نزيه مطرجي
إن الزُّهد في الدنيا زينةٌ للصالحين، وحِلْية للمتَّقين، وقد أَمر اللهُ به عبادَه المؤمنين في قوله: {لِكَي لا تَأْسَوا على ما فاتَكم ولا تَفْرحوا بما آتاكُم واللهُ لا يُحبُّ كُلَّ مُختالٍ فخور} (الحديد: 32).
ليس الزّهدُ بتحريم الحَلال وإضاعة المال، ولكنّ الزُّهد أن تكونَ بما في يَدِ الله أَوْثقَ منك بما في يَدِك. {واللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخور}: أُمِرَ المؤمنونَ بأنْ لا يتَّخِذوا نِعَم الله أَشَرا وبَطَرا يفخرون بها على العباد، وأُمِروا بأن يَجعلوا المصيبةَ صَبْرا والغَنيمةَ شُكْرا.
إنّ وساوسَ إبليس تَقْرعُ أسماعَ هُواةِ الذِّكْرِ والثَّناء، فلا تَدَعْهم يَقْنعونَ بالتواضع والسَّتر، والإحسان في الخَفاء.
إن الإخلاص في العمل وحُبَّ المَدْح والثَّناء لا يجتمعانِ في قلب المؤمنِ كما لا يجتمعُ النّارُ والماء.
إن الصالحين يَحْذرون من طُغْيان ثلاث هي: أنا، ولي، وعِنْدي؛ فإنّ هذه الألفاظ الثلاث قد ابتُلي بها إبليسُ وفرعونُ وقارون: فـ{أَنا خَيْرٌ منه خَلَقْتني من نارٍ وخَلَقْتَه من طين} لِإبْليس، و{أليس لي مُلْكُ مِصْرَ وهذه الأنهارُ تجري من تَحْتي} لِفرعون، و{إِنَّما أوتيتُه على عِلمٍ عندي} لقارون.
ومن الأقوام الذين أَنعم اللهُ عليهم بحمل دعوة الإسلام مَن هانوا أمام نَزْغ الشيطان وضَعُفوا في وَجه فتنتِه وإغرائِه، فَسَوَّل لهم طَلَب الشُّهرة وعُلُوّ الصيت.
إن الشيطانَ لَيَنْفُث في نفوس المؤمنين مِن حَمَلة العِلم والدّعوة بأن التواضعَ في الرُّتبة والمكانة، وفي طلب الظهور والشُّهرة هوانٌ ومَذَلّة لا تليقُ بأهل العلم والشَّرف، وذوي المكانة العَلِيّة والرُّتَب السَّنيّة. إنه لا ينبغي لذوي العلم والفضل أن يخدعَهم الشيطانُ وجنودُه فيُسوِّلَ لهم بأنهم إن تواضعوا في طَلب الشهرة يقعون في المذَلّة والهَوان.
لقد كان النبيُّ الأكرم صلى الله عليه وسلم أَكثرَ الناس تواضُعا وأَعْدَمهم كِبْرا، وحَسْبُك من تواضعِه أنه خُيِّر بين أن يكونَ نبيّا مَلِكا، أو نبيّا عَبْدا فاختار أن يكون نبيّا عَبْدا، فقال له إِسْرافيل: فإنّ اللهَ قد أعطاك بما تواضَعْتَ له أنك سَيِّد وَلَدِ آدم يوم القيامة، وأوّلُ شافِع؛ وهو الذي عَلَّم أمته سَجِيَّة التواضع فَوَعظهم بقوله: «مَن تواضَع لله رفعَهُ الله فهو في نفسه صغير وفي أَنفسِ الناس كبير، ومن تكبرَّ وضعه الله، فهو في نفسه كبير وفي أعين الناس حَقير» رواه البيهقي.
لقد ضرب الخليفةُ الراشديّ عمر بن عبدالعزيز المثَل الرائعَ في التواضع، وذلك أنه كان عنده يوما بعضُ جُلَسائه، فاحتاج السِّراجُ إلى إصلاح، فقام إليه فأصلحه.. فقال له من معه: قد كنّا نكفيك ذلك، فقال: ليس من كَرَم الرجل أن يستخدمَ ضَيْفَه، قمتُ وأنا عُمر ورجعتُ وأنا عُمر، ما نقَص مني شيء!.
إن الله تعالى لَبِس العَظمة وتَسْربَلَ بالكِبْرياء، واختارهما لنفسه، واصطفاهما لجلالِه، وجعل اللعنةَ والسّوءَ على من نازعه فيهما من الإنس والجانّ؛ ولو رَخَّصَ اللهُ بالكِبْر لأحدٍ من عباده لرخّص لخاصّتِهِ من الأنبياء والمرسلين، ولكنه كره لهم التعالي ورضيَ لهم التواضع، فَخَضعوا لأمر الله لهم، وخفضوا أجنحتَهم للمؤمنين.
لقد كان من تواضع الرّسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يجلس على الأرض، ويأكلُ على الأرض، ويعتقلُ الشَّاة، ويُجيب دعوةَ المملوك.. وكان يَخيطُ ثوبَه، ويَخْصِفُ نَعْلَه، ويعمل ما يعمل الرِّجالُ في بيوتهم.
إن دعاةَ الإسلام هم أولى الناس بالتواضع، لأن الناس بهم يقتدون، وبخصالهم يتأسَّوْن، وعلى دَرْبهم يسيرون. إن الزهد في الدنيا وكذا خَفْض الجَناح خُلق آسِرٌ ومُحَبَّب، أما التعالي والكِبْر فإنه خُلقٌ مُنفِّر، وهو في كل مسلم قبيح وفي العلماء والدعاة أَقْبَح!
إن الناس بِفِطَرتهم يُبْغضون المستكبرين المتعاظِمين، ويَأْنسون بالمتواضعين الموطِّئي الأكناف المُصاحبين بالجَنْب للقلوب والأَرواح؛ وهؤلاء النُّخبةُ تَحِنُّ إليهم النفوسُ، وتخضع لهم الرُّؤوس، فهم في الأقطار كالأقمار والشُّموس!.
——————-
* المصدر: مجلة “الأمان” اللبنانية.