أحمد عبد المقصود
شُغِل الإنسان منذ دبّت فيه الحياة ودَرَج على هذه الأرض بالبحث عن الخلود الطويل، وظلّت أمنية البقاء حُلمًا يداعب أهواء البشر ويحرك رغائبهم، صالحهم والطالح، عالمهم والجاهل، حتى حكى لنا القرآن رغبة أبي الأنبياء إبراهيم ومسألته أن يرزقه ربه لسان الصدق والذكر الحسن من بعده؛ فأجاب الله دعوته وحقق رجاءه، ورفع ذِكره؛ حتى تنازعه أتباع الأديان من بعده، كلهم يزعم أنه شيخ دينهم، وإمام ملّتهم، وبسقت شجرة عائلته لتثمر أفنانها من بعده أنبياء ومرسلين، خلّدوا ذكره إلى يوم تقوم الساعة.
وظل السؤال الذي يُلحّ على بني آدم: كيف لهم أن يخلّدوا مسيرتهم على هذه الأرض، ويتركوا أثرًا في بيداء الحياة المترامية؟
وقد اختلف الناس في الإجابة على هذا السؤال طرائق قِددًا، وسلكوا – بحثًا عنها – كل سبيل، فرأى بعضهم الخلود في الأولاد والذرية، والتمسه بعضهم في العلم والتأليف، ووجده آخرون في السيطرة والحكم، وعلى اختلاف مشاربهم كان اختلاف سِيَرِهِم من بعدهم!
فمنهم من خلّف وراءه سيرة وهّاجة متوقّدة، كالسراج الذي يشع للناس في الليل البهيم، ويثقب حُجَب الظلام أمام السائرين، ومنهم من انطفأت سيرة حياته بموته، فمرّ ولم يترك على جِدار الحياة نقشًا باقيًا، أو أثرًا يلفت الأنظار!
ولكن أليست تلك السيرة المتوهّجة، وذلك الأثر المشعّ الوهّاج هما نهاية سلسلة متصلة من الأيام المضيئة التي أوقدها صاحبها بصالح الأعمال وجليل الآثار؛ فانعكست تلك الأنوار شعاعًا ينير للناس من بعده، وضياءً يقبِسُون منه.
وهل السيرة المنطفئة المُعتِمة سوى حصاد أيام منطفئة مقفرة من عمل صالح، أو أثر نافع رشيد؟
أليست عُصَارة عمرٍ أشبه بالبيت الذي فُتحت نوافذه وأبوابه، وهبت عليه الزعازع والرياح فأطفأت سراجه وأخمدت ناره، فأعْتَمَ وغَمَرَه الظلام؟.
وإني ليستَبدّ بي التأمُّل، وأجول في أودية التفكير، متسائلًا عن تلك الأيام المنطفئة المعتمة؛ فتجاوبني الأصداء في جنبات نفسي وأنحاء ضميري، ألا تعرف أيامك المنطفئة، أم أنك نسيتَ يا هذا؟!
يومك المنطفئ… هو كل يوم أشرقت شمسه وأنت بعْدُ في فراشك، لم يستقبل فيه صدرك هواء فجره الناعش الصافي، ولم تُبادر فيه بالوقوف بين يَدي ربك شاكرًا نعمته المُسداة عليك بأن مدّ في عمرك يومًا جديدًا، وفرصة للاستدراك…
يومك المنطفئ… هو كل يوم انطلقت فيه مُيَمّمًا نحو عملك، منغمسًا في لهاثك الموصول سحابةَ يومك، ذاهلًا فيه عن أهدافك الكُبرى وغايتك العظيمة، غافلًا عن نية السعي والإعمار التي من أجلها أقامك ربك خليفة على هذه البسيطة.
يومك المنطفئ … هو كل يوم تحطّم فيه شِراع رجائك، وتلاعبت بسفينتك ظنون السوء حول رزقك؛ فعلّقت رجاءك على مخلوق عاجز مثلك، وعقدت آمالك على إنسان ضعيف لا حول له في إطعام نفسه، أو سقيها شربة ماء.
يومك المنطفئ… هو كل يوم تقهقَرتَ فيها أمام العقبات، وهبّتْ عليك فيه الريح؛ فقرّرت أن تسدّ الباب وتستريح، فقضيته تنهبك المخاوف، وتفترسك الآلام، ويدعوك حب السلامة للانكفاء على نفسك، “والبقاء أبد الدهر بين الحُفَر” !
يومك المنطفئ… هو كل يوم تبرّجت أمامك فيه المنكرات واستعلنت الأخطاء، فاخترت أن تتجنّب الزوايا الحادة، واكتفيت بأن تقول في نفسك: ” اللهم إن هذا منكر لا يرضيك “، وقفزت إلى مرتبة الإنكار بقلبك ونسيت أن قبله مرتبتين من الإنكار باليد واللسان!، فاستفحش الباطل وانتفش، وطالت ناره ثيابك وكنت بالأمس تظن نفسك في مأمن.
يومك المنطفئ… هو كل يوم تراجَعَ فيه اهتمامك بأمور دينك، فلم تنصر قضيته في موطن يُتطاول فيه على ثوابته، أو يُسخَر فيه من رموزه وأعلامه، ورضيت من الإسلام بحمل الشارة والاسم دون الرسالة.
يومك المنطفئ… هو كل يوم أوجعتك فيه ذنوبك، وأحاطت بك خطاياك، فلم تُهرَع إلى ربك تستدفعه آلامك، أو تتداوى بالضراعة إليه من أوجاعك وآلامك، وطرقَتْ كل الأبواب إلا بابه، وتداويت بكل الأدوية إلا دواءه؛ فازدادت عليك العِلة، وأرهقتك الأوصاب!
يومك المنطفئ… هو كل يوم انقضت ساعاته ولم تَسعد فيه بلقاء كلام ربك، أو تنشر كتابه بين يديك قارئًا مُتغنيًّا متدبرًا، فيهتزّ قلبك شوقًا لوعده، ويرجف خوفًا من وعيده، فتقوم عنه وقد أعاد ترتيب الفوضى الضاربة في أنحاء نفسك، ورمّم ما هدّمته الغفلة من كيانك.
يومك المنطفئ… هو كل يوم غربت شمسه وأفلت نجومه، دون أن تُفيد فيه من كتاب تقرؤه، أو عالم تُصغي إليه، أو عاقل تستضيء برأيه، فتفيد بذلك عقلًا إلى عقلك، وتضم شعورًا بالحياة إلى شعورك، وغاب عنك أنك تنتسب إلى دين معجزته “كتاب”، ومفتتح كلماته “اقرأ” .
يومك المنطفئ… هو كل يوم عشت فيه لنفسك؛ فلم يذعرك صوت ملهوف يستصرخ، أو فقير يستطعم، أو ظامئ يستسقي، أو مظلوم يستنصر، أو عليل يحتاج التخفيف والمواساة، وكأنك لم تقرأ يومًا أنه ” ما استحق أن يُولد من عاش لنفسه فقط “.
يومك المنطفئ… هو كل يوم لم تَجْهَد فيه لتحقيق أهدافك، أو قدّمت فيه مصالحك على مبادئك، أو فرّطت فيه في شيء من قيمك، أو بعت فيه راحة ضميرك بثمن بخس.
يومك المنطفئ… هو كل يوم غفَتْ فيه بصيرتك فغاب عنك ذكر آخرتك، وامتد فيه أملك كأنك تعيش أبدًا، فلم تسابق الساعات، وتبادر الأنفاس، ونسيت أن ذِكْر الموت دافع حفّاز نحو العمل والجد، وليس مُقْعِدًا مخَذّلًا كما شاء أن يُشيعه بيننا جَهَلَة العبّاد
ذلكم خبر أيامك المنطفئة … فماذا أنت صانع؟!
غلّقْ الأبواب، وأوصدْ النوافذ، وأوقدْ القنديل، واجعلْ النور يغمر أيامك الآتية… وأنا زعيم لك بسيرة أضوأ من الشمس، وأجمل من القمر، وأعذب من الأمنيات، وأصفى من ماء السحاب!
فإن فاتك أن تُخلّد سيرتك، وتنال حُسن الذكر، وجميل الأحدوثة في الدنيا، ففي ثواب الله العوض، وفي شهرتك بين الملأ الأعلى حُسن العزاء، ” ورُبّ مغمور في الأرض مشهور في السماء”!