الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

حول الجذور الفكرية لأزمتنا الأخلاقية (2)

د. حازم علي ماهر

لا يستطيع عاقل أن يزعم أنه من الممكن أن نقضي تمامًا على الفجوة بين المسلمين والإسلام، لأنه من المستحيل أن يطابق النسبي المطلق بصفة عامة، ولكن –بالمقابل- فإن العجز عن الكمال لا يمنع من نشدانه وطلبه قدر الوسع، ناهيك عن ضرورة بذل الجهد في سبيل التخلص من القصور والعجز المؤديين إلى التناقض الفادح بين الاعتقاد والسلوك.

نحو تضييق الفجوة بين المسلمين والإسلام

الواقع أن تضييق الفجوة بين سلوك المسلمين ومبادئ الإسلام وقيمه وأحكامه، هو حلم المصلحين المخلصين الذين يسعون إلى أن يكون الناس جميعًا –لا المسلمون وحدهم- أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، يريدون وجه الله تعالى، وليست هذه السطور إلا محاولة للسعي إلى الهدف نفسه مع الاستفادة من أدبيات هؤلاء المصلحين وما أشعلوه من إضاءات تنير لنا الطريق نحو الإصلاح، لاسيما في وقتنا هذا الذي لا يراوح فيه كثير من المسلمين أماكنهم إلا للرجوع إلى الخلف!

وقد سبق القول في المقال السابق أن هدم الفجوة القاتلة بين الإسلام والمسلمين لن يتأتى إلا بإعادة فهم الإسلام من جديد، والعمل على تفعيل عقيدته وأحكامه الكلية والجزئية ليتخلق المسلمون بها في حياتهم، أي أن الحل باختصار يتلخص في كلمتين سمعتهما مرارًا من أحد أساتذتي الموقرين، وهما: “الوعي والسعي”، ومؤداهما أن نفكر بعمق ونعمل بجد وإتقان في الوقت نفسه، ومن ثم نتخلص فورًا من حالة “الكسل العقلي” ومن جمود الفكر وتخبط الحركة أو انعدامها أحيانًا للأسف الشديد.

ومن أهم الأمور التي علينا أن نعيها بصدد الحفر في أعماق أزمتنا الأخلاقية أننا كي ننتفع بالإسلام في القضاء على الأزمة تلك -كما انتفع به الأولون- فإن علينا أن نخلصه من التشوهات والشوائب التي علقت به على مدى قرون.

وسأحاول الآن استعراض بعض من تلك الأسقام إجمالاً، قبل التعرض لها تفصيلا في ثنايا الحديث عن النكبات الأخلاقية فيما بعد، وذلك على النحو الآتي:

أولاً: عدم التمييز بين النص الإلهي والاجتهاد البشري:

فقد حدث خلط رهيب بين النص الشرعي وبين قراءاته وتطبيقاته، والنتيجة –على سبيل المثال- أن تفاسير القرآن كادت أن تتساوى فعليًا بالقرآن نفسه، على الرغم من أنها مجرد اجتهادات بشرية في فهم آياته، تتأثر بالسياق الزماني والمكاني المحيط بالمفسرين وبطبيعتهم الشخصية وخبراتهم الحياتية المتباينة، وهو الأمر نفسه الذي حدث بشأن الفقه والتاريخ والأعراف التي باتت –عند البعض- مصادر مستقلة للتشريع الإسلامي بصفة عامة وللأخلاق والمعاملات بصفة خاصة، حتى لو خالفت بعضها –أحيانًا- روح الشريعة ومقاصدها الكلية والجزئية، أو فقدت صلاحيتها لاختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة والأحوال..، مما ألبس على المسلمين دينهم وأدخلهم في متاهات وإحباطات وتشرذمات كانوا في غنى عنها لو استبانت لهم -من البداية- الفروق بين الدين والتدين، بين كلام الله عز وجل وما صَحَّ من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وبين اجتهاد البشر في فهمهما وفي تنزيل ما فهموه على واقعهم المتحرك!

وقد أدى هذا الخلط بين الإلهي والبشري إلى كثير من الكوارث الأخلاقية على المسلمين، لاسيما بعد مقتل ثالث الخلفاء الراشدين، عثمان بن عفان (رضي الله عنه)، وما ترتب عليه من افتراق الأمة ونقض إجماعها وتشرذمها إلى فرق وشيع بالغت في شخصنة الإسلام وفي تحقير المخالفين لها، مما أسهم في حرمان الأمة بالتدريج من فاعلية قيم إسلامية أساسية كالشورى والعدل والإنصاف والمساواة…، وخاصة بعد أن تحولت الخلافة الإسلامية الراشدة إلى “ملك عضوض” أسهم هو الآخر في بذر التخلف الأخلاقي عن الإسلام وبالتالي في الاتساع المهول في الفجوة بين المسلمين ودينهم.

ومن ثم فإن الخطوة الأولى في سبيل إعادة الاتساق بين الذات الإسلامية وهويتها تتمثل في فض الاشتباك بين الإسلام، قرآنًا وسنة صحيحة، وبين اجتهادات البشر في فهمه وفي تنزيله، باعتبار أن ذلك سيعيد للإسلام قدسيته ونقائه وصفائه، ويبرز مقاصده العامة والخاصة وكلياته وقيمه وأولوياته الأساسية، ومن ثم يعيد إليه فاعليته وتأثيره الأخلاقي بعد أن يدرك الناس مدى عظمة هذا الدين التي لا يمكن أن يستوعبها –كاملة وبإطلاق- اجتهاد بشري عرضة للخطأ أو النسيان أو الفتن أو الضلال!

ثانيًا: توظيف الإسلام:

والمقصود بتوظيف الإسلام جعله وسيلة للحصول على نفع دنيوي ما، سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي أو غيره، بدلا من توظيف الناس واستثمار الكون كله لخدمته ولتفعيل مبادئه وقيمه بإخلاص في تحقيق العبودية لله الواحد الأحد وتزكية النفوس والعقول وعمران الدنيا والآخرة.

فهناك أبالسة من البشر ألبسوا على الناس دينهم حتى لا يحول بين هؤلاء الشياطين وبين ما يشتهون، ومن أبرز الأمثلة على ذلك كارثة تسييس الإسلام، بمعنى جعله أداة لتحقيق مكاسب سياسية ما؛ كاعتلاء السلطة أو الحفاظ عليها، أو الانتقام من الخصوم وتشويههم وإضعافهم، أو تخدير المحكومين لتيسير الهيمنة عليهم وصرف أنظارهم عما فيه من قيم مقاومة للوهن، وللاستبداد، وللظلم، وللتبعية للمستكبرين، وللإفساد.

ولا علاج لذلك الأمر إلا بكشف هؤلاء الأبالسة ووقف تشويههم للإسلام واستخدامه مطية لتحقيق أغراضهم الدنيوية، والتصدي لهم ولمخططاتهم، وبإلزامهم برفع أيديهم عن الدين وعن مؤسساته وعلمائه ودعاته، وبالكف عن رفع شعاراته، وإلا سينالون عكس مقصودهم، ويحال بينهم وبين تحقيق مآربهم، وهو عقاب لو تعلمون تأثيره عظيم في تضييق الفجوة بين الإسلام والمسلمين!

ثالثًا: الخلل في الدعوة الإسلامية- مفهومًا ومؤسسات ودعاة:

تعد الدعوة الإسلامية من المجالات التي تسبب إساءة فهمها وتطبيقها في تشويه الإسلام نفسه في أذهان الناس، حتى بدا للبعض وكأنه “شيطان دموي مخيف”، على عكس حقيقته كدين ملائكي رحيم يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القرب وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، ومرجع ذلك -بغض النظر الآن عن الدور الإعلامي البارز الذي يستهدف تشويه الإسلام والحط من شأنه لإحكام السيطرة على المسلمين- إلى أن بعض الدعاة تغافلوا عن أن الأساس في الدعوة الإسلامية هو العمل الصالح –الصامت- غالبًا الذي يجذب الناس للالتزام الديني بهدوء وروية، لا رفع الأصوات بشعارات لا تجد تجسيدًا في حياة من يصرخ بها، مما ينفر المدعوين من هؤلاء الدعاة وما يدعون إليه فيهجرونهم إلى اتجاهات أخرى بعضها قد يكون معاديًا للدين غير أنه يكون متسقًا في أخلاقه مع ما يدعو إليه فيكتسب ثقة الناس مع بطلانه في جوهره.

من أجل ذلك فإنه من الأهمية بمكان إصلاح حال الدعوة الإسلامية لتعتمد على التزام السلوك الأخلاقي الرشيد من قبل الدعاة -وهم سائر المسلمين بالمناسبة؛ فكل مسلم داعية للإسلام في محيطه- وهو أمر سيتحقق بتحرير الدعاة أنفسهم باستقلاليتهم وبتمكينهم من العيش الكريم الذي يحفظ كراماتهم الإنسانية، ويرفع عنهم الإصر والأسر والهدر والقهر!

وهذا التحرير المنشود للدعاة لن يتحقق إلا بإعادة الاحترام والهيبة للمؤسسات الدعوية الإسلامية ولعلمائها من خلال خطوات عملية عاجلة تتعلق بفض تبعية المؤسسات تلك لأية جهة تستغلها سياسيًا أو اقتصاديا أو بأي وجه من أوجه الاستغلال غير الشرعي الذي يجعل منها أداة نفعية مادية قد تصد الناس عن دينهم بأكثر مما تهديهم إليه، فهذه المؤسسات لا تقل أهميتها عن مؤسسة القضاء -على سبيل المثال- والتي تتمتع باستقلالية مالية وإدارية عن الدولة تمكنها من القيام بعملها على خير وجه دون أن يكون على قضاتها سلطان غير ضمائرهم ونصوص القانون.

غير أنه لابد من مراعاة مبدأ بالغ الأهمية في كل الأحوال، تعبر عنه مقولة خالدة، وهي: “لا كهنوت في الإسلام”، أي أن الإسلام يخلو من وجود أي واسطة بين العبد وربه، فضلا عن أن مصادره مستقلة عن أية جهة كذلك، لها السيادة على جميع السلطات البشرية، وهي الميزان لا الموزون، بمعنى أنها هي الحَكَم بين الناس لا هؤلاء الأشخاص الموقعين عن رب العالمين ولو كانوا مستقلين ومخلصين!

رابعًا: افتقاد الرشد والفعالية في التعامل مع المفاهيم الإسلامية:

لعل هذا الخلل من أبرز ما يتسبب في إقامة حواجز عالية بين المسلمين ودينهم، وقد سبقت من قبل الإشارة إلى إساءة فهم مصطلحات إسلامية أساسية، كمصطلح الإسلام نفسه، والعبادة والعمل الصالح، مما أدى إلى فصلها إلى حد كبير عن مضامينها الحقيقية ومن ثم أعاق قدرتها على الإصلاح، بل وتشوه مفهوم الإصلاح ذاته ليُحمَّل بمعان تضليلية تسهم أكثر في ابتعاد الناس عن روح الإسلام ومقاصده، مثله مثل مفاهيم الفلاح والتقدم والنجاح، فباتت جميعها مشبعة بمعانٍ نفعية مادية ترتبط بتحقيق مصالح عاجلة تفسد الآخرة!

ومن الطبيعي أن يترتب على تشويه المفاهيم الإسلامية وتشويشها، جمود الحركة لأجل تفعيلها أو التحرك عكس مراميها وغاياتها، فتجد مفهوم الجهاد نفسه الذي شرع بقصد حماية الدين والنفس والمال والعرض والعقل والنسل، تحتج به جماعات عميلة لأعداء الإسلام، بالاتفاق أو بالغباء، أو بكليهما معًا، في الاعتداء على كل ما شرعت أحكام الإسلام لحمايته، فيهلكون الحرث والنسل بحجة نصرة الدين والدفاع عنه!

والواقع أنه لن يحدث تقريب حقيقي بين سلوك المسلمين ومبادئ الإسلام وقيمه الأخلاقية إلا بعد تحرير المفاهيم الإسلامية مما علق بها من معان مضللة، ثم إعادة تعريفها إجرائيًا بما يتضمنه ذلك من وضع خريطة تفعيلية لكل منها في عقول الناس وفي سلوكهم وفي واقعهم، لتحقق مقاصدها، لاسيما مقصد تحسين الأخلاق التي بعث النبي صلى الله عليه وسلم ليتمم مكارمها.

كما أن علاج الأسباب التي تقف وراء الفجوة بين الإسلام والمسلمين لا تكفيها بعض الكلمات أو الأطروحات النظرية، على أهميتها، بل لابد من النظر دومًا إلى النواحي العملية التشغيلية، خاصة أن الأصول المرجعية التي انطلق منها المسلمون وبنوا حضارتهم الكبرى لا تزال باقية وستظل محفوظة إلى قيام الساعة، ولا تحتاج سوى إلى إعادة القراءة بمنظور مقاصدي تفعيلي، يعيد للأخلاق الصدارة من جديد كهدف رئيس ومدخل لأي نهوض حضاري إنساني شامل متكامل.

وستحرص المقالات المقبلة من تلك السلسلة قدر الإمكان على تقديم مقترحات عملية للقضاء على كل أزمة من أزماتنا الأخلاقية بعد مناقشتها وبيان أسبابها.

والله المستعان.

——

(ينشر بالتعاون مع موقع الباحث عن الحقيقة).

مواضيع ذات صلة