مصطفى عاشور
“اليـد التي تداوي الأوجاع يـد مباركة”.. حكمة تحولت في الحضارة الإسلامية إلى مؤسسات لرعاية المرضى الفقراء الذين يصعب عليهم إيجاد الدواء أو الأخذ بأسباب الشفاء.
نظرة الإسلام إلى المرض مركبة، فهو يقرن الاستعاذة من المرض بالبحث عن أسباب الوقاية والتداوي، فلا يوجد داء بلا دواء، وفي حال وقوع المرض كان الشرع يحث على الصبر، فالنفوس التي تضعف عن المقاومة تضر بأجسادها، يقول الفيلسوف الطبيب “ابن سينا”: “الوهم نصف الداء، والاطمئنان نصف الدواء، والصبر أول خطوات الشفاء”.
وقد لعب نظام الوقف الذي ابتدعته الحضارة الإسلامية دورا كبيرا في القيام بالمهام الاجتماعية والإنسانية التي لم تستطيع الزكاة النهوض بها، ومن روعة تلك الحضارة، ديمومة الوقف، لضمان استمرار الإحسان، وإيجاد ما يلزمه من الموارد، فحاجات الناس تكاد تتشابه في حقيقتها على اختلاف الأماكن والأزمان، لذا حبس لها الوقف من الموارد ما يقوم بشأنها، حتى لا تُحرم الأجيال المتعاقبة من موارد للخير تكفل استمرار الرحمة، ويعطي “محمد كرد علي” في كتابه “خطط الشام” نموذجا لتوسع الوقف بقوله: “ولقد تفنن القوم في أنواع الأوقاف، حتى لا يكاد يخطر ببالك خاطر في الوقف، إلا وتجد من سبقك إليه، مما أوشكت أن تكون معه معظم ديار الإسلام موقوفة، وكانت ثلاثة أرباع الأملاك في المملكة العثمانية وقفا على الجوامع والمساجد”، ” لذلك عُدت الأوقاف على طول الزمن من أعظم القربات حتى قالوا: إنّ من لم يمت عن وقف مات ميتة جاهلية”.
ومع اتساع جوانب الوقف وأغراضه، جاءت الرحمة كعنوان بارز تنوعت تجلياته، حتى أصابت الصغار والخدم، والفقراء، والنساء الغضبى، والطيور المهاجرة، والكلاب الضالة، والحيوانات المسنة، فيذكر تاريخ الوقف، أنه راعى الصغار والخدم الذين يكسرون الآنية، التي كانت تسمى قديما “الزبادي” ويخشون تعرضهم للعقوبة، فكان الوقف يمنحهم آنية بديلة، يحكي الرحالة الشهير “ابن بطوطة” في “تحفة النظار” أثناء مروره بدمشق، قائلا:” مررت يوماً ببعض أزقة دمشق، فرأيت بها مملوكاً صغيراً قد سقطت من يده صحفة من الفخار الصيني، وهم يسمونها الصحن، فتكسرت، واجتمع عليه الناس، فقال له بعضهم: اجمع شقفها واحملها معك لصاحب أوقاف الأواني، فجمعها، وذهب الرجل معه إليه، فأراه إياها، فدفع له ما اشترى به مثل ذلك الصحن”، وكان في مدينة “فاس” المغربية مكان يسمى بـ”دار الشيوخ” يشبه الفندق أو قاعات الأفراح الحديثة، موقوفة على توفير الخدمة للمكفوفين، فكان إذا اقترن المكفوف بمكفوفة، أقام في الدار زفافه جبرا لخاطره، وإسعادا لنفسه.
ومن روعة الوقف ما قام به الملك العادل “نور الدين محمود زنكي” (المتوفى:569هـ) الذي شعر بحاجة الفقراء إلى الإحساس بالجمال، والتفاعل مع الطبيعة، والاستمتاع بالحياة، فأوقف لهم أحد القصور في قرية “داريا” في غوطة دمشق ليستنشقوا بعضا مما ترتاح إليه النفس من الهواء المنعش، وجميل الزهور، حتى لا يذبل إحساس الجمال في نفوسهم، وفي الدولة العثمانية، تنوعت أوقاف السلطان “أورخان غازي” (المتوفى: 761هـ) ومنها: توزيع الفاكهة والخضار، وتأمين إرضاع الصغار، بل وشراء لعب للأطفال، وإطعام الطيور والحيوانات، وفي القرن السادس عشر الميلادي كانت أكثر من 20% من الأراضي في الدولة العثمانية تخص الأوقاف.
ورحم الوقف الحيوانات والطيور، فكان أحد أعيان مدينة “فاس” المغربية، وهو “محمد بن موسى الحلفاوي الإشبيلي” (المتوفى: 758هـ) أوقف دارا للحيوانات الأليفة، وكان يطعمها بيده، وفي “فاس” في القرن السابع الهجري، كانت هناك أوقافا لشراء الحبوب لإطعام الطيور، حتى لا تهلك، وكانت مستشفى “سيدي فرج” بفاس، تقوم بمهمة عجيبة وهي علاج طائر “اللقلاق” إذا تعرض للانكسار أو الأذى، فكان الطير يُحمل إلى المستشفى، ويصرف غذاءه لمن يضمده ويطعمه.
أوقاف المرضى في الحضارة الإسلامية
الوقف في المجال الصحي هو نظام تبرع وإدارة في الوقت ذاته، فكان يضمن الإنفاق وطريقه إدارته واستمرار ديمومته رعاية لصحة الفقير، وعلاجا لمرضه، لذا انتشرت البيمارستانات (المستشفيات) في العواصم والحواضر الإسلامية، مثل: بغداد، ودمشق، والقاهرة، والقدس، وفاس، وخصصت لها احتياجات تشغيلها من تأثيث وطعام وأدوية، وأطباء مهرة، وممرضين، وعمال، فكان المريض الفقير يجد فيها الرحمة والعلاج والرعاية في أجواء من حفظ الكرامة.
ففي منتصف القرن الثاني عشر الميلادي كان يوجد في بغداد وحدها أكثر من ستين بيمارستانًا، وفي قرطبة أكثر من خمسين، وفي القاهرة كان “البيمارستان المنصوري” الذي أوقفه الملك الناصر قلاوون في القاهرة عام 682هـ، وكان يشبه كليات الطب الحديث من حيث تجهيزاته بأرقى ما وصل إليه ذلك الزمان من علاجات ورعاية، وقد أوقفه السلطان على “الملك والملوك، والكبير والصغير، والحر والعبد، والذكر والأنثى”، ، وجعل لمن يخرج منه من المرضى عند بُرئه كسوة، ومن مات ينفق البيمارستان على تكفينه ودفنه.
ورغم أن البيمارستان المنصوري كان وقفا للفقراء، فلم يُهمل فيه الفقير، بل حظي برعاية كبيرة واهتمام واضح، وتذكر كتب التاريخ أن الأمير “جمال الدين آقوش الأشرفي”، المشرف على البيمارستان، كان يحسن إلى المرضى ويتفقد أحوالهم في الليل، بل يتنكر للتأكد من حصول المريض الفقير على حقه، فكان يُدخل إليهم قبل الفجر ويسأل الضعفاء عن سائر أحوالهم حتى عن الفراش والطبيب، وكان يتفقد الأماكن التي يحتجز فيها المرضى النفسيين أو “المجانين” وكان لا يترك تفقد أحوال المرضى لغيره.
وتشير بعض المصادر التاريخية أن البيمارستان كان يُراجعه أربعة آلاف شخص يوميا في كافة التخصصات، وكان المرضى الذين يُشفون يُمنحون مالا يعينهم على تأجيل نزولهم للعمل حتى يستعيدوا عافيتهم، ويحكي “مسيو جومار” Jomard”، الذي حرر كتاب “وصف مصر” الذي كتبه علماء الحملة الفرنسية على مصر عام 1798م، أنه شاهد البيمارستان المنصوري، وما يقدم فيه من خدمات للفقراء، وذلك بعد خمسة قرون من إنشائه، ويحكي عالم الحضارات الفرنسي بريس دافن[1] Prisse Davennes أن قاعات المرضى في “البيمارستان المنصوري” كانت تُدفأ بإحراق البخور، أو تبرد بالمراوح الكبيرة الممتدة من طرف القاعة إلى الطرف الثاني، وكانت أرض القاعات تغطى بأغصان شجر الحناء أو شجر الرمان أو بعساليج[2] الشجيرات العطرية”.
وكانت وقفية الأمير “عبد الرحمن كتخدا”[3] توفر العناية للفقراء ذوي الأعذار ليذهب الأطباء إلى بيوتهم، مراعاة لظروفهم، وبلغ من العناية بالمرضى تخصيص أحياء كاملة لعلاج المرضى ينفق عليها من الوقف، يذكر الرحالة الأندلسي “ابن جبير” أثناء زيارته لبغداد أن هناك حيا طبيا كاملا ينفق عليه من الأوقاف، وكان يشبه المدينة الصغيرة التي تتوفر فيها الأسواق والحدائق، وفي دمشق كان “البيمارستان النوري” الذي بناه العادل نور الدين محمود زنكي في القرن السادس الهجري مشترطا أن يُخصص للفقراء والمساكين، وكان الغني يمنح الدواء منه إذا تعذر حصوله عليه من الخارج، كما اشترط حاكم مصر “أحمد بن طولون” في البيمارستان الذي أنشئه 259هـ ألا يُعالج فيه جندي أو مملوك، حتى يكون خالصا للفقراء، لا يخشون فيه سطوة الجنود أو اقتصار ميزات الرعاية على العسكريين دون غيرهم.
وعُرفت أوقاف للكتب الطبية، فـ”نور الدين محمود” أوقف جملة من الكتب الطبية مساعدة للمشتغلين بالطب حتى يبرعوا في المجال، أما الطبيب الشامي الشهير بـ “الداخور” وهو أبو محمد عبد الرحيم بن علي (المتوفى: 628هـ) فقد أوقف داره وجعلها مدرسة طبية وأوقف عليها أملاكا للإنفاق عليها.
وكانت مستشفى “سيدي فرج” بالمغرب لها وقف ينفق منه على الموسيقيين الذين يزورون المستشفى أسبوعيا مرة أو مرتين، ويقدموا موسيقى تتلاءم مع أحوال المرضى، ويؤكد “بريس دافن” أن البيمارستان المنصوري كان وقفه ينفق منه على بعض الأجواق (فرق موسيقية) تأتي كل يوم لتسلية المرضى بالغناء أو بالعزف على الآلات الموسيقية، ولتخفيف ألم الانتظار وطول الوقت على المرضى كان المؤذنون في المسجد يؤذنون في السحر وفي الفجر ساعتين قبل الميعاد حتى يخفف قلق المرضى الذين أضجرهم السهر وطول الوقت، كذلك عرفت مكة المكرمة الأوقاف لرعاية المرضى ومنها وقف السلطان شعبان بن حسين، الذي بنى بيمارستانا ووفر له احتياجاته، وخصص جزءا من أوقافه لشراء زيت الزيتون ليُضاء طوال الليل حتى لا يشعر المريض بالوحشة.
* المصدر: إسلام أون لاين.نت.
—–
[1] إميل بريس دافن: عالم حضارات فرنسي زار مصر عام 1829م ودرس الحضارة الفرعونية، لكن استهوته الحضارة الإسلامية فأسلم وكرس حياته للتعريف بالإسلام وحضارته حتى وفاته عام 1879م.
[2] العساليج: مفردها عسلاج أو عسلوج وتعني: الأغصان الناضرة الخضراء اللينة.
[3] الأمير عبد الرحمن كتخدا: أحد أمراء المماليك، وكان له آثار معمارية رائعة في القاهرة، توفي.