الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد..
فمن المعلوم أن الدعوة إلى الله شأنها عظيم، وفضلها كبير، فهي وظيفةُ رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وكفى بذلك فضلًا وفخرًا وشرفًا، ولا أجد للدلالة على ذلك أبلغَ من قول رب العالمين: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].
والاستفهام في الآية بمعنى النفي والغرض منه التقرير؛ أي: لا أحد أحسن كلامًا وطريقة وحالة ممن دعا إلى الله بتعليم الجاهلين، ووعظ الغافلين والمعرضين، ومجادلة المبطلين.
وللقَصص القرآني دور في الدعوة إلى الله، وقد شغل مساحةً واسعةً من كتاب الله تقترب من ثُلُث آياته، وما ذلك إلا لأنه من أنفع أساليب الدعوة والإرشاد؛ لذا أمر الله عز وجل نبيَّه الكريم صلى الله عليه وسلم بالتذكير به، واستعماله في تبليغ رسالته، فقال عز وجل: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176].
ومن القصص القرآني قصةُ مؤمن آل ياسين التي ذكرها الله في سورة يس، وفي هذه القصة من الدروس والعِبَر الكثير والكثير، سأشير إلى بعض ما يتعلق بالدعوة والدعاة منها، وذلك في النقاط التالية:
الفائدة الأولى: ترْك التعرُّض لما لا فائدة فيه، وعدم الانشغال بما سكت عنه القرآن من أسماء الأماكن والأشخاص، يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} [يس: 13]، فاسم القرية لا يعنينا في شيء، وإنما يعنينا ما وقع فيها من أحداث؛ لذا قال العلامة السعدي ما مختصره:
“لو كان في تعيين تلك القرية فائدة لعيَّنها الله، فالتعرُّض لذلك وما أشبهه من باب التكلُّف والتكلُّم بلا علم، ولهذا إذا تكلم أحدٌ في مثل هذا تجد عنده من الخبط والخَلْط وتشويش الذهن، وذكر الأقوال التي لا دليل عليها، ولا يحصل منها فائدة – ما يعرف به أن طريق العلم الصحيح هو الوقوف مع الحقائق، وترْك التعرُّض لما لا فائدة فيه، وبذلك تزكو النفس، ويزيد العلم”، (تفسير السعدي: 693).
الفائدة الثانية: أخْذ الدعوة إلى الله بجِدٍّ واجتهاد، وهذا ملاحظ في مجيء الرجل من مكان بعيد ليقوم بواجبه في دعوة قومه إلى الحق، وكفِّهم عن البغي، نقرأ هذا في قوله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس: 20]، وفي هذا الجزء من الآية ثلاثُ لطائف:
الأولى: أن الله عز وجل يخلق رجالًا يعشقون الحقيقة، ويضحُّون من أجلها ويعانون في سبيلها، وقد صدق القائل:
إن الذي خلَق الحقيقةَ عَلقمًا *** لم يُخلِ مِن أهلِ الحقيقةِ جِيلَا
الثانية: أن القرآن لم يذكر اسم هذا الرجل المنصف، ولعل الحكمة في ذلك ليكون أسوة للرجال الذين إن حضروا لم يُعرفوا، وإن غابوا لم يُفتقدوا .. الرجال الذين يعملون بعيدًا عن الشهرة والظهور.
والثالثة: وصف هيئة مجيئه بالسعي، وهذا يفيد – كما يقول العلامة الطاهر بن عاشور – أنه جاء مسرعًا، وأنه بلَغَه هَمُّ أهل القرية برَجْم الرسل أو تعذيبهم، فأراد أن ينصحهم خشيةً عليهم وعلى الرسل، وهذا ثناء على هذا الرجل، يفيد أنه ممن يُقتدى به في الإسراع إلى تغيير المنكر؛ التحرير والتنوير (22/ 366).
الفائدة الثالثة: الترفُّع عن طلب الأجر الدنيوي، وهذا من أسباب قَبول دعوة الداعين إلى الحق؛ ولذا قال هذا المؤمن لقومه: {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس: 21]، ونلاحظ أن عدم سؤال الأجر قُدِّمَ على الاهتداء؛ لأن القوم كانوا في شكٍّ من صِدْق المرسلين، وكان من دواعي تكذيبهم اتهامُهم بأنهم يَجرُّون لأنفسهم نفعًا ماديًّا من وراء ذلك.
الفائدة الرابعة: الحث على استخدام أسلوب الإقناع مع المدعوين:
فقد كان مِن نُصح هذا الرجل لقومه أنه قال لهم: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 22]؛ حيث أخرج الحجة عليهم في معرِض المخاطبة لنفسه تأليفًا لهم.
قال العلامة السعدي في تفسير هذه الآية: والمعنى: “وما المانع لي من عبادة مَن هو المستحِقُّ للعبادة؛ لأنه الذي فطرني وخلقني ورزقني، وإليه مآل جميع الخلق، فيجازيهم بأعمالهم .. فجمع في هذا الكلام بين نُصحهم والشهادة للرسل بالرسالة والاهتداء، والإخبار بتعيُّن عبادة الله وحده، وذكر الأدلة عليها، وأن عبادة غيره باطلة، وذكر البراهين عليها، والإخبار بضلال مَن عبدَها”؛ تفسير السعدي (ص: 694).
الفائدة الخامسة: تمنِّي الخير للمدعوين بدلًا من الشماتة بهم؛ قال ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس: 26، 27]: “نصح قومه حيًّا وميتًا”.
وقال العلامة الطاهر بن عاشور: “والمعنى أنه لم يُلهه دخوله الجنة عن حال قومه، فتمنَّى أن يعلموا ماذا لقي من ربه؛ ليعلموا فضيلة الإيمان فيؤمنوا، وما تمنَّى هلاكهم ولا الشماتة بهم، فكان متَّسِمًا بكَظْم الغيظ، وبالحلم على أهل الجهل؛ وذلك لأن عالم الحقائق لا تتوجَّه فيه النفس إلا إلى الصلاح المحض، ولا قيمة للحظوظ الدنية، وسفاسف الأمور”؛ التحرير والتنوير (22/ 371).
هذه بعض الفوائد الدعوية المستفادة من قصة مؤمن آل ياسين، ومَن تأمَّل القصة حقَّ التأمُّل، وقف على فوائدَ جمةٍ، واستخرج منها أكثر مما ذكرت، نسأل الله أن يفقِّهنا في الدين، ويجعلنا من الدعاة المخلصين، اللهم آمين.
—–
* المصدر: صيد الفوائد.