أ.د. محمد أحمد عزب (خاص بموقع مهارات الدعوة)
كان عام الفيل عامًا فارقًا في حياة أهل مكة، بل كان فارقًا في حياة الجزيرة العربية قاطبة، ولجسامة حدث الفيل فقد اتُخذ كحدث للتأريخ والتدوين فيما بعد، يقول ابن سيد الناس: “وبعث نبينا يوم الاثنين لثمان خلت من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين من عام الفيل“([1])، ويقول «صاحب المفصل في تاريخ العرب» وهو يؤرخ لبعض الحوادث: “وذُكر أن هذا اليوم قد وقع بعد عشرين سنة من عام الفيل“)[2].
كانت البشرية على حافة الهاوية، وتوشك على الانمحاء، وكانت الضلالات قد ضربت بأطنابها في قارات العالم الثلاث وقتئذ، يقول الندوي رحمه الله: “كان القرن السادس والسابع من أحطِّ أدوار التاريخ بلا خلاف، فكانت الإنسانية متدلية منحدرة منذ قرون، وما على وجه الأرض قوة تمسك بيدها وتمنعها من التردي، فقد زادتها الأيام سرعة في هبوطها وشدة في إسفافها، وكأنَّ الإنسان في هذا القرن قد نسي خالقه، فنسي نفسه ومصيره، وفقد رشده”[3].
لقد ظهر مزدك بمذهبه الإباحي الذي أباح فيه الخبائث والعظائم فقد: “كان يأخذ امرأة هذا فيسلمها إلى الآخر، وكذا في الأموال والعبيد والإماء وغيرها من الضياع والعقار، فاستولى وعظم شأنه وتبعه الملك قباذ. فقال يومًا لقباذ: اليوم نوبتي من امرأتك أم أنوشروان. فأجابه إلى ذلك، فقام أنوشروان إليه ونزع خفيه بيده وقبل رجليه وشفع إليه حتى لا يتعرض لأمه وله حكمه في سائر ملكه، فتركها.
وحرم ذباحة الحيوان وقال: يكفي في طعام الإنسان ما تنبته الأرض وما يتولد من الحيوان كالبيض واللبن والسمن والجبن، فعظمت البلية به على الناس فصار الرجل لا يعرف ولده والولد لا يعرف أبا”([4]) .
هكذا وصلت الإباحية بيت الملك، بل طلبت زوجته ليمارس فيها البغاء والفاحشة باسم الدين .
كان سقوط العالم محتمًا جراء هذا الفحش، فضلاً عن نسيان الخالق تعالى والتولي عن أمره، وشيوع هذا في أرجاء المعمورة، روى مسلم في الصحيح عن عياض بن جمار المجاشعي: أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ذات يوم في خطبته: «ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، كل مال نحلته عبدا حلال وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان ….» الحديث ([5])
ميلاد أمة
كان مبعثه صلى الله عليه وسلم ضرورة لاستنقاذ البشرية من الهاوية التي انجرفت إليها، فجاء بالعدل والرحمة، ومحاسن الشيم، فحين وقف جعفر رضي الله عنه يصف للنجاشي طبيعة الإسلام ويحاجج بين يديه قال: “أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء إلى الجار، ويأكل القوي منا الضعيف، كنا على ذلك حتى بعث الله عز وجل إلينا رسولًا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام فعدد عليه أمور الإسلام”([6])
بهذه التعاليم كان ميلاد أمة ببعثة نبي، هذا الإطار الإنساني الذي الذي لا يمكن لأمة أن تكون بغيره، فهي معالم الإنسانية في أرقى صورها، فرسالة الإسلام التي ولدت معها الإمة هي رسالة الصلة وترك الفواحش، والكفِّ عن الدماء والمحارم والمظالم، ثم هي فوق هذا كله رسالة التوحيد التي لا يتصرف فيها المرء إلَّا وهو يعرف أن له ربا يطلع على مكنوناته وأفعاله .
بهذا ولدت الأمة التي يقول في بعض شأنها صاحب قصة الحضارة: “وإذا ما حكمنا على العظمة بما كان للعظيم من أثر في الناس قلنا إن محمدًا كان من أعظم عظماء التاريخ، فقد أخذ على نفسه أن يرفع المستوى الروحي والأخلاقي لشعب ألقت به في دياجير الهمجية حرارة الجو ، وجدب الصحراء، وقد نجح في تحقيق هذا الغرض نجاحاً لم يدانه فيه أي مصلح آخر في التاريخ كله، وقل أن نجد إنساناً غيره حقق كل ما كان يحلم به. وقد وصل إلى ما كان يبتغيه عن طريق الدين، ولم يكن ذلك؛ لأنه هو نفسه كان شديد التمسك بالدين وكفى”([7]) .
إنه الدين الذي به ولدت الأمة تلو ميلاد النبوة .
([2] ) المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام 7/ 84.
[3] ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، ص112
([4]) الكامل في التاريخ، لابن الأثير .