القائمة الرئيسية
 الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

أثر كلمة التوحيد في نورانية القلوب

خالد روشه

إن البداية الصحيحة في الطريق إلى الله -سبحانه وتعالى- هي كلمة التوحيد “لا إله إلا الله” فبها يضيء القلب وبها توهب له الحياة. وكلما بعد

كلمة التوحيد

لكلمة التوحيد أشعة تبدد ضباب الغيوم

الإنسان عن كلمة التوحيد اقترب من المرض والموت، وأظلم قلبه واسود.

ومن ثم فإن المربين الراشدين يضعون نصب أعينهم أن يملؤوا قلب المبتدئ بمعاني لا إله إلا الله محمد رسول الله، فمتى استنار القلب بنور التوحيد وانسجم سلوك الإنسان مع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم من خلال علم وعمل وذكر والتزام صحيح بكتاب ربه وسنة نبيه، فإن تغييرا هائلا يحدث في ذلك الإنسان ويظهر عليه من الأعمال ما يحير العقول ويدهشها من الفتح الرباني والثبات والصمود والبذل والجهاد والدعوة والعلم.

إن العرب قبل الإسلام لم تكن لهم حضارة تذكر، ولا ثقافة عريقة يعودون إليها ولا خبرة لهم بالحكم والإدارة ولا بالتقدم والابتكار…

ولكنهم قبلوا كلمة التوحيد، وتحققت بها قلوبهم وأنارت كما قال الله -سبحانه- عنهم: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} (الفتح: من الآية26)، فصاروا أهل كلمة التوحيد وانسجم سلوكهم مع القرآن ـ كتاب التوحيد ـ فتغير حالهم وخرجت الأعاجيب من أفعالهم وصاروا نور الدنيا أجمعها وهداة الخلق أجمعين ودانت لهم الأرض بجوانبها فصاروا أقوى أمة وأرقى حضارة وهزموا الممالك والدول العظمى وأخذ شعوب العالم دين الإسلام دينا لهم.

واليوم والمسلمون في حال تخلف وانحدار وضعف وهزيمة واستهتار حتى صاروا في ذيل الأمم واستهانت بهم القوى العالمية.

إن شيئا واحدا هو الذي سيعيد لهم المجد ويختصر الطريق، إنها كلمة التوحيد وسلوكهم تبعا لسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- من خلال علم وعمل وتفاعل وعطاء، إن هذا وحده هو الذي سيختصر الطريق ويعيد لنا الماضي المجيد؛ إذ إنه بهذه الكلمة سيوجد الإنسان الراقي ذو القلب السليم وهو لبنة بناء الشعوب الفائزة والمنتصرة.

أشعة لا إله إلا الله

يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله-:

“اعلم أن أشعة لا إله إلا الله تبدد ضباب الذنوب وغيومها بقدر قوة ذلك الشعاع وضعفه، فلها نور، وتفاوت أهلها في ذلك النور -قوة وضعفا- لا يحصيه إلا الله تعالى؛ فمن الناس من نور هذه الكلمة في قلبه كالشمس، ومنهم من نورها في قلبه كالكوكب الدري، ومنهم من نورها في قلبه كالمشعل العظيم، وآخر كالسراج المضيء، وآخر كالسراج الضعيف، ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار، بحسب ما في قلوبهم من نور هذه الكلمة علما وعملا، ومعرفة وحالا” (مدارج السالكين).

إن عباد الله الصالحين يعيشون في هذه الدنيا مع الناس وبينهم ولكن قلوبهم متعلقة بالآخرة، إن قلوبهم تحيا في حياة رغدة سعيدة هانئة، لو عرفها الملوك لقاتلوهم عليها؛ لأنها ألذ من لذاتهم وأروح لأنفسهم وريحانا لقلوبهم في ذات الوقت الذي يعانى في الناس من حولهم من الألم والقلق والحيرة والتخبط والتنازع والتقاتل.

يقول الله -سبحانه-: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} (الأنعام: 122). فالأول كان ميتا فاستنار قلبه بالإيمان ودبت فيه الحياة وهو المؤمن الصالح والثاني الغافل المعرض عن ذكره في الظلمات… قد مات قلبه.

نور الإيمان

قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: “والشأن كل الشأن والفلاح كل الفلاح في النور كل النور، والشقاء في فواته”. الوابل الصيب

يقول الإمام: “ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يبالغ في سؤال ربه -تبارك وتعالى- حين يسأله أن يجعل النور في لحمه وعظامه وشعره وبشره وسمعه وبصره ومن فوقه ومن تحته وعن يمينه وعن شماله وخلفه وأمامه حتى يقول: “واجعلني نورا”. (رواه البخاري ومسلم، واللفظ: واجعلني لمسلم وفي البخاري واجعل لي).

أنوار تحيط بالمؤمن

قال الإمام ابن القيم: “فدين الله -عز وجل- نور، وكتابه نور، وداره التي أعدها لأوليائه نور يتلألأ، وهو -تبارك وتعالى- نور السماوات والأرض، ومن أسمائه النور، وأشرقت الظلمات لنور وجهه” الوابل الصيب.

وقال ابن مسعود -رض الله عنه-: ليس عند ربكم ليل ولا نهار، نور السماوات من نور وجهه. وقال -تعالى-: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} (الزمر: من الآية69) فإذا جاء -تبارك وتعالى- يوم القيامة للفصل بين عبادة أشرقت بنوره الأرض وليس إشراقها يومئذ بشمس ولا قمر، فإن الشمس تكور والقمر يخسف ويذهب نورهما.

وحجابه -تبارك وتعالى- النور؛ قال أبو موسى: قام فينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخمس كلمات، فقال: “إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور، ولو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه” رواه مسلم عن أبي موسى، فاستنارة ذلك الحجاب بنور وجهه سبحانه، ولولاه لأحرقت سبحات وجهه ونوره ما انتهى إليه بصره، ولهذا لما تجلى -تبارك وتعالى- للجبل وكشف من الحجاب شيئا يسيرا جدا ساخ الجبل في الأرض وتد كدك ولم يقم لربه تبارك وتعالى، وهذا معنى قول ابن عباس عل قوله -سبحانه وتعالى-: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} (الأنعام: من الآية103) قال: “ذلك الله -عز وجل- إذا تجلى بنوره لم يقم له شيء وهذا من بديع فهمه -رضي الله عنه- ودقيق فطنته…” الوابل الصيب.

كيف يحدو النور إلى القلب؟!!

إنها ثلاثة آثار بها يحدو النور إلى قلب المؤمن، وبزيادتها يزداد نوره حتى لا تبقى به ظلمة، فأما الأول: فهو كلمة التوحيد وتحقيق شروطها، وأما الثاني فهو نبذ الذنب والإقبال على العبادة، وأما الثالث فهو تحقيق معاني العبودية ظاهرا وباطنا..

أما الأثر الأول: فهو أثر كلمة التوحيد “لا إله إلا الله” في القلب وأثر العلم بها نفيا وإثباتا وتطبيق شروطها بالحقيقة، والإخلاص لها والإقبال عليها، فمن قام بذلك خرج من ظلمة الغفلة إلي نور التوحيد، وعلامة ذلك كره الشرك بجميع صوره وأشكاله ونبذه، والبراءة منه قولا وعملا واعتقادا، وكذلك فإن من علاماته الإقبال على الله بالكلية ومحاولة تنقية الأعمال من مراءاة الناس ومحاولة جمع القلب على الله -سبحانه-، فمن قام بذلك حدا النور نحو في أول آثاره، ووجد ذلك في قلبه وحياته.

الأثر الثاني: وهو أثر نبذ الذنب والإكثار من العبادة والذكر حتى إنه ليكره الذنب تماما ويتوب من ذنبه التوبة النصوح وينسى لذة الذنب ويكره أن يعود إليه ويفارق المعاصي كفراق المشرق للمغرب، وهو دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-، “اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب” رواه البخاري عن أبي هريرة، وكذلك أن يكثر من الطاعات فيقوم بحق الفرائض كاملة غير منقوصة ثم يكثر ما شاء الله له من النوافل وهو ما جاء في الحديث القدسي: “وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه”، ثم يكثر من ذكر الله -سبحانه وتعالى- قياما وقعودا ليلا ونهارا سرا وجهارا وهو قول الله -تعالى-: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} (آل عمران: من الآية191), وقول النبي صلى الله عليه وسلم: “لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله” رواه أحمد والترمذي. فإذا نبذ الذنب وأقبل على العبادة وملأ قلبه وجوانحه ذكرا لله سبحانه، حدا إليه النور خطوة أخرى ووجد ثاني آثاره، إذ يشعر بالنور في قلبه ويبدأ في التحرر من سجن الدنيا ويجد نفسه حرا خفيفا من أثر نفسه وهواه ودنياه. ويشعر بلذة الطاعة تسري في عروقه.

الأثر الثالث: وهو أثر تحقيق معاني العبودية الكاملة وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: ” من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية “.

فيقوم المؤمن بالتدريج في مراتب العبودية شيئا فشيئا مستعينا بالله عز وجل، يقول الله -سبحانه وتعالى-: “وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ” (العنكبوت:69)، فيقوم بالجهاد في سبيل الله بنفسه وماله وما يحب، ويحسن خلقه مع الناس، وترقى منزلته في منازل العبودية، فيحقق التوبة والإنابة، والتفكير والاعتصام بالله، والخوف منه، والفرار إليه، والإشفاق من عذابه، والإخبات إليه، والزهد فيما عند الناس، والورع فيما بين يديه، والإخلاص في كل سكناته وحركاته، والتوكل عليه، والثقة بما في يديه، والرضا بقضائه، والحياء منه، والطمأنينة في ذكره، والمحبة له، والفرح بقربه… إلى غير ذلك من مراتب العبودية.

فإذا حقق ذلك هداه الله سبحانه ونصره على الشيطان وعلى هوى نفسه، ووجد أثر النور في قلبه ويضئ طريقه… ويثبته في الفتن…

كيف يؤدي النور عمله؟

إن عمل النور في قلب الإنسان كشاف مضيء في ليل مظلم، فهو الذي يكشف لك الأشياء على حقيقتها، فتراها كما هي ولا تراها أبدا كما زينت في الدنيا ولاكما زينها الشيطان للغافلين ولا كما زينها هوى النفس في أنفس العاصين.

يرى الزنا فلا ينظر إليه أنه متعه ورغبة ولا يرى المرأة في وقتها بزينتها ولا بجمالها، ولكنه يضئ له فيرى الزنا ظلمة وفقرا وغما وكبيرة، ونهايته العذاب والحسرة والدمار.. يرى الرشوة فلا ينظر إليها أنها مال ولا غنى ومتاع، ولكنه يراها على أنها لعنة وحسرة وعقبتها الخسران.

يرى الدنيا… فلا يراها على أنها متاع براق ولا زينة خلابة ولا أمل وضئ ولكن يراها دار ابتلاء واختبار وأنها لا تساوي عند الله شيئا… وهكذا يعمل النور… لذلك فلابد للعاملين لله سبحانه من البحث عن كيفية إيجاد النور في قلوبهم وكيفية تنوير قلوبهم ليروا حقائق الأشياء ويسيروا على هدي من الله سبحانه.

وفقدان هذا النور ظلمة وطمس للبصيرة وتخبط وتعثر وهم وضيق صدر دائم، قال الله -سبحانه-: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} (الزمر: 22) الآيات.

وقال -سبحانه-: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} (الأنعام: من الآية122) الآيات.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “أصل كل خير للعباد بل لكل حي ناطق كمال حياته ونوره فالحياة والنور مادة كل خير.. فبالحياة تكون قوته وسمعه وبصره وحياؤه وعفته.. وكذلك إذا قوي نوره، وإشراقه انكشفت له صور المعلومات وحقائقها على ما هي عليه، فاستبان حسن الحسن بنوره وآثره بحياته. وكذلك قبح القبيح” (إغاثة اللهفان).

——-

المصدر: المسلم نت.

مواضيع ذات صلة