حازم علي ماهر (خاص بموقع مهارات الدعوة)
لم يكن سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام نبيًا عاديًا يستهدف دعوة الناس إلى عبادة الله الواحد الأحد ويبلغهم برسالات ربهم بلاغًا مبينًا، بل كان –بالإضافة إلى ذلك- منظومة متكاملة للفضائل والحريات وللصبر على الابتلاءات ومقاومة الظلم بكافة أنواعه كذلك.. أو بمعنى آخر -وعلى حد التعبير القرآني البليغ- كان “أمة” وحده!
وفي هذه الأيام المباركة التي نتذكر فيها كيف كان -عليه السلام- نموذجًا للتضحية في أسمى صورها، حين أقدم على ذبح ابنه طاعة لأمر ربه لولا أن تداركته رحمة الله عز وجل بعد أن نجح إبراهيم في الاختبار كالعادة، فإنني أحب أن أوجه النظر إلى جانب آخر في حياته نحن في أمس الحاجة إليه في هذا الزمان، ألا وهو جانب مواجهته للظلم والظالمين على السواء، وكيف كان ثائرًا حكيمًا مثابرًا يهدم بنيان الظلم ليقيم العدل دون استعجال للنتائج أو حرق للمراحل، وكيف كان لا يأبه بتهديدات الظالمين وعقابهم ويلاقيه بقلب مطمئن، ينبع اطمئنانه من يقين صاحبه بأنه على الحق والحق معه، فلا يرتاب ولا يهتز، أو يقنط ولا يستخدم العنف قط.
لقد نشأ إبراهيم في قرية ظالم أهلها، تعبد الأصنام من دون الله، فإذا به بفطرته النقية يدرك كم هي عقيدة بلهاء تدل على سذاجة أصحابها إلى الحد الذي يدفعه إلى التعامل الساخر معهم بما يتناسب مع خفة عقولهم وجهلهم، فإذا به يهجر آلهتهم ويقوم بعملية خداع استراتيجي يحاول فيه استدراجهم أولا إلى تقبل فكرة وجود إله غير آلهتهم، فيدعي أولا أنه القمر، ثم الشمس، ثم يفاجئهم بحقيقة أن كل هذه المخلوقات لا تصلح أن تكون خالقًا، فلابد للخالق ألا يكون مخلوقًا، يختفي ويظهر، أو يغيب ويحضر!
ثم يخطو إبراهيم –عليه السلام- خطوة عملية خطيرة يستغل فيها تجمع أهل القرية في حفل بعيد ويهدم أصنامهم جميعًا إلا كبيرهم، وحين يواجهونه بما فعل يسخر منهم ويقول: “بل فعله كبيرهم هذا”! عسى أن يرجعوا إلى أنفسهم ويعترفوا بسذاجتهم، فإذا بهم يستكبرون ويتمادون في غيهم، مثل إبليس الذي استكبر عن السجود لآدم وتحدى ربه، ومثل فرعون الذي تحدى موسى وهارون رغم علمه أنهما على الحق، ومثل أبي جهل الذي استيقن صدق محمد عليه الصلاة والسلام إلا أنه رفض الإيمان بأنه مرسل من ربه كبرًا واستعلاءً!
يقرر المستكبرون توقيع أشد عقوبة ممكنة على إبراهيم، وهي إلقاؤه في حفرة من النار حيًا، فماذا كان موقف “الفتى” إبراهيم؟
لقد قرر أن يستكمل طريقه للنهاية ورضي بالتضحية بنفسه كي يلفت نظر الناس إلى دعوته إلى عبادة إله واحد، فمضى إلى حفرة النار مرفوع الرأس وكأنه ذاهب إلى نزهة خلوية في صيف شديد حَرُّه!
كان اختيار إبراهيم هنا هو ما اختاره بعد ذلك غلام بني إسرائيل الذي دل الملك على كيفية قتله بعد أن اشترط عليه أن يكون ذلك أمام الناس وأن يذكر اسم الله رب الغلام، هو الآخر ضحى بنفسه لأجل دعوته، وهكذا ينبغي أن تكون روح كل من يرنو إلى الإصلاح، فهي ليس نزهة بل معركة مع النفس أولا ثم مع الظلم فكرًا وأشخاصًا متجبرين!
يمضي إبراهيم واثق الخطوة يمشي ملكًا، نعم ملك، فهو ملك الحقيقة في الأرض ويا له من مُلك عظيم!
لم يتدخل الله عز وجل لإنقاذ الغلام من الملك، كما أنه لم يتدخل لإنقاذ أصحاب الأخدود الذين ألقوا في النار من قبل جزاء دعوتهم للتوحيد، بينما تدخل لحماية إبراهيم كما تدخل لحماية فتية الكهف كذلك من ملك ظالم.
هكذا يعلمنا الله سبحانه أن من ينصر الحق لن ينجو بالضرورة من عذاب الدنيا على أيدي الظالمين، بل قد يتركهم لمصيرهم لا لهوانهم عليه ولكن لانتهاء مهمتم عند هذا الحد، حد التضحية بالنفس فعلا ليحيوا ما ماتوا من أجله في نفوس الأجيال.
أنقذ الله نبيه إبراهيم بعد أن أمر النار أن تتوقف عن عملها وتتخلى عن طبيعتها كي يعلمنا أن النار لا تحرق إلا بإذنه فما بالك بالظالمين من البشر، لو أراد سبحانه لأوقف أسلحتهم وأهلكهم في طرفة عين أو أقل من ذلك، لكنه أبقاهم ليبلوهم بالمظلومين ويبلو الظالمين بهم حتى يتبين المفسد من المصلح فيقيم عليهم الحجة بعد أن أعطى الجميع الفرصة كاملة.
يخرج إبراهيم من النار سالمًا غانمًا، فإذا به يفاجأ بأن الغشاوة لم تزل عن أبصار الظالمين وبصائرهم، بل يبتلى بأن أباه نفسه يصر على أن يعبد الأصنام، فيدعو ربه ليغفر له إلا أن الله يعلمه أنه الملك العدل لا يقبل وساطة في العقيدة لأحد دون أحد وإلا فهو الظلم الذي تنزه عنه سبحانه!
يحاجج القوم إبراهيم فيحاججهم، يهددوه فيهددهم، يتوعدوه فيتوعدهم، رغم أنه شخص واحد لكن تجسدت فيه أمة كاملة، أرادوا أن يخوفوه فعلمهم أن الإحساس بالأمن ينبع من الإيمان بقوة لا يستطيع أحد أن يهزمها قط، هي قوة العزيز الجبار، ولنتأمل ما رواه القرآن عن محاورته لهم لنتعرف كيف يفكر هذا الآمن:
{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (الأنعام: 80- 82).
هكذا الأمر ببساطة، وهذا هو سر ثبات إبراهيم ومواجهته لكافة أنواع الظلم: إيمانه بربه وبأنه لن يستطيع أحد أن يضره إلا أن يشاء ربه شيئًا، أي أن حتى تمكنهم منه بأي شكل لن يحدث إلا بمشيئة الله لحكمة يعلمها وحده سبحانه.
فكان خوف إبراهيم من ربه سر أمنه، وكان حرصهم على الدنيا وعلى سلطانهم الزائف وقوة حجته وإيمانه سر خوفهم، نعم إنهم يخافون ولو كانت لهم الغلبة المادية لأنهم في قرارة أنفسهم يعلمون أنهم لا يملكون من أمرهم شيئًا، بدليل أن الموت الذي يفرون منه يأتيهم بغتة ساخرًا من استعلائهم وتجبرهم على الناس وكأنهم سيخلدون فيها ويدوم لهم الملك إلى ما لا نهاية.
هاجر إبراهيم ولقي ملكًا ظالمًا آخر يظن أنه ملك الدنيا وما فيها فاغتر بقوته واحتقر الناس، فإذا بإبراهيم -الآمن- لا يأبه لجبروته ويذهب ليدعوه إلى الإيمان بالله، ويدور بينهم حوار عجيب يحدث فيه إبراهيم الملك عن ملك الملوك فيرد هذا الذي لا يرى إلا نفسه فقط ليطلب منه أن يصف له ربه فيقول إبراهيم إن ربه يحيي ويميت، فإذا بالغبي يرد أنه كذلك يحيي ويميت؛ فهو في يده أن يأمر بقتل عبد فيميته ويعفو عن عبد آخر فيحييه!
لم يجادل إبراهيم في هذا المنطق الغبي فهو تعود أن يسمو على هذه السخافات، لكنه أخبر الملك بأن الله يأتي بالشمس من المشرق فليأت هو بها من المغرب، فبهت الملك ولم يجد ردًا… لكنه أصر على استكباره، بدليل أن القرآن لم يخبرنا بأنه قد آمن بل وصفه بالذي كفر ولم يتحدث عنه مرة أخرى.
أما إبراهيم فقد نجا كالعادة لأن مهمته لم تنته بعد، فهو بهذه القوة الإيمانية لن يموت قبل أن يبني أمة ستستمر إلى يوم القيامة، حيث ستنحصر الرسالات السماوية في ذريته هو، بعد أن كانت من ضمن الابتلاءات التي تعرض لها أنه لم تكن له ذرية حتى أصبح شيخًا كبيرًا!
انتظر، لم تنته القصة بعد، أريد أن ألفت نظرك إلى أنه رغم كل المعجزات التي حدثت لإبراهيم ورغم إيمانه بربه الذي جعله على استعداد دائم لأن يضحي بنفسه، بل وكان على استعداد أن يذبح ابنه لمَّا طلب منه ذلك، إلا أنه كان يتعجب كيف يحيي الله الموتى، فلم يصمت ولم يخش أن يعبر عما في قلبه للخالق الأعظم، لم يخف من السؤال، ولم يستح من طلب العلم، ولم يخف وهو يسأل من هو أعلم به من نفسه، وهذا جانب آخر في شخصيته يستحق التوقف، فإبراهيم قد وصل في علاقته بربه إلى مرتبة الخليل الذي لا يخاف خليله، بل يحبه من كل قلبه ويتعامل معه على سجيته دون أن يتجاوز حدوده، ولذا فقد كان شعوره بالأمن ليس في مواجهة الناس فقط، بل حتى في تعامله مع من يأمن به ويأتنس!
ومن خلال ذلك يمكن أن نفهم كيف وصل إبراهيم إلى حد التضحية بنفسه، وبابنه، وكيف يترك ابنه وزوجته في الصحراء ليذهب إلى خليله، فنظن نحن أنه تركهما بلا مأوى ولا أنيس، بينما هو يوقن أنه تركهما لمأوى وركن شديد، تركهما لمن حرره من شهواته وأنعم عليه نعما تمناها كل مخلوق من بعده، حتى أنه جعل بيته الذي بناه هو وابنه ملاذًا للناس تهفو إليه قلوبهم، وجعلهم يحتفلون بتضحيته كل عام فيما يسمى بالعيد الكبير (العيد الأضحى)، فكيف لا يأتمن على نفسه وأهله وماله ربا أغدق عليه النعم ظاهرها وباطنها، فيتحدى كل الظلم والظلمات مرضاة له وثقة في رحمته ومعونته!
يا إبراهيم، قد صدقت الرؤيا، فأوفيت، وأنبت، وحلمت.. ولذا كانت تكفي دعوة واحدة منك ليستجيب لك ربك بأن يبعث نبيًا من ذريتك ليكون رحمة للعالمين، فسلام عليك وعلى حفيدك.. نبي أمتنا العظيم!.