذير في كل شيء {وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأعرف: 31). وقال تعالى: {وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} (الإسراء: 26، 27).
ومن مظاهر محاربة هذا التبذير والإسراف هدي النبي صلى الله عليه وسلم مع الماء، وهو عدم الإسراف فيه، حتى لو كان المسلم على نهر جار يكثر فيها الماء؛ فالنهي عن الإسراف والتبذير بصورة عامة هدي إسلامي أصيل.
ومن مظاهر النهي عن الإسراف في الماء ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر بسعد وهو يتوضأ، فقال: ما هذا السرف يا سعد؟ فقال: وهل في الماء سرف يا رسول الله؟ قال: نعم وإن كنت على نهر جار” (رواه ابن ماجه).
ولم يكتف صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر بلسان المقال؛ بل أضاف له لسان الحال؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: “كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتوضأ بنحو المد، ويغتسل بنحو الصاع”. وعن سفية مولى أم سلمة قال: “كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوضيه المد ويغسله الصاع” (الدارقطني).
فإذا كان هذا الأمر في باب من أجلِّ الأبواب التي يُستخدم فيها الماء وهو العبادات؛ فإن الأمر يكون أولى وأوجب في غيره من الأبواب.
ثالثا- النهي عن احتكار الماء:
نظرا لأهمية الماء في الحياة، وخوفا من استغلال طائفة من الناس له دون غيرها والتحكم فيه، حرص الإسلام على منع احتكار الماء؛ حيث يقول صلى الله عليه وسلم: “المسلمون شركاء في ثلاث: في الماء والنار والكلأ” (أبو داود وابن ماجه وأحمد). وفي رواية عند أبي داود “الناس شركاء في ثلاث…” فعمّ الناس كلهم، ولم يقصره على المسلمين.
ويعلق على هذا الحديث صاحب “شرح بلوغ المرام” فيقول: “جرم الماء السائل الشفاف هو الذي لا يُباع، وإذا زاد عن حاجتك فأعطه لغيرك، ولكن هذا من باب الإرفاق، وليس من باب الوجوب؛ فلو كان الماء جارياً في الوادي، ويمر على بلدك، أو على مزرعتك؛ فخذ حاجتك، ولا تبع الباقي، ولكن أرسله إلى مَن وراءك، وهكذا لو وجدت غديراً في الأرض (حفرة بها ماء) وليست ملكاً لك؛ فلا تملك أن تبيعها، ولو كانت في ملكك فلا تمنع أحدا يحتاج أن يأخذ الماء ما دام زائداً عن حاجتك”.
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: “لاَ يُمْنَعُ فَضْلُ الْمَاءِ؛ لِيُمْنَعَ بِهِ الْكَلأَ” (البخاري ومسلم). قال ابن بطال في شرحه لصحيح البخاري “نهى أن يُمنع الماء، لئلا يُتذرع بذلك إلى منع الكلأ”.
وفي موضوع منع الماء وبيعه تفصيلات وخلافات فقهية ليس هذا مجال طرحها.
رابعا- التصدق بالماء:
لقد بلغ اهتمام الإسلام مبلغا عظيما؛ حيث حث على سقاء الغير، وجعل ذلك الفعل من باب الصدقة التي يؤجر فاعلها، كما يؤجر حينما يتصدق من أمواله؛ بل جعله أفضل الصدقة، عن النفس أو الغير؛ فقد روي عن سعد بن عبادة قال: قلت: يا رسول الله، إن أمي ماتت أفأتصدق عنها؟ قال: نعم، قلت أي الصدقة أفضل؟ قال: سقي الماء (شرح الزرقاني (3/ 74)
وروي عن طاوس عن بن عباس -أظنه رفعه (شك ليث)- قال: في ابن آدم ستون وثلاثمائة سلامى أو عظم أو مفصل، على كل واحد في كل يوم صدقة؛ كل كلمة طيبة صدقة، وعون الرجل أخاه صدقة، والشربة من الماء يسقيها صدقة، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة” (صححه الألباني).
بل ويتجاوز الأمر سقي الآدميين إلى سقي الحيوانات؛ فعن أَبِي هريرة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “بينما كلب يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كاد يقتله العطش، إذ رأته بَغِيٌّ مِنْ بغايا بني إسرائيل، فنزعت مُوقَهَا، فسقته، فَغُفِرَ لها به” (اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان).
خامسا- الترغيب في حفر الآبار:
يُعد حفر الآبار ليشرب منها الناس والأنعام والطير.. بابا من أبواب التصدق بالماء الذي حث عليه الإسلام؛ فعن جابر بن عبد الله: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “مَنْ حَفَر ماءً لم تشرب منه كبد حرَّى من جنٍّ ولا إنسٍ ولا سَبُعٍ ولا طائرٍ إلا آجره الله يومَ القيامة” (جامع العلوم والحكم، وصحيح ابن خزيمة).
وقد روي أيضا أنه –صلى الله عليه وسلم- قال: “من حفر بئر رومة فله الجنة”، فحفرها عثمان رضي الله عنه (صحيح البخاري).
ويُعد توفير برادات الماء في المساجد والشوارع والأماكن العامة تطبيقا معاصرا للتصدق بالماء في مقابل حفر الآبار في القديم، كما أن هناك بعض الدول في جنوب إفريقيا ومثيلاتها ربما تكون في حاجة لحفر آبار.
سادسا- الحض على نظافة الماء:
نظرا لأهمية الماء في الحياة، وإدراكا لخطورة تلوثه على المخلوقات.. استبق الإسلام العلم الحديث والطب الوقائي في التعامل مع هذا الأمر؛ حيث نهى الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن البول في الماء الراكد؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: “لا يبولنَّ أحدكم في الماء الراكد” (صحيح مسلم، وابن ماجه)؛ بل وفي رواية للطبراني أنه –صلى الله عليه وسلم- نهى أن يبال في الماء الجاري.
ونهى -صلى الله عليه وسلم- أن يبول الرجل في مُستَحمه (رواه أبو داود). وقال صلى الله عليه وسلم: “اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الماء وفي الظل وفي طريق الناس” (رواه ابن ماجه).
ويعد النهي عن البول والتبرز في الماء من أكبر أنواع الوقاية للماء من انتشار الأوبئة مثل البلهارسيا وغيرها من الأمراض التي قد تصيب من يضطر لاستخدام هذا الماء بعد ذلك.
ومن هديه صلى الله عليه وسلم تغطية الآنية التي فيها طعام أو شراب حتى لا تتعرض للتلوث والأذى؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: “غطوا الإناء، وأوكوا السقاء؛ فإن في السنة ليلة ينزل فيها وباء لا يمر بإناء ليس عليه غطاء، أو سقاء ليس عليه وكاء إلا نزل فيه من ذلك الوباء” (صحيح مسلم).
بل وبلغ حرصه -صلى الله عليه وسلم- في الحفاظ على نظافة الماء أن نهى عن النفخ في الشراب، وأن يكون التنفس في أثناء الشرب خارج الإناء الذي يشرب منه. كما نهى صلى الله عليه وسلم من الشرب من في السقاء مباشرة؛ حرصا على عدم تلوث الماء من فم الشارب، خاصة إذا تبقى في الإناء شراب آخر لغيره؛ حتى لا يؤذيه.