د. أشرف صالح محمد **
قدمت الحضارة الإسلامية نموذجًا رائعًا للوحدة والتنوع في إثمارها الحضاري، حيث هضمت فنون الأمم السابقة، وأعادت تمثيلها بعد تشذيبها وتهذيبها، وتصحيح اعوجاجها، وإكمال نقصها، ومن ثم إخراجها في حلة قشيبة، وكل ذلك في ظل عقلية تؤمن بالتكامل المعرفي للبشرية ومبدا الأخذ والعطاء، عقلية تبغض التقليد وتمجد التجديد.
عقلية ترفض الإلغاء والإقصاء، والعصبية المقيتة، والإقليمية الضيقة. وبينما كان العالم الإسلامي يموج حضارة وتمدناً خلال عصور الخلافة الراشدة والأموية والعباسية والعثمانية، كانت أوروبا تعيش في أتون الجهل والهمجية والبربرية والرق والعبودية. وهذه حقيقة لا ننكرها بل نقرها، فعلماء المسلمين في كل مشاربهم إبّان عصور حضارتنا الإسلامية التي غبرت لم يخلِّفوا لنا سوى أمجادهم وكتبهم وتراثهم الذي نهلت منه كل الروافد المعرفية العالمية، لأنه كان ثبتا اتسم بالمصداقية البحثية وهو ما جعلهم مشاعل التنوير ودعاة الاستنارة، ومجددين ومبدعين للعلم، فظلت حضارتهم تروي الإنسانية عبر القرون الوسطى حيث كانت الهمجية تسود أوروبا.
الحضارة هي الجهد الذي يقدم لخدمة الإنسان في كل نواحي حياته، أو هي التقدم في المدنية والثقافة معًا، فالثقافة هي التقدم في الأفكار النظرية، مثل القانون والسياسة والاجتماع والأخلاق وغيرها، وبالتالي يستطيع الإنسان أن يفكر تفكيرًا سليمًا، أما المدنية فهي التقدم والرقي في العلوم التي تقوم على التجربة والملاحظة مثل الطب والهندسة والزراعة، وغيرها. وقد سميت بالمدنية، لأنها ترتبط بالمدينة، وتحقق استقرار الناس فيها عن طريق امتلاك وسائل هذا الاستقرار، فالمدنية تهدف إلى سيطرة الإنسان على الكون من حوله، وإخضاع ظروف البيئة للإنسان، ولا بد للإنسان من الثقافة والمدنية معًا، لكي يستقيم فكر الأفراد وسلوكياتهم، وتتحسن حياتهم، لذلك فإن الدولة التي تهتم بالتقدم المادي على حساب التقدم في مجال القيم والأخلاق، دولة مدنية، وليست متحضرة، ومن هنا فإن تقدم الدول الغربية في العصر الحديث يعد مدنية وليس حضارة، لأن الغرب اهتم بالتقدم المادي على حساب القيم والمبادئ والأخلاق، أما الإسلام الذي كرم الإنسان وأعلى من شأنه، فقد جاء بحضارة سامية، تسهم في تيسير حياة الإنسان.
سمات الحضارة الإسلامية
لقد وصف المسلمون في العصور الوسطى بأنهم بالفعل أصحاب أعظم حضارة، والسبب في هذا أن الحضارة الإسلامية كانت عالمية المنبع والمصب، فقد استفاد المسلمون من تراث الأمم السابقة في صورة التراث اليوناني والفارسي والهندي، وخاصة اليوناني، ولم يجدوا مشكلة تعوقهم في ترجمة هذا التراث نظرا لازدهار العالم الإسلامي من الناحيتين الاجتماعية والاقتصادية.
فقد تألقت الحضارة بسبب اقتصادي، حيث وضع المسلمون أيديهم على منافذ خطوط التجارة العالمية، وسيطروا على مناطق من البحر المتوسط حتى سور الصين العظيم، والشمال الأفريقي، وجنوب غرب أوربا في صورة شبه جزيرة أيبيريا، وكذلك جزر البحر المتوسط، حيث نمت تجارة المسافات البعيدة، حتى إنه لقد صدرت البضائع من خراسان بعيدا إلى مصر وشمالي أفريقيا، وبذلك سارت في أيديهم أموال سائلة ضخمة لتمويل مشاريع الترجمة والتشييد والبناء، ومن حسن حظ المسلمين أنهم سيطروا على مراكز التراث القديم في الهند وفارس ومصر فكانت حضارتهم متألقة.
يذكر أن الحضارة الإسلامية كانت ذات بعد إنساني واضح، كما اتسمت بطابع التسامح ولم تعرف التعصب، فقد أشار كلود كاهن Claude Cahen 1909 – 1991م) إلى أن روح التسامح تلك لم تشهدها الحضارات العالمية قديما أو حديثا. ويكفي أن عظماء الأطباء كان منهم المسيحيون واليهود، ومثال ذلك: «حنين ابن إسحق» (194 – 260هـ/ 810 – 873م) الذي أجاد اليونانية والسريانية والعربية، وأيضًا «موسى بن ميمون» (1135م – 1204م) وهو طبيب يهودي بارع وواحد من سبعة أطباء كانوا مرافقين شخصيين للسلطان الأيوبي صلاح الدين (1138م – 1193م).
وبذلك التقى الإسلام والمسيحية واليهودية في حضن حضارة واحدة عالمية قامت بمشروع حضاري في العصور الوسطى عجزت أوربا عن القيام به، وإنما قامت بمشروع متعصب في صورة الحروب الصليبية.
مدن تاريخية ومتحفية
كان ازدهار الحضارة الإسلامية من خلال ازدهار المدن كالكوفة، والبصرة، وبغداد، ودمشق، والقاهرة، والفسطاط، والعسكر، والقطائع، والقيروان، وفاس، ومراكش، والمهدية، والجزائر وغيرها، وقد انعكس هذا الازدهار على المناطق الريفية. كما خلفت الحضارة الإسلامية مدنًا متحفية تعبر عن العمارة الإسلامية كإستانبول بمساجدها، والقاهرة بعمائرها الإسلامية، وبخارى، وسمرقند، ودلهي، وحيدر أباد، وقندهار، وبلخ، وترمذ، وغزنة، وبوزجان، وطليطلة، وقرطبة، وإشبيلية، ومرسية، وسراييفو، وأصفهان، وتبريز، ونيقيا وغيرها من المدن الإسلامية.
وكانت هذه المراكز في تناقض واضح بالمقارنة بالمدن البائسة للعصور المظلمة في أوربا، وخصوصًا بين القرنين الخامس إلى العاشر الميلاديين، حيث أصيبت حضارة الغرب بالانحطاط في مختلف المجالات، ولم يبق من معارف الإغريق والرومان التي ازدهرت في أوربا سوى القليل محصورًا بين الأديرة والكاتدرائيات وبلاطات الحكام، وتميزت العصور المظلمة بتفشي الجهل، والتزّمت الديني الشديد، وتعاظم دور الكنيسة في مختلف مجالات الحياة.
حركة الترجمة
لقد كانت الترجمة هي أولى مراحل الحركة العلمية الإسلامية، وبداية التأريخ للعلوم في الحضارة العربية. وقد بدأت الترجمة بداية منظمة منذ بداية الدولة الأموية؛ فقد عمل الأمير الأموي خالد بن يزيد ابن معاوية (ت 85 هـ) على نقل بعض الكتب في الطب والكيمياء إلى العربية، وقد استمر في الحكم ثلاثة شهور، ثم تخلى عن الخلافة لينصرف إلى العلم، وقد درس بعض المستشرقين جهوده، وتوصلوا إلى أنه أسهم في تاريخ العلم.
وكانت الترجمة من أهم الأنشطة العلمية طوال العصر العباسي، لا سيما في عهود أبي جعفر المنصور وهارون الرشيد والمأمون، وظهر في تلك الفترة مترجمون رواد حملوا على عاتقهم عبء نقل التراث الإنساني الموجود آنذاك إلى اللغة العربية التي كانت لغة العلم في ذلك العصر، مما حدا بالعلامة «البيروني» إلى القول: «إن الهجاء بالعربية أحب إلي من المدح بالفارسية».
ومن رواد الترجمة حنين بن إسحاق وأولاده، ويوحنا بن ماسويه، وقسطا بن لوقا البعلبكي، وحبيش بن الحسن الدمشقي، واصطفن بن بسيل. ويذكر هنا أن العباسيين لم يتعصبوا للإسلام على نحو يجعلهم يتجنبون التعامل مع علماء الديانات الأخرى، والدليل على التسامح حينذاك أن حركة الترجمة قامت على أكتاف العناصر المسيحية التي حققت إنجازا غير مسبوق، وفي حالة تعصب العباسيين رفضت هذه العناصر المساهمة في بناء الحضارة العربية الإسلامية.
ولم يقتصر دور العرب على الترجمة والنقل الأمين وحفظ العلوم من الضياع فقط، بل وقفوا موقف الدارس والشارح والمؤلف، فشرحوا الغامض، وصححوا الأخطاء، وأدخلوا الكثير من التعديلات والإضافات والتعليقات على أعمال الأقدمين. ولذلك فإن الحضارة الإسلامية تسمى «حضارة الجسر أو المعبر»، لأنها حملت التراث الكلاسيكي اليوناني وتراث الهند وإيران إلى أوربا، فكان التراث الإسلامي العامل الرئيس لبدء عصر النهضة الأوربية، وهذا ما اتفق عليه الكثير من مؤرخي العلم، فانتقال التراث الإسلامي -وخاصة العلوم والمعارف- إلى غرب أوربا خلال العصور الوسطى كان العامل الرئيسي لبدء عصر النهضة في أوربا وانتقالها من عصر الظلمات إلى عصر البحث والكشف العلمي.
صناعة الورق الإسلامية
الورق المعروف حاليًا يعود تاريخه إلى القرن الثاني الميلادي، ففي عام 105 بعد الميلاد صنع الصيني “تسي آي لون” ورقا من لحاء الشجر وشباك الأسماك، ثم توصل الصينيون إلى صنع الورق من عجائن لباب الشجر، فحلت بذلك مكان الحرير غالي الثمن، والغاب ثقيل الوزن اللذين قنع بهما الصينيون زمنا طويلا. وبعد ذلك طور الصينيون هذه الصنعة باستخدام مادة ماسكة من الغراء أو الجيلاتين مخلوطة بعجينة نشوية ليقووا بها الألياف، ويجعلوا الورق سريع الامتصاص للحبر.
ولكن الورق الصيني كان محدود الانتشار، ولم يذع خبره في العالم القديم أو الوسيط حتى القرن الثامن الميلادي، حين عرف العرب أسرار صناعة الورق الصيني بعد فتح سمرقند عام 93هـ/ 712م. وأسس أول مصنع للورق في بغداد عام 178هـ/ 794م، وأسسه الفضل بن يحيى البرمكي في عصر هارون الرشيد (786 – 809م)، ثم انتشرت صناعة الورق بسرعة فائقة في كل أنحاء العالم الإسلامي، فدخلت سوريا ومصر وشمال أفريقيا وإسبانيا، وكان الناس يكتبون حتى ذلك الوقت على الرق والعسب واللخاف، ثم أمر هارون الرشيد، بعد أن كثر الورق، ألا يكتب الناس إلا في الكاغد (الورق الكتاني).
ويعتبر هذا الأمر إنجازا كبيرا، لأن المسلمين في ظل حضارتهم المزدهرة في العصور الوسطى كانوا أكثر أمة استهلاكا للورق، حيث انتشرت في أسواقهم دكاكين الوراقين، وكان أفضل أنواع الورق الصحف الدمشقية.
المنهج التجريبي
لقد قام العالم الإسلامي على أساس من الملاحظة والتجربة، فالمسلمون أول من تحدث عن المنهج التجريبي في العلوم في العصور الوسطى في وقت كانت فيه أوروبا لا تدري من أمرها شيئًا، وهو منهج مخالف تمامًا لما كان عليه اليونانيون أو الهنود أو غيرهم، فهذه الحضارات كانت تكتفي في كثير من الأحيان بافتراض النظريات دون محاولة إثباتها عمليًا، فكانت في أغلبها فلسفات نظرية، لا تطبيق لها في الكثير من الأحايين، حتى وإن كانت صحيحة، وكان يؤدي هذا إلى الخلط الشديد بين النظريات الصحيحة والباطلة، إلى أن جاء المسلمون فابتكروا الأسلوب التجريبي في تناولهم للمعطيات العلمية والكونية من حولهم، وهو ما أدى إلى تأسيس قواعد المنهج العلمي التجريبي، الذي ما زال العلم المعاصر يسير على هديه.
ومن العلماء المسلمين الذين كان لهم باع طويل في هذا المجال جابر بن حيان (ت 803م)، والخوارزمي (ت 840م)، والرازي (864 – 930م)، والحسن بن الهيثم (965 – 1040م)، وابن النفيس (1213 – 1288م)، وغيرهم كثير، وهناك بعض العلماء وضعوا كتبا في الرحلة، فحرصوا على أمر المعاينة والمشاهدة، ومثال ذلك الطبيب والرحالة العراقي عبد اللطيف البغدادي في كتابه «الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأمر مصر»، ومعنى هذا أن البغدادي اتخذ من المعاينة وسيلة لتجربة الرحلة، لذا من حق المسلمين أن يفخروا بأنهم أوجدوا المنهج التجريبي قبل فرانسيس بيكون Francis Bacon (1561-1626م) وغيره من علماء الغرب.
في الواقع لقد كان للنهضة الفكرية الإسلامية أثر ملحوظ في تطور العلوم الإنسانية والتطبيقية للأمم المجاورة التي نقل إليها هذا التراث، في حين انحصر التراث العربي الإسلامي في موطنه بين القراءات النقدية التحليلية وانضواء معظم دارسيه تحت جاهزية المعطيات العلمية والفكرية، بالرغم مما يحتويه هذا التراث من زوايا علمية تفرد بها دون تراث الأمم الأخرى، لا سيما ما يملكه من تنوع وخصوبة منهجية ونقدية، وكان من بين هذه العلوم:
– علم النفس:
علم النفس من العلوم التي كان للمفكرين العرب دور في إبداعها وتدوينها بشكل مميز لا يخلو من الجدلية والمعاصرة الملائمة لروح العصور المختلفة، وقد أدرج ضمن الدراسات الفلسفية والحكمة والطب حيث لم يكتسب استقلاله العلمي التخصصي، بل ظهر كجزء مكمل للأبحاث الكلامية والطبية الموسعة التي قام بها الفلاسفة العرب.
كذلك بوّب العلماء المسلمون النفس ضمن مصنفاتهم الفلسفية الشاملة بعد أن ملئت شروحا وانتقادا على ما هي عليه في اليونانية، ثم أفرد بعضهم لها فصولا في المؤلفات الطبية كأبي بكر الرازي (251 هـ – 313 هـ)، وابن سينا (370 هـ – 428 هـ)، وعليه أصبح للنفس منحى نظريا في المؤلفات الفلسفية، في حين أخذت طابعا آخرا في المؤلفات الطبية التي لا تهمل الارتكازات النظرية التي دونها الفلاسفة، وأصبحت النفس مبحث علم الأخلاق، فأبو بكر الرازي الطبيب الفيلسوف كان يؤمن «بمعالجة النفوس كما تعالج الأجسام، لما لها من تأثير في صحة ومرض الأجسام، ويرى أن يكون طبيب الجسم في الوقت نفسه عالما بطب النفوس».
يعتبر كتاب «الطب الروحاني» لأبي بكر الرازي الذي يسمى بكتاب «طب النفوس» أهم المصادر التراثية لعلم النفس؛ حيث أفرده لدراسة النفس من منظور تخصصي.
يتكون الكتاب من عشرين فصلا، ورغم صغر حجمه فقد دون فيه الكثير من المعلومات النفسية؛ فعرف فيه ماهية النفس والانفعال: الكآبة، الجنس، الإدمان، العادة وحتى عقدة النقص.
كما أدلى الفقيه الأندلسي ابن حزم بدلوه في هذا الشأن، حيث تناول في كتابه «طوق الحمامة في الألفة والألاف» عاطفة الحب الإنسانية بالبحث والدرس، على قاعدة تعتمد على شيء من التحليل النفسي من خلال الملاحظة والتجربة، فيعالج ابن حزم في أسلوب قصصي هذه العاطفة من منظور إنساني تحليلي. والكتاب يحتوي على مجموعة من أخبار وأشعار وقصص المحبين، وقد وصف بأنه أدق ما كتب العرب في دراسة الحب ومظاهره وأسبابه، وقيل: إنه توصل لأفكار تفوق ما توصل إليه عالم النفس النمساوي سيجموند فرويد (1856 – 1939م).
-علم الصوت:
اهتم الفلاسفة العرب بالبحث في الصوت، وألموا بالمعلومات الأساسية فيه، ولهم تصانيف في الموسيقى ضمنوها مباحث في منشأ الأصوات، وكيفية انتقالها، واختلاف بعضها عن بعض، وتناولوا كذلك بالبحث موضوعات يتناولها الآن علم الأصوات الحديث.
فقد ذكر إخوان الصفا (القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي) في رسائلهم موجزًا شاملا في علم الأصوات وعلم الموسيقى، وضمنوا هذه الرسائل خلاصة للآراء التي سبقتهم منذ عهد فيثاغورث (ت 503 ق.م)، عرّفوا الصوت بأنه: «قرع يحدث في الهواء من تصادم الأجرام، وذلك لأن الهواء لشدة لطافته، وسرعة حركة أجزائه، يتخلل الأجسام كلها، فإذا صدم جسم جسمًا آخر، انسل ذلك الهواء من بينهما وتدافع وتموج إلى جميع الجهات، وحدث من حركته شكل كروي، واتسع كما تتسع القارورة من نفخ الزجاج فيها، وكلما اتسع ذلك الشكل ضعفت حركته وتموجه إلى أن يسكن ويضمحل».
وقد قسموا الأصوات إلى أنواع منها الجهير، والخفيف والحاد والغليظ، وعزوا ذلك إلى طبيعة الأجسام التي تصدر عنها هذه الأصوات، وإلى قوة تموج الأصوات بسببها، وفي اهتزاز الأوتار الصوتية وقفوا على العلاقة الكائنة بين طول الوتر وغلظه، وقوة شده أو توتره، وهذه التقسيمات التي صنفوا إليها الأصوات، تتفق وتقسيم الأصوات في العلم الحديث من حيث الجهر والهمس والشدة والرخاوة.
كما عللوا الصدى بأنه يحدث نتيجة لانعكاس الهواء المتموج من مصادمة جسم عال كحائط أو جبل أو نحوهما. وقد شرح الجلدكي (عز الدين أيدمر علي/ ت. 743هـ) هذه الظاهرة شرحًا كيفيا وليس قياسيا، فيقول في كتاب «البرهان في أسرار الميزان»: «ليس المراد منه حركة انتقالية من ماء أو هواء واحد بعينه، بل هو أمر يحدث بصدم بعد صدم، وسكون بعد سكون… والصدى يحدث عن انعكاس الهواء المتموج من مصادمة جسم عال كجبل أو حائط، ويجوز ألا يقع الشعور بالانعكاس لقرب المسافة، فلا يحس بتفاوت زماني الصوت وعكسه…».
ولعل أفضل عمل وصل من الفلاسفة العرب في الأصوات، رسالة لابن سينا (371 – 428هـ) بعنوان «أسباب حدوث الحروف»، وقد قسمها إلى ستة فصول:
الأول في سبب حدوث الصوت، والثاني في سبب حدوث الحروف، والثالث في تشريح الحنجرة واللسان، والرابع في الأسباب الجزئية لحرف من حروف العرب، والخامس في الحروف الشبيهة بهذه الحروف وليست في لغة العرب، والسادس في أن هذه الحروف من أي الحركات غير المنطقية قد تسمع. والصوت عند ابن سينا ينتج عن تموج الهواء دفعة وبقوة وسرعة، وسبب التموج عنده ما يسميه بالقرع والقلع، أي ما نسميه الآن بالتضاغط والتخلخل.
وقد وضع أحد الباحثين دراسة حديثة سجل فيها ريادة العرب في مجال علم الصوت، حيث عقد دراسة مقارنة بين نظرية الفونيم التي جاء بها العالم اللغوي الإنكليزي دانيال جونز في القرن العشرين، وبين نظرية الأصول والفروع في الأصوات عند ابن جني. وبعد عرض أصول النظريتين توصل عبر التحليل العلمي الصوتي لهما ريادة ابن جني في اكتشاف أصول نظرية الفونيم وتفاصيلها الدقيقة قبل دانيال جونز بقرون عديدة، كما تكشف الدراسة سبق الخليل بن أحمد الفراهيدي في بحث فيزيائية الصوت قبل علماء أوروبا معتمدا على حسه الصوتي المرهف وقدرته السمعية في تحليل الصوت.
– علم الحيوان:
علم الحيوان هو الفرع الثاني من فروع علم الحياة أو التاريخ الطبيعي، وهو علم يبحث في أحوال وخواص أنواع الحيوانات وعجائبها ومنافعها ومضارها. وموضوعه هو: جنس الحيوان البري والبحري والماشي والزاحف والطائر، وغير ذلك. والغرض منه: التداوي والانتفاع بالحيوانات، واجتناب مضارها، والوقوف على عجائب أحوالها وغرائب أفعالها.
كان اهتمام العرب بالحيوان وعنايتهم به، أمرًا طبيعيًا جبلوا عليه، خاصة أن المستأنس منها كان يمثل جزءًا لا يتجزأ من حياتهم بدوًا وحضرًا. فكانت الخيل والإبل والكلاب والشاء وغيرها عماد الحياة الاقتصادية والاجتماعية والجمالية لديهم؛ لذا عندما بدأت نهضتهم إبّان العصر العباسي، أضافوا إلى الأدب الملفوظ المحفوظ أدبيات صنفوها في كل نوع من أنواع الحيوان أليفة ووحشية، ووصفوها وصفًا دقيقًا، وبينوا صفاتها وأشكالها وطبائعها وأسماءها وأسماء أصواتها.
ومن أشهر الذين ألفوا عن الحيوان النضر بن شميل (ت204هـ/820م). ومن آثاره كتاب الصفات في اللغة الذي يتكون من خمسة أجزاء، خصص الجزء الثالث منه للإبل، كما تناول الغنم والطير، وخلق الفرس من بين ما تناول في الجزأين الرابع والخامس. وكذلك أبو زياد بن عبدالله الكلابي (ت نحو سنة 200هـ/ 815م) وله كتاب الإبل، وهشام الكلبي (ت 204هـ/ 819م) ومن تصانيفه أنساب الخيل، وأبو عبيدة التيمي (ت 207هـ/ 823م) ومن مؤلفاته في الحيوان: كتاب الفرس، كتاب الإبل، كتاب الحيات، كتاب أسماء الخيل، كتاب البازي. والأصمعي (ت 214هـ/ 829م) ومن مصنفاته: خلق الفرس، الخيل، الإبل، الشاء، كتاب الوحوش. وابن السكيت (ت 243هـ/ 857م)، ومن تصانيفه: كتاب الوحوش، كتاب الحشرات، كتاب الإبل. والدينوري (ت 282هـ/ 895م) وله كتاب الخيل.
ومن المسائل التي سبق إليها العرب أثر البيئة في الحيوانات، فيورد الجاحظ (ت 255هـ/ 869م) عددًا غير قليل من الإشارات العلمية التي توضح فهمه لهذا الأمر، وهو أول من أشار إلى أثر الهجرة والمحيط في التغيرات التي تطرأ على حياة الحيوان، فبعضها يغير لونه أو سلوكه.
على الرغم من أن إسهام العرب في حقل الحيوان لم يكن واضحًا مثل إسهامهم في بقية العلوم، إلا أن لهم آراء سبقوا بها أفكار بعض المحدثين؛ فعلى سبيل المثال تنسب نظرية التكافل أو المشاركة الحيوانية للفيلسوف الألماني جوته (1749 – 1832م)، وقد أخذ ذلك من عبارته الشهيرة في فاوست «إن روحين يسكنان صدري». إلا أننا نجد إشارات واضحة لدى كل من الجاحظ والقزويني (605 – 682هـ)، والدميري (742 – 808هـ) لهذه النظرية التي مفادها أن بعض الحيوانات التي تعيش في بيئة مكانية واحدة، قد يربط بينها نوع من المصلحة المشتركة، لذا تنشأ بينها مودة كأن يحط طائر البقر فوق البقرة ليلتقط منها الهوام، أو كأن ينظف طائر التمساح أسنان التمساح مما علق بها من بقايا اللحوم.
الأحجار الكريمة
يقول علماء الجيولوجيا: إن الأحجار الكريمة نوع من المعادن والعناصر النادرة، تتكون أساسا من مادة «السيليكا»، ويوجد نحو 4 آلاف نوع معروف من المعادن الشائعة والموجودة في القشرة الأرضية، غير أن وصف «الأحجار الكريمة» لا ينطبق إلا على عدد ضئيل جدا من هذه المعادن بسبب ندرتها في الغالب، وهو أمر تحدده ظروف الطبيعة في المقام الأول.
وقد عرف العرب المعادن والأحجار الكريمة، وكانت كلمة المعدن في أول الأمر تعني لديهم المنجم. وأول من استخدم الكلمة لتدل على المعنيين هو القزويني في عجائب المخلوقات، وتحدث العلماء المسلمون عن المعادن والأحجار، وعرفوا خواصها الطبيعية والكيميائية، وصنفوها ووصفوها وصفًا علميا دقيقًا، كما عرفوا أماكن وجود كل منها. واهتموا بالتمييز بين جيدها ورديئها، ولعل عطارد بن محمد الحاسب (ت 206هـ، 821م) كان أول من ألف كتابًا في الأحجار باللغة العربية. وهذا الكتاب هو كتاب «منافع الأحجار»، وفيه ذكر أنواع الجواهر والأحجار الكريمة، ودرس خواص كل منها، وقد ذكر الرازي هذا المؤلف في كتابه الحاوي. وهناك من العلماء من يعزو كتاب «الأحجار» لأرسطو إلى أصل سوري أو فارسي، وكتبت النسخة بالعربية منه في أخريات القرن الثاني الهجري، وعلى الرغم من قلة المادة العلمية فيه، إلا أنها تعكس آراء المسلمين عن المعادن في ذلك الوقت.
لعل أقدم نص احتوى على أسماء الجواهر التي تعدن من الأرض، هو ما جاء في أمالي الإمام جعفر بن محمد المسماة التوحيد، نذكر منها الجص (أكسيد الكالسيوم)، والكلس (كربونات الكالسيوم)، والمرتك (أكسيد الرصاص)، والذهب، والفضة، والياقوت، والزمرد، والقار، والكبريت، والنفط. ثم جاء جابر بن حيان تلميذ جعفر الصادق ليضيف بعض الجواهر والمعادن مثل الأسرب (نوع من الرصاص)، والمرقيشيا والياقوت الأحمر. وأضاف إخوان الصفا (31) جوهرًا جديدًا منها: (الطاليقوني، والإسرنج، والزاجات، والشبوب، وبواسق الخبز والعقيق والجزع). ثم أضاف البيروني الزفت واليشم والخارصين. وبالجملة نجد أنهم عرفوا من المعادن حتى عصر البيروني نحوًا من (88) جوهرًا مختلفًا مما يستخرج من الأرض.
وقد اهتم العرب والمسلمون باستثمار المعادن والأحجار الكريمة بالقدر نفسه الذي أولوه لدراستها، فتكلم المؤلفون عن المناجم والمحاجر التي يستخرج منها الذهب والزمرد وغيرهما. وقد كانت لصياغة الحلي والأحجار الكريمة في عهد العباسيين منزلة كبيرة، فكان الذهب، والفضة، والزمرد، وأنواع الياقوت، واللازورد، والآزوريت، واللؤلؤ يجلب من خراسان وإيران والبحرين ونيسابور وصنعاء ولبنان والهند وسيلان والسودان. ومن الأسماء التي اشتهرت بالخبرة في التعدين في أواخر الدولة الأموية والدولة العباسية: عون العبادي، وأيوب البصري، وبشر بن شاذان، وصباح جد يعقوب بن إسحاق الكندي، وأبو عبدالله بن الجصاص، وابن البهلول، وغيرهم كثيرون.
علم الأرصاد الجوية
علم الأرصاد الجوية يعنى بدراسة جو الأرض، والتغيرات الجوية، التي يتألف منها المناخ، ويقيس علماء الرصد الجوي الرياح، ودرجة الحرارة، ومدى الرؤية، والضغط الجوي، والأحوال الجوية الأخرى، وكذلك يقيسون المواد الكيميائية الموجودة في الجو والتي تؤثر على المناخ مثل الكربون، وثاني أكسيد الكربون، والأوزون. وغالبًا ما يتمكن هؤلاء العلماء من التنبؤ بالحالة الجوية، من خلال تحليل المعلومات المتوافرة عن الجو.
وقد حقق المسلمون في هذا المجال إسهامات كبيرة، فتكشف لنا كتب الرحالة والجغرافيين عن إدراك كامل لدورة الرياح، وأنواع الرياح سواء الجافة أو المطيرة، واتجاهات الرياح، سواء على مناطق اليابس أو البحار، وقد استفاد العرب من ذلك في حركة التجارة التي كانت تعتمد على السفن الشراعية، كما أدركوا أيضا تأثير القمر على حركة المد والجزر.
وهكذا ساهمت الحضارة الإسلامية في العديد من العلوم في عصر تألقها، إلا أن إسهاماتها لم تستمر على المستوى نفسه، فقد تعرضت للانتكاسات التي أتت من الهجمات الخارجية في صورة الغزو الصليبي والمغولي، فدمرت إنجازات الحضارة الإسلامية، وأصيبت في مقتل على حد قول المؤرخ الأمريكي ويل ديورانت، إلا أن الباحثين الغربيين المنصفين يؤكدون أن الحضارة الإسلامية مثلت الأساس الذي بنى عليه الغرب حضارته المعاصرة، حينما قام بنهضته الكبرى في العصور الوسطى في القرن الثاني عشر الميلادي.
—–
* عضو هيئة التدريس – جامعة ابن رشد – هولندا.
——
المصدر: مجلة الوعي الإسلامي.