د. حسن عزوزي*
إذا كان من الواجب المتيقن أن تظل الدعوة الإسلامية مشغولة بأمر المسلمين الملتزمين بأمور دينهم تذكرهم وتنبههم عند غفلتهم، وتسدد خطاهم وتقيم الدين الحق في مجتمعاتهم شعائر وشرائع حياة ومنهجًا، فإن ذلك لا يعني أن تنغلق الدعوة داخل شعوب العالم الإسلامي ولا تنفتح على غيرها من الأمم والشعوب أو تنطلق إلى العالمين، بل ينبغي أن يسري خطابها لكل قرن وأمة في التاريخ وكل قرية وملة وقوم على وجه الأرض. ولم يكن الإسلام في خطابه الخاتم لمدى محدود بقوم أو ملة، بل كان خطابًا للعالمين {إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} التكوير: 27. ورسول الله ” صلى الله عليه وسلم” يأمره القرآن أن يعلن في الناس أنه مرسل إليهم أجمعين، فقال تعالى له: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} الأعراف: 158
إن نجاح الدعوة يتوقف من جهة أخرى وجود لسان مشترك بين الداعي والمدعو، واللسان المشترك أوسع دلالة من مجرد معرفة بلغة مشتركة، بل لابد من معرفة ما تحويه هذه اللغة من ثقافة المدعو وخصائص بيئته، وما يشكل موقفه من أفكار ومعتقدات وما يحكم تفكيره من عادات وتقاليد.
ولعل في قوله تعالى: {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} إنكارًا للاختلاف اللغوي بين الداعية والمدعوين، إذ لا يصح أن يكون الكلام أعجميًا والمخاطب به عربيًا، لأن ذلك لو حدث لاحتاج المخاطبون إلى التفصيل والبيان. وتحقيقًا لعالمية الإسلام توّجب على فئة من الدعاة العرب أن يتمكنوا من إتقان اللغات الأجنبية، وقد وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسلمين والدعاة إلى هذا الواجب بما فعله مع الصحابي الجليل زيد بن ثابت -رضي الله عنه- حيث قال له: «يا زيد أتحسن السريانية؟ إنها تأتيني كتب بها. قال زيد، قلت: لا، قال: تعلمها، فتعلمتها في سبعة عشر يومًا» وإذا كان واجب التبليغ يفرض الترجمة لكلام الله، فهو في مجال الدعوة والتعريف بالإسلام أدعى وأكثر لزومًا.
وترتكز مهمة التعريف بالإسلام باللغات الأجنبية على وسائل دعوية فعالة وناجعة تستجيب لمتطلبات الواقع المتغير ورهانات المستقبل المتطور، مستفيدة في ذلك من الثورة الاتصالية والتكنولوجية التي يشهدها عالم اليوم وهو يستقبل قرنًا جديدًا، وتنطوي هذه المهمة على جملة من المرتكزات منها:
1) تكنولوجية الوسيلة: بحيث يتم توظيف واستغلال كافة الوسائل التكنولوجية المتطورة في التبليغ والإعلام، وذلك لكي تؤدي عملية التعريف بالإسلام باللغات المختلفة وظيفتها على أوسع نطاق وبسرعة هائلة، خاصة وإن البلدان غير الإسلامية تمتد على مساحات شاسعة ومتباعدة. ولا تخفى أهمية توظيف الوسائل التكنولوجية في جعل المعلومات والمعطيات تتدفق بصورة كبيرة، حيث تتعاظم وتتوالد المعرفة المراد تبليغها والتعريف بها، ثم يتم الإسراع في نشرها وتداولها.
وتتزايد أهمية هذا المرتكز (الإعلامي– التكنولوجي) في ضوء تكاثر الأقليات والجاليات الإسلامية عبر كل بقاع العالم، وصعوبة بلوغ الدعوة إليها والتواصل معها، ومع قادة العمل الإسلامي عن طريق الوسائل التقليدية التي كانت سائدة قبل عقد من الزمن.
2) توفر مؤسسات إعداد الدعاة وتدريبهم: فإذا كانت مهمة التعريف بالإسلام باللغات الأجنبية تقتضي دعوة الناس إلى الإسلام وبيان مبادئه وحقائقه، فإن الأمر يحتاج إلى تدريب وتخطيط وحسن استيعاب لمقتضيات ومتطلبات الدعوة في صفوف غير العرب، حيث إن الداعية ينبغي أن يكون عالمًا بمختلف الأديان والفلسفات والأنظمة مطَّلعًا على ظروف وأحوال المجتمعات المدْعُوة، ملمًا بمناهج الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة وأساليب الحوار والجدال والإقناع، وخبيرًا بإحدى اللغات الأجنبية في خصائصها وأساليبها المتنوعة. وهذا كله لا يتأتى تحقيقه في معظم الأحيان في عصرنا الراهن إلا من خلال المؤسسات التعليمية التي تهدف إلى إعداد الدعاة علميًا، وتدريبهم عمليًا على القيام بالدعوة، حيث تزودهم بالقدرات، وتضع بين أيديهم الوسائل التي تعينهم على القيام بتبليغ الإسلام ونشر دعوته باللغات المختلفة، وفقًا لأحدث ما تم التوصل إليه من وسائل وأساليب لإعلام الناس ومخاطبتهم وغزو عقولهم وقلوبهم بما يؤثر في نفوسهم ودعوتهم بالطرق المقنعة.
ولقد قامت بعض الدول والمنظمات والهيئات الإسلامية بإنشاء جامعات وكليات ومعاهد تعنى بشؤون وعلوم الدعوة، بل إن بعض هذه الجامعات اتجهت إلى إنشاء كليات وأقسام متخصصة في تخريج الدعاة وتأهيلهم وتدريبهم على حمل أعباء الدعوة في الخارج.
3) وفرة وتنوع الكوادر والطاقات العلمية العاملة في مجال الدعوة، سواء داخل العالم الإسلامي على صعيد كل دولة إسلامية بما تتوفر عليه من صفوة من العلماء والدعاة المؤهلين للقيام بمهمة التعريف بالإسلام باللغات المختلفة، أو خارج العالم الإسلامي من خلال التعاون مع العاملين النشيطين في مجال الدعوة والمنتظمين في دوائر الجمعيات والمنظمات والمراكز الثقافية الإسلامية المستقرة بالبلدان غير الإسلامية.
4) اتساع نطاق المادة التي يتم نشرها وبثها، وكذا دائرة السبل والأساليب التي يمكن توظيفها بهدف التعريف بالإسلام باللغات المختلفة، وهو ما يسمح به الجانب الإيجابي من معطيات العولمة الثقافية، لذلك فالخطة ترتكز على حسن استغلال ما يمكن تسميته بعولمة الإنتاج الدعوي، حيث تفرض الضرورة الانتقال من مستوى استخدام الصحف والمجلات والأشرطة إلى استغلال تقنيات البث الفضائي والأقراص المضغوطةCD -ROM وشبكة الإنترنت العالمية، وعقد المؤتمرات والمناظرات والمعارض الدولية داخل المعاقل الغربية وغيرها.
5) التخطيط المحكم والتنظيم الدقيق لكل المراحل والخطوات والإجراءات الكفيلة بتحقيق مهمة التعريف بالإسلام باللغات المختلفة على أحسن الوجوه، وهذا الأمر يمكن تحقيقه بفضل التعاون المشترك والتنسيق المستمر بين مختلف المنظمات والهيئات الإسلامية في العالم الإسلامي، وكذا بينها وبين الجمعيات والمراكز الثقافية، ومما يمكن الإشارة إليه بهذا الصدد ما يلي:
أ) تنويع الأساليب والطرق التعريفية بالإسلام، وجعل مواصفات الخطاب الدعوي بالخارج تتعدد لتسع جميع المخاطَبين أينما وجدوا في كل مرحلة ولكل حالة.
ب) دراسة ورصد واقع وحال المخاطَبين (المدعوين) ومستوياتهم الدينية والثقافية وتبين الفوارق بينهم، ومراعاة الخصائص والفروق الجنسية والعرقية على الأفراد والشعوب، فالأمر أصبح أساسًا مقررًا، وحقيقة مسلمة لدى علماء النفس والاجتماع وخبراء التربية والتعليم، وآن لنا أن نستفيد منها في مجال التعريف بالإسلام باللغات الأجنبية المبنيِّ على أساس الفهم المشترك العميق بين الداعي والمدعو، ليتم الاتصال الذي يحقق الغاية كاملة، وكل ذلك يحتاج إلى فحص وتقويم، ثم إلى إحاطة واستيعاب من أجل توفير أنماط من الخطاب وأصناف من الدعاة المُعرفين بالإسلام، فالدعاة في الداخل غيرهم في الخارج.
ج) تغطية كافة المناطق الجغرافية في العالم وفق تخطيط منظم يرسم صورة كاملة لخريطة الدعوة بالخارج، وإذا كان التوزع الجغرافي للأقليات والجاليات الإسلامية لا يسمح بالتواصل الكامل وتوحيد عملية الدعوة والتعريف بالإسلام باللغات الأجنبية، فإن مما ينبغي الاهتمام به تنسيق الجهود واستثمار الطاقات من أجل رسم وضبط خريطة الدعوة في البلدان غير الإسلامية، كما أن التطور الهائل للشأن الديني والثقافي للجاليات والأقليات الإسلامية في الغرب المبنيِّ أساسًا على تحول الوجود الكميِّ إلى تأثير كيفيِّ بصورة متنامية ومثيرة تستدعي تصور خريطة الدعوة أولًا، ثم العمل على تطوير العمل في إطارها واستشراف واقع أفضل لعملية التعريف بالإسلام باللغات الأجنبية.
د) ضرورة إعادة النظر في أبرز مكونات العمل الدعوي في الغرب في التجارب السابقة، وفق نظرة جديدة في التخطيط والتدبير، من أجل تجاوز السلبيات ومواطن الخلل واقتراح خطط التغيير والتجديد الرامية إلى تحقيق الأهداف المنشودة والغايات المقصودة من وراء تفعيل مهمة التعريف بالإسلام باللغات الأجنبية.
6) توظيف مختلف اللغات في عملية التعريف بالإسلام لأنها الأداة الضرورية لتحقيق التواصل بين الداعي والمدعو، وتوجيه خطاب التعريف في اتجاه غير العرب الذين يشكلون أغلبية المدعوين، ولا يتم ذلك إلا باتحاد اللغة بين الداعية والمدعو، أيًا كانت هذه اللغة، ولهذا المعنى أرسل الله رسله السابقين إلى أقوامهم بلسانهم حيث يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم: 4) ويعتبر هذا المرتكز أساسيًا في سياق انفتاح الدعوة الإسلامية على الأجناس والشعوب والقوميات الأخرى التي لا تستطيع استيعاب ومعرفة أحكام ومعطيات الإسلام بغير لغاتها الأصلية. وهذا أبرز ما يميز الخطة، حيث إنه بفضل استغلال هذا المرتكز يمكن الاستجابة لحاجيات الدعوة الإسلامية، وتلبية طموحها وفتح آفاق رحبة لعملية التعريف بالإسلام وتبليغ أسسه ومبادئه على نحو أوسع وأرحب.
بيد أنه عند التمعن جيدًا في خريطة التعددية اللسانية في العالم، يتبين أن اللغات القومية متعددة ويصعب حصرها، وبالتالي فإنه ليس من السهل إيجاد دعاة قادرين على التحدث باللغات المحدودة الانتشار، أما اللغات التي تتحدث بها أكثر من دولة واحدة.
——
المصدر: الوعي الشبابي.