الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

حول الجذور الفكرية لأزمتنا الأخلاقية (11)

د. حازم علي ماهر

الواجبات قبل الحقوق!

ختمت المقالة السابقة بالتساؤل عما طرحه مالك بن نبي بخصوص كراهية المسلم المعاصر للمنطق العملي؛ التي تعيقه عن العودة لصناعة التاريخ وإقامة الحضارة بما ينفع الخلق أجمعين، وأولهم المسلمين الذين هم –في أغلبهم- مستضعفين، من الداخل ومن الخارج، بل ومنهما معًا غالبًا كذلك!

والحقيقة أن غالبية أطروحات مالك كانت تضع حلولا عملية لتلك المشكلة، سواء بالحث على تفعيل العقيدة وتنمية أثرها في النفوس لتنطلق في بناء مجتمع قوي متين يتيح لأفراده إمكانية التطور والنهوض من بعد جمود أو تراجع غير محمود، أو من خلال الاهتمام بتغيير ثقافة المسلم المعاصر بما يجعله يتطور أخلاقيًا وعمليًا وجماليًا وتقنيًا، ومن ثم يقيم حضارته بنفسه عبر البناء لا من خلال تكديس منتجات حضارة أخرى تقترب هي الأخرى من الأفول.

غير أن هناك فكرة رئيسة تبناها مالك في هذا الشأن، وهي فكرة أداء الواجبات كسبيل وحيد للحصول على الحقوق: “التاريخ لا يبدأ من مرحلة الحقوق، بل من مرحلة الواجبات المتواضعة في أبسط معنى للكلمة، الواجبات الخاصة بكل يوم، بكل ساعة، بكل دقيقة، لا في معناها المعقد، كما يعقده عن قصد أولئك الذين يعطلون جهود البناء اليومي بكلمات جوفاء، وشعارات كاذبة يعطلون بها التاريخ، بدعوى أنهم ينتظرون الساعات الخطيرة والمعجزات الكبيرة”(في مهب المعركة، ص78)!

فالحقوق تجتذب الانتهازيين المحتالين على الناس، بينما الواجبات لا يدعو لها ويدعمها وينفذها إلا المخلصون الجادون المقاومون للانحطاط الحضاري ولتفسخ “شبكة العلاقات الاجتماعية”، ولذا اعتبر مالك بن نبي الحديث عن الحقوق بشكله السائد في عصره –وفي عصرنا كذلك- هو مجرد جزء من عملية الاحتيال الجارية في (العالم الإسلامي المعاصر)، بفعل عملاء الاستعمار؛ والذين يدركون أن إلقاء الخطب حول الحقوق أكثر ربحية من القيام بأدنى واجب من شأنه أن يسمح الحال بالولوج في حصيلة النهضة الإسلامية (بتصرف من: مذكرات مالك بن نبي: العفن، ص16).

والحقيقة أن بن نبي لم يكتف بتلك الدعوة المهمة في حد ذاتها، بل جسدها هو شخصيًا على مدى حياته في كتاباته ومواقفه ومقترحاته، وسأختار نموذجين مبسطين من أفكاره التي تسبق فيها فكرة القيام بالواجب –ولو صغر- فكرة المطالبة بالحق –ولو كبر؛ أولهما يخص قضية مكافحة الأمية، حين لاحظ أن مطالبة الإدارة الاستعمارية لا تحل المشكل الخطير للأمية وإنما تعمل على إدامته واستفحاله، فقرر أن يعرض القضية ليس على الساحة الإدارية وإنما على الضمير الجزائري: “وهكذا قمت بتحرير مقال عرضت فيه كيف يجب أن تحل المشكلة بإمكانياتنا الذاتية وأشرح من خلاله كيف أن (المطالب) تصب في خانة مصالح الإدارة الاستعمارية التي كانت على يقين بأن المسلمين لا يقومون بشيء أبدا من تلقاء أنفسهم. وقد بينت (وسائل) حل المشكلة بتوزيع عدد الأميين على عدد المثقفين حتى الذين كانوا في طور الابتدائي، وكنت مدركا تماما أني حولت خطة المشكلة جذريا وبطريقة خطرة جدا” ويقصد بالطبع أنها تمثل خطرًا على النهج الاستعماري الذي يعمل على من كل ما من شأنه أن يفشل سياسات تجهيله للشعوب وإفقاره وتكبيلها بالاستبداد حتى تسهل مهمتها في السيطرة المريحة عليها!

وأما النموذج الثاني فيتعلق باقتراحه تعويد الطفل والمرأة والرجل على تخصيص نصف ساعة يوميا لأداء واجب معين؛ “فإذا خصص كل فرد هذا الجزء من يومه في تنفيذ مهمة منتظمة وفعالة فسوف يكون لديه في نهاية العام حصيلة هائلة من ساعات العمل لمصلحة الحياة الإسلامية في جميع أشكالها العقلية والخلقية والفنية والاقتصادية والمنزلية. وسيثبت هذا (النصف ساعة) عمليا فكرة الزمن في العقل الإسلامي، أي في أسلوب الحياة في المجتمع، وفي سلوك أفراده، فإذا استغل الوقت هكذا فلم يضع سدى ولم يمر كسولاً في حقلنا، فسترتفع كمية حصادنا العقلي واليدوي والروحي، وهذه هي الحضارة” (شروط النهضة، ص141).

هكذا ببساطة يدلنا مالك بن نبي على السبيل إلى مقاومة الوهن والمهانة، لا باستخدام العنف، ولا من خلال المتاجرة بقضايا الدين والوطن في سوق السياسة التي تدور في إطار خدمة الاستعمار وتتحرك وفق إشارته، ولا برفع الشعارات الطائفية التي تثير الكراهية وتحرش بين مكونات المجتمعات الإسلامية ومواطنيها من المذاهب والفرق والديانات المختلفة، بل عبر عمران الإنسان والأكوان، وبسواعد صانعي الحضارة من المواطنين عبر تحالفهم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا، متنافسين على القيام بواجباتهم ليحصلوا بها على حقوقهم في الحياة الكريمة، بانتزاعها من المتسلطين عليهم من المستدمرين –لا المستعمرين- وأعوانهم.

إن اختياري مشروع مالك بن نبي جاء لكونه لا يزال صالحًا للانطلاق منه نحو استعادة العزة الحضارية، رغم تصور البعض بأن الشعوب الإسلامية قد حصلت على استقلالها وحريتها، ومن ثم باتت أطروحة مالك عن الاستعمار والقابلية للاستعمار لا محل لها، بدليل أن (المستدمرين) قد رحلوا بمجرد سحب بعض قواتهم العسكرية، غافلين عن أن هؤلاء قد رحلوا ليبقوا –على حد تعبير أ.د. سيف الدين عبد الفتاح- وأنهم لا يزالون يتسلطون ويهيمنون على الشعوب الإسلامية مع اختلاف أساليب هيمنتهم وأشكالها، بين الإملاء والإغواء، كما أن الانحطاط الحضاري والأخلاقي في عالمنا الإسلامي لا يزال يسير نحو القاع وبات أغلب مواطنيه ينحصر في حلم الوصول إلى قعر هذا القاع عسى أن ينطلقوا حينها من جديد!

وسأضطر للتوقف الآن عن استعراض المزيد من هذا المشروع الفكري الرائد رغم ثرائه، حتى أعجل بإنهاء الحديث عن نكبة الوهن الذي طال بشدة رغم كونها نكبة واحدة ضمن نكبات أخلاقية عديدة أحاول سبر أغوار جذورها الفكرية في هذه السلسلة من المقالات، ولذا سأخصص مقالة أو مقالتين أخريين فقط أوجز فيهما ما أقترحه من علاج للنكبة تلك، وأما من يريد الاستزادة حول أفكار مالك بن نبي فأمامه كتبه القيمة المنشور معظمها ورقيا وإلكترونيًا، وأمامه كذلك مؤلفات عميقة عديدة عن مالك بن نبي وفكره (وقد سبق لي أن تشرفت بإعداد بحثين –متواضعين- عن مالك بن نبي نُشرا في مجلة المسلم المعاصر- العدد 118 عام 2005م، والعدد 163 عام 2017م) عسى أن نستفيد من أفكار هذا المفكر العملاق جميعًا، أفرادًا وجماعات، وأوطانًا ومجتمعات!.

——–

(ينشر بالتعاون مع موقع الباحث عن الحقيقة).

 

مواضيع ذات صلة