القائمة الرئيسية
 الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

فنون التسويق والتعريف بالإسلام.. لماذا لا نستفيد منها؟

الشيخ طه عامر*

كنت أسير يوما في أكبر شارع تجاري بمدينة فرانكفورت ورأيت مجموعات من الشباب غير المسلمين يَعرضون على الجماهير منتجاتهم ويحرصون على جَلْب الزبائن بأساليب وفنون باهرة، تجعل المُدْبر مقبلا والمتردد متقينا، والمرتاب مطمئنا، ثم ساءلت نفسي: لماذا لا نملك هذه المواهب والروح والهمة والفنون في عرضنا لأعظم تجارة وأغلاها وأسناها؟ {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}؟

لماذا لا نبذل عُشْر الجهد الذي يبذله غيرنا في التسويق لبضائعهم في شد أنظار الخلق إليها؟ لماذا نُزَهد الناس فيما عندنا؟ لماذا لا ندرك أنَّ ما نملكه، الناس أحوج إليه من حاجة الجسد للغذاء والماء والهواء؟ وهل ندري ما نملكه حقا؟ هل نعرفه على وجهٍ دقيق؟ هل ننتفع به على النحو الذي يغري غيرنا باستطلاعه؟

لقد جعلني الشاب أستمع إليه رغم انشغالي.. فكيف فَعَلَها؟ نعم لقد أحسن الاستهلال عندما رسم ابتسامة عريضة على وجهه، ثم تلطف واستأذن بأدب مخجل أن أسمعه ولو دقيقة وقد فعلت، وقلت: إن هذا الشاب ومن معه من الشباب والفتيات وغيرهم يبقون على هذه الحالة النشطة والروح المتألقة، والوجه المشرق واللسان العذب الذَرِب ساعات وساعات، ولا يغيرهم صدود أحد أو نفوره أو إساءته، ولا يملون ولا ييأسون، وإن أعرض عنهم مارٌّ أقبل عليهم غيره، وتلك مكامن القوة وأسباب السعد والفوز، وإلا فهو الفَوْت، وليلتمسوا مكانا آخر، أو يسترزقوا من عمل غيره. وغير بعيد عنهم رأيت مجموعة من دول شرق آسيا يقيمون معرضا لقضية إنسانية يُعرِّفوا بها بوسائل سهلة مثل: اللوحات والصور والرسوم، بعيدا عن الصراخ والضوضاء، وقد وصلت رسالتهم للناس في هدوء.

سفراء الإسلام

انتحيتُ جانبا وقلت: لو استفدنا من مواصفات وأخلاق وأساليب هؤلاء المروجين لما عندهم وطوَّعناها في التعريف بالإسلام لتغيَّرت نفوسٌ كثيرةٌ تاقت لرؤية مصارع هذا الدين وإهلاك أهله، لم يكن عبثا أن تخيَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير من صحابته الكرام ليلقى بزمام الدعوة بين يديه في الأرض الموعودة بالنور والسرور، فقد اجتمع فيه مقومات الداعية المبشر بالهدى ودين الحق.  ذكاء وقَّاد، وحسن مظهر آسر، وفصاحة وبيان، وحكمة وحجة وبرهان، وحلم ورفق وإيمان، وبشاشة وجه ورحابة صدر وإحسان.

لقد أذهل بحسن منطقه وقوة حجته وهدوء نفسه –صلى الله عليه وسلم- أُسَيْد بن حضير وسعد بن معاذ، ولما وقفا عليه غاضبين كان رده عليهما واحدا تلو الآخر: “أو تجلس فتسمع فإن رضيت أمرا قبلته وإلا كففنا عنك ما تكره” هكذا بكل صدق وثبات وهدوء، وبعد أن أتيا إليه منكرين، ولطرده وربما قتله راغبين، إذ بهما ينتظمان في قافلة النبوة، وركب الخير، وطريق النجاة. أين نحن من سفراء الرسول صلى الله عليه وسلم؟

فهم مغلوط

بعد الفراغ من صلاة الجمعة سلَّمتُ على بعض الشباب، وكان بينهم شاب ألماني دخل في الإسلام قبل شهور، ورأيت أنَّ هيئته غريبة، أطال لحيته دون تهذيب، ولبس عمامة فوق رأسه وملابس تشبه ملابس الجيش، فقلت له -مشفقا وناصحا بحب-: لم تلبس هذه الملابس؟ هل ستمشي بها في الطريق؟ فقال نعم، فقلت وماضرَّك أخي لو لبست كما يلبس الشباب فلا تكون غريبا عن الناس، ولا تجعل من هذا الهدى الظاهر حاجزا لما عندك من الخير؟

إن قيم الجمال تنطق بها نصوص القرآن والسنة بغير حصر، فلماذا لا نعتني بجمال الأخلاق والسلوك والقلوب والأجساد؟!

أنكر علي قولي غاضبا وقال: أتريدني أن أتشبه بالكفار؟ قلت وما وجه التشبه الممنوع هنا؟ إن التشبه المحظور هو مما يدخل في شأن العبادات والعقائد، أمَّا ما نتحدث عنه الآن فلا شأن لنا به، ولماذا هذه اللهجة التي يقطر منها الكراهية؟ هؤلاء قومك وأهلك، والإسلام لا يزيد المؤمن إلا برا بأهله ووطنه، ولا يعزله عنهم. نظر إلي ولم يعبأ بقولي ثم مضي.

ورأيت قبل أيام برلمانيا أوروبيا بعد أن دخل في الإسلام لبس “طاقية” وجلبابا” وخرج يتحدث للإعلام، ورأيت صورة له قبل فرجوت لو بقي على لباسه العصري لكان أولى وأقرب وأبعد عن تساؤلات جزئية تأكل الأوقات، وتصرف الأذهان عن الانشغال بحقائق الإسلام الكبرى.

صورة التدين في أعين الناس

إن الناس ترقب التحولات الفكرية والسلوكية والأخلاقية التي يضفيها التدين على صاحبه، فإن رأوا أن الدين زاد المرء سعادة واستقرارا واستقامة وحسن خلق ونجاحا في الحياة، وتفاعلا مع الخلق كان ذلك أفضل دعاية لهذا الدين، وإن رأوا أنه بمجرد أن يدخل إنسان في الإسلام أو كان مسلما عاصيا ثم تاب الله عليه لكنْ لم يروا منه إلا وجهها عابسا، ولسانا غليظا، وقلبا قاسيا، وعزلة عن الحياة، وخصاما للمباهج المباحة فهيهات أن يقتربوا من دين يسرق منهم فطرتهم.

ذات يوم صليت العشاء ثم جاءني شاب وقال لي: أريد مساعدة، قلت له: وما هي؟ قال أريد أن تلف لي هذه العمامة فوق راسي! وكانت سوداء فاقع لونها لا تسر الناظرين، تعجبت وسألته: هل ستسير هكذا؟ قال نعم، قلت: جلباب واسع أسود، وشاب ضخم الجثة، وفوق إهابه كتلة من نفس اللون! لو رأتك حامل لأسقطت حملها فزعا، لماذا نضع حدودا وحواجز بيننا وبين الناس؟ لعل قائلا يقول: إن هناك أناس كُثْرا من أتباع الأديان الأرضية ويلبسون وِفْق ما يبغون فلماذا نضيق على أنفسنا ونمتهن كرامتنا ونعطي الدنية في ديننا؟

وغير مرة سمعت ذلك، وكنت وما زلت أقول: نحن ننطلق في تصرفاتنا وأعمالنا من صميم تعاليم الإسلام وهديه، وندور مع القرآن العظيم ومقاصده، ومع سيرة الرسول الأعظم وقناعتنا نابعة من ذلك، ولا ننطلق من خلال ردود الأفعال، ولا نسعى إلا لإرضاء مولانا جل وعلا، لكننا نميز بين الوحى المقدس وثوابت الدين وقطعيات الأحكام، وبين العادات والأعراف التي تتغير بتغير الزمان والمكان، ونريد أن نزيح العقبات التي تعترض دعوتنا، ثم إنَّ الدين الذي تُعلن عليه الحروب، وتُشَن عليه الحملات التي تريد الغض من وجهه النضر لا تتوقف حتى تستأنف، فلماذا نزيد النار إذكاء؟

لقد أفنى شيخنا محمد الغزالي دهرا من عمره وسطر بيديه كتبا كثيرة؛ مثل: مستقبل الإسلام خارج أرضه- كيف نفهم الإسلام – السنة بين أهل الفقه وأهل الحديث، تحذر الأمة من الاهتمام بالفروع على حساب الأصول والشكل والمظهر على الحقيقة والجوهر وإشعال المعارك على قضايا تقبل الآراء المتعارضة، وإحياء مسائل ونبشها بعد أن رمَّت.

ولا أدري كيف ننصرف عن عظائم الأمور بصغائرها، في يوم مذبحة المسجدين بنيوزيلاندا 15 مارس الماضي دار حوار بين بعض الشباب حول “هل قولك لأخيك المسلم “جمعة مباركة ” بدعة أم ماذا؟ وسألوني فقلت إن هذا اليوم قد رُوِّع فيه كل مسلم وإنسان على ظهر الأرض فهل لهذا السؤال محل الآن؟! وآخرون يسألون هل يجوز وضع الشموع أمام صور شهداء المسجدين مع الورود؟!! ولست أهون من سؤال، لكنَّ الخَطْب كبير، فكيف تصرفنا تلك الشموع عن العيون المنهمرة بالدموع؟!

إن هناك جهدا كبيرا في ميدان الدعوة والتعريف بالإسلام حول العالم، وهناك شباب أذكياء أنقياء أوفياء يحققون نجاحات كبيرة، وجدير بالمسلم أن يفخر بهم ويعتز بهمتهم وحماستهم، لكنَّ العقبات كثيرة والتحديات كبيرة والشغب على الدعوة والدعاة تنهض به دول ومؤسسات، وعلينا أن نواصل العمل ونمارس النقد والمراجعة لوسائلنا وأساليبنا، وتقوية الحصانة الإيمانية، والمناعة الفكرية هي سبيلنا للقلوب والعقول.

—-

* رئيس هيئة العلماء والدعاة بألمانيا.

مواضيع ذات صلة