د. رمضان فوزي بديني
تقوم العلاقات بين الأفراد في أي مجتمع على التأثير والتأثر، الذي يُنتج حالة من التماهي وذوبان الحدود بين الأفراد بعضهم البعض؛ ولذلك فإن أي فساد يطرأ على أي طرف من الأطراف فإنه سيؤثر سلبا على المجموع، إن لم يتم تداركه وعلاجه مبكرا؛ ومثل ذلك مثل الماء الصافي في الكوب الرائق، إذا ما دخل عليه أي شائبة فإنها سرعان ما تكدر مجموع الماء في الكوب، وعلى قدر الشائبة وقوتها يكون تأثيرها على الماء وسرعة انتشارها فيه، لكن في المقابل إذا كان الماء كثيرا فإنه سرعان ما يتغلب على شوائبه وأكداره وتذوب فيه دون أن تؤثر عليه؛ ولذلك قرر الشرع أنه “إذا بلغ الماء قُلتين لم يحمل الخبث”.
مما سبق يمكن أن نستنتج أن عملية الإصلاح في المجتمع عملية طردية مع حالة الاستقرار وتنقية المجتمع من الشوائب والآفات الضارة التي تكدر صفوه وتماسكه؛ فكلما ازدادت هذه الشوائب والآفات احتاجت للمزيد من الجهود لمواجهتها، وكلما ازدادت معدلات النقاء والصلاح في المجتمع استطاعت تذويب الشوائب والقضاء عليها في مهدها، كما يفعل الماء إذا بلغ القلتين مع الخبث..
وفيما يلي ومضات سريعة مع الإصلاح في المجتمع من حيث تعريفه وحاجتنا إليه وأبرز مجالاته..
تعريف الإصلاح
عرفت المعاجم العربية الإصلاح بأنه ضد الإفساد، وهو من الصلاح المقابل للفساد، وللسيئة.. وفى القرآن الكريم: {خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا} (التوبة: 102)، {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} (الأعراف: 56).
فالإصلاح هو التغيير إلى الأفضل؛ فالحركات الإصلاحية –سواء كانت فردية أم جماعية- هي الدعوات التي تحرك قطاعات من البشر لإصلاح ما فسد، في الميادين الاجتماعية المختلفة، انتقالا بالحياة إلى درجة أرقى في سلم التطور الإنساني.
إذن فكل فساد في نفسه يقابله صلاح، وكل إفساد متعدٍ على المجتمع وما فيه لا بد أن يقابله “إصلاح” متعد أيضا يزيل آثار الفساد، ويمحو مخاطره على المجتمع.
حاجتنا إلى الإصلاح
لا يمكن لمجتمع أن يستغني عن الإصلاح والمصلحين لتحصين حدوده، وزرع أسباب المناعة في أفراده حتى لا يتأثروا بأي محاولة للإفساد، وتزداد حاجة العالم كله للإصلاح يوما بعد يوم نتيجة لاتساع مقومات الفساد والإفساد التي تجتاح وجه المعمورة في ظل العولمة الحديثة وغزوها لكل بقاع العالم، وما تستورده من مفاهيم وقيم وأخلاق دخيلة على مجتمعاتنا وأوطاننا، لا نملك لها صدا ولا منعا، اللهم إلا بالتحصين والمناعة المجتمعية.
وإن أقوى وسائل الإصلاح في المجتمع هو تكاتف الجميع ووقوفهم صفا واحدا وسدا منيعا ضد كل ما يُخل بالمجتمع وينال من قيمه النبيلة وأخلاقه القويمة وعاداته الجميلة.
فالمخدرات –مثلا- لن تجد لها مكانا بين الشباب الطاهر النقي.
والكذب والغش والخداع والواسطة والنفاق وغيرها من المظاهر السلبية لن تستقر في المجتمع الواعي البصير الذكي.
فهذه دعوة للجميع لحماية السفينة التي نتشارك فيها جميعا وألا نترك للسفيه أن يخرق جدارها فيغرق ويغرقنا معه، وليكن كل منا على قدر المسئولية فلا نكتفي بالحوقلة والاسترجاع بل لنضع أمام أعيننا التوجيه النبوي: “لتأمرُنَّ بالمعروف، ولتنهوُنَّ عن المنكر، ولتأخذُنّ على يد السفيه منكم، أو ليوشكنّ الله أن يعمكم بعذاب من عنده، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم”.
مجالات الإصلاح
تتعدد مجالات الإصلاح في المجتمع وتتنوع دوائره؛ بحيث تسلم كل دائرة لدائرة أخرى أوسع منها؛ حيث تبدأ من دائرة الفرد، ثم تتسع لتشمل الأسرة، ثم تتسع لتشمل المجتمع كله، وداخل كل دائرة من هذه الدوائر مجموعة من الخطوط المتوازية والمتقاطعة التي يضرب كل منها في نهايته بسهم ترتسم من خلاله لوحة الإصلاح متناسقة متكاملة، تسر الناظرين.
إصلاح النفس:
يُعد الفرد هو محور الارتكاز في المجتمع، وهو النواة التي تدور حولها كل مكونات المجتمع الأخرى؛ ولذلك فإنه لا يُتصور حدوث إصلاح في المجتمع دون حدوثه في الفرد؛ فالمجتمع الصالح هو مجموعة من الأفراد الصالحين، والعكس صحيح؛ ولذلك فعلى الفرد أن يبدأ بإصلاح نفسه؛ لتمتد دائرة الإصلاح للمجتمع حوله. وتتمثل مظاهر إصلاح الفرد نفسه فيما يلي:
– إصلاح العلاقة مع الله تعالى باتباع أوامره واجتناب نواهيه؛ وهو ما ينعكس بصورة مباشرة على المجتمع المحيط.
– إصلاح العلاقة مع الأهل والأقربين بأداء حقوقهم وواجباتهم، والقيام على رعايتهم، والبر والإحسان إليهم.
– إصلاح العلاقة مع المجتمع بالانضباط بقيمه وآدابه وسلوكياته، والالتزام بما قرره المجتمع من قوانين ضابطة، وقواعد حاكمة حتى تنتظم حركته، دون ضرر أو ضرار.
– إصلاح المفاهيم والأفكار؛ بحيث تكون منطلقة من ثقافة الوسطية التي تقبل الآخر، وتعلي من قيم الاختلاف والتعددية في المجتمع، مع الالتزام بآداب الحوار والتواصل الفعال؛ ذلك أن تقدم المجتمع وتطور مفاهيمه وتغير واقعه في مجال الإصلاح السياسي لا يتم إلا بالعمل على تربية الإنسان وترقية أفكاره منذ الصغر.
إصلاح الأسرة:
تعد الأسرة هي النواة الثانية في المجتمع بعد الفرد، لذلك على الفرد الذي يسعى إلى إصلاح نفسه أن يدرك أنه أيضا مطالب ومسئول عن إصلاح أسرته وأهل بيته؛ “فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته”. ويجب أن نعي أن كثيرا من الأخلاق والقيم الفاسدة في المجتمع والسياسة والتعامل مع الناس إنما هو نتاج التربية في البيت؛ فالبيت الذي يقوم على الاستبداد والقهر وكبت الآراء من الأب والأم إنما هو نموذج مصغر للمجتمع المستبد والحكومة الديكتاتورية؛ فمن لم يعتَدْ على الانفتاح وحرية الرأي وتقبل الآخر في البيت لن ينزعج كثيرا إذا فقد كل هذا خارج البيت، وسيألف الديكتاتورية والتسلط من الآخرين..
وتتمثل أبرز مظاهر إصلاح الأسرة فيما يلي:
– تقديم القدوة الصالحة في النفس، وإدراك أنك كرب بيت مراقب في كل حركاتك وسكناتك من أولادك وزوجك.
– إصلاح الزوجة بإعطائها حقوقها كاملة، وحسن معاشرتها ومعاملتها ورعايتها بما تقتضيه المودة والرحمة، وما يفرضه الرباط المقدس الذي يربط علاقتكما. ثم العمل على أن تكون زوجة وأما مدركة لواجباتها تجاه أولادها وبيتها
– إصلاح الأولاد من خلال إحاطتهم بالرعاية والاهتمام، ثم المراقبة والمتابعة لسلوكهم، وتقويم وعلاج ما يشذ منه، وتربيتهم على المصارحة والمكاشفة والشفافية في كل ما يعتري أحوالهم وسلوكياتهم.
– إصلاح الإخوة والأخوات بحسن التواصل والسؤال، والاهتمام بأحوالهم. ثم العمل على معالجة ما يظهر منهم من عيوب وسلبيات، من خلال النصيحة بالرفق واللين.
الإصلاح مع المجتمع:
يعد المجتمع –كما ذكرنا فيما سبق- هو السفينة التي تحملنا جميعا؛ فإن قصرنا في حمايتها وإصلاح ما يعتريها من خلل، أو قصرنا في الأخذ على يد السفهاء الذي يريدون أن يخرقوا فيها خرقا؛ فإن مصير الجميع سيكون الغرق المحتَّم؛ لذلك فيجب أن يكون إصلاح المجتمع على رأس أولويات أهل الديرة جميعا حتى تكتب النجاة للديرة ومن فيها، وتتمثل أبرز مظاهر إصلاح المجتمع فيما يلي:
– الإصلاح الاجتماعي من خلال نشر القيم والأخلاق الفاضلة التي تعلي من قيمة الانتماء والمواطنة وحب الوطن والعمل على رفعته. ومحاربة الرذائل والأخلاق السلبية الدخيلة على المجتمع، ومواجهة بعض المظاهر السلبية مثل الرشوة والواسطة وأخذ حقوق الغير دون وجه حق.
– الإصلاح السياسي المبني على احترام الحقوق الدستورية والسياسية، وتوسيع دائرة المشاركة السياسية، وتفعيل الآليات الديمقراطية في اختيار الأنسب والأصلح لتمثيل الأمة في منتدياتها السياسية.
– الإصلاح الاقتصادي من خلال الحفاظ على الموارد الاقتصادية وعليها وتنميتها، وترشيد الاستهلاك ومحاربة مظاهر الإسراف والتبذير.
– الإصلاح التربوي والتعليمي؛ حيث إنه أساس كل صلاح وإصلاح في المجتمع؛ فمن خلاله يتقوم بناء الإنسان منذ صغره ليسلك سبيل الخير والرشاد.
– الإصلاح الإعلامي، من خلال حث وسائل الإعلام على القيام بدورها التوعوي التوجيهي، والبعد عن الإثارة والتهييج وإثارة النعرات الطائفية.
وفي النهاية.. فإن كل هذه الدوائر والحلقات يجب أن تسير على التوازي؛ فالإنسان دائما في دأب وسعي لإصلاح نفسه، وهو في الوقت ذاته عينه على مراقبة أسرته وأهل بيته وتقويمهم، وعينه الأخرى على مجتمعه بزرع كل ما هو مفيد وصالح، والتخلص من كل ما هو خبيث وضار.