منصور بن محمد المقرن
إنّ أكثر ما يغيظ أعداء الإسلام وخصومه هم الدّعاة العاملون في نشر الدّين ودحض الشّهوات وردّ النّاس عن الشّهوات المحرّمة، ولذلك فإنّ أوّل ما يسعى إليه أولئك الأعداء والخصوم هو منع الدّعاة من القيام بواجبهم، فإن لم يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً انتقلوا إلى محاولة التّقليل من أثرهم وإضعاف دورهم، ويسلكون في ذلك مسالك عدّة، من أهمّها: استثارة الدّاعية حتّى يشتغل في الانتصار لنفسه والدّفاع عنها عِوَضًا عن الانشغال بدعوته.. وهم يتّبعون لأجل ذلك وسائل متنوّعة؛ فتارة يتّهمونه في عقله، وتارة يلوكونه في أصله أو بلدته، ومرّة يشكّكون في مقصده، بل قد وصل الأمر ببعضهم أن استهزأ باسم الدّاعية واسم أبيه.
وليس السّعي لصرف الدّاعية عن مقصده وإثارته أمرًا مستجدًّا في عصرنا، بل قد سلك الأعداء هذا المسلك منذ القِدم؛ فهذا فرعون لمّا جاءه موسى -عليه السلام- بدعوة التّوحيد سأله قائلا- كما حكى الله ذلك عنه في سورة الشّعراء –: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ}، فأجابه موسى: {قَالَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنْتُم مُّوقِنِينَ}، فأراد فرعون أن يستثير موسى بأنْ يشكّك النّاس في دعوته ويستخفّ بكلامه، فقال: {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ}، قال صاحب الظّلال: “والتفت فرعون إلى من حوله، يُعَجّبهم من هذا القول، أو لعلّه يصرفهم عن التأثّر به على طريقة الجبّارين الذين يخشون تسرّب كلمات الحقّ البسيطة الصّريحة إلى القلوب: {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ}، ألا تستمعون إلى هذا القول العجيب الغريب، الذي لا عهد لنا به، ولا قاله أحد نعرف”. فهل قام موسى -عليه السّلام- بالردّ على مهاترة فرعون، وانشغل بمقولته؟ كلا. بل استمرّ عليه السّلام في بيان دعوته، فقال: {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ}، ومرّة أخرى يتّجه فرعون إلى الاستهزاء بموسى بل ويصفه بالجنون، فقال: {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} فهل استثار موسى وصف الملك له بالجنون أمام الملأ؟ كلا. بل واصل عرض قضيّته فقال: {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}. فلمّا لم تُفلح تلك المحاولات لصرف موسى -عليه السلام- عن دعوته، لجأ فرعون إلى ما يلجأ إليه الطّغاة إذا أعيتهم الحجّة والبرهان، فقال: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} قال صاحب الظّلال: “والطّغيان لا يخشى شيئًا كما يخشى يقظة الشّعوب، وصحوة القلوب؛ ولا يكره أحدًا كما يكره الدّاعين إلى الوعي واليقظة؛ ولا ينقم على أحد كما ينقم على من يهزّون الضّمائر الغافية. ومن ثمَّ ترى فرعون يهيج على موسى ويثور، عندما يمسّ بقوله هذا أوتار القلوب. فينهي الحوار معه بالتّهديد الغليظ بالبطش الصّريح، الذي يعتمد عليه الطّغاة عندما يسقط في أيديهم وتخذلهم البراهين: قال: {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}، هذه هي الحجّة وهذا هو الدّليل: التّهديد بأنْ يسلكه في عداد المسجونين؛ فليس السّجن عليه ببعيد. وما هو بالإجراء الجديد! وهذا هو دليل العجز، وعلامة الشّعور بضعف الباطل أمام الحقّ الدّافع. وتلك سمة الطّغاة وطريقهم في القديم والجديد”.
فلما سمع موسى -عليه السلام- التّهديد بالسّجن وما فيه من حرمان النّاس من دعوته عَدَل إلى أمر يُظهر فيه حجّته ودليله على صدقه، وأنّه مرسل من الله تعالى، فقال: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ}.
وموقف آخر حدث من عتبة بن ربيعة مع الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، يُبين حرص أعداء الدّين قديمًا على صرف الدّاعية عن دعوته وإشغاله بحظوظ نفسه، فتأمّل كيف كانت الاستثارة والمغريات من عتبة، وماذا صنع الرّسول -صلّى الله عليه وسلّم- حيالها. فقد أتى عتبة إلى رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- فقال له: يا محمّد، أنت خير أم عبد الله؟ فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقال عتبه: أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال عتبة: فإنْ كنت تزعم أنّ هؤلاء خيرٌ منك فقد عبدوا الآلهة التي عِبت، وإنْ كنت تزعم أنك خيرٌ منهم فتكلّم حتى نسمع قولك… أيّها الرّجل! إنْ كان إنّما بك الحاجة جمعنا لك حتّى تكون أغنى قريش رجلاً، وإنْ كان إنّما بك الباءة فاخترْ أيّ نساء قريش شئْتَ فلنزوّجك عشرًا.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “فرغت؟” قال: نعم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: {حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت: 1-2] إلى أن بلغ {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13]. فقال عتبة: حسبك، ما عندك غير هذا؟ قال: لا.
إنّ الدّاعية الكيّس الفطن ماضٍ في طريقه، واثقٌ من منهجه، مقبلٌ على دعوته، لا تنطلي عليه ألاعيب الخصوم، ولا تستثيره حماقاتهم، ولا تستزلّه مهاتراتهم، بل يهتدي بهدي أنبياء الله ويقتفي أثرهم، كما يستجيب لأمر الله تعالى حين أمر نبيّه -صلّى الله عليه وسلّم- بقوله: {فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94]. قال السّعدي رحمه الله: “ثم أمر الله رسوله أن لا يبالي بهم ولا بغيرهم وأن يصدع بما أمر الله، ويعلن بذلك لكلّ أحد ولا يعوقنّه عن أمره عائق ولا تصدّه أقوال المتهوّكين، (وأعرض عن المشركين) أي: لا تبالِ بهم، واتركْ مشاتمتهم ومسابّتهم مقبلاً على شأنك”.
كما أنّ الدّاعية الموفّق يمتثل لأمر الله تعالى نبيّه -صلّى الله عليه وسلّم- بقوله: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ} [الروم: 60]. قال السّعدي رحمه الله: (فَاصْبِرْ) على ما أمرت به وعلى دعوتهم إلى اللّه، ولو رأيْت منهم إعراضًا فلا يصدّنك ذلك… إلى أن قال: (وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ) أيْ: قد ضعف إيمانهم، وقلّ يقينهم فخفّت لذلك أحلامهم وقلَّ صبرهم، فإيّاك أن يستخفّك هؤلاء؛ فإنّك لم تجعلهم منك على بال وتحذر منهم، وإلاّ استخفوّك وحملوك على عدم الثّبات على الأوامر والنّواهي، والنّفس تساعدهم على هذا وتطلب التشبّه والموافقة. وهذا مما يدلّ على أنّ كلّ مؤمن موقن رزين العقل يسهل عليه الصّبر”.
ومما يُعين الدّاعية على تحمّل استهزاء الخصوم به وانتقاص شخصه هو الزّهد في نفسه في جنْب الله تعالى فلا يغضب لها، ولا ينشغل بالانتصار لها عن الانتصار لدينه وعقيدته. قال ابن القيّم -رحمه الله- عن الزّهد في النّفس: “أن تُميتها فلا يبقى لها عندك من القدر شيء؛ فلا تغضب لها، ولا ترضى لها، ولا تنتصر لها، ولا تنتقم لها. قد سبَّلت عرضها ليوم فقرها وفاقتها. فهي أهون عليك من أن تنتصر لها أو تنتقم لها أو تجيبها إذا دعتك أو تكرمها إذا عصتك أو تغضب لها إذا ذُمّت، بل هي عندك أخسّ مما قيل فيها… وهذا وإنْ كان ذبحًا لها وإماتة عن طباعها وأخلاقها فهو عين حياتها وصحّتها، ولا حياة لها بدون هذا البتّة. وهذه العقبة هي آخر عقبة يُشرف منها على منازل المقرّبين… وهذا الزّهد هو أول نقدة من مهر الحبّ، فيا مفلس تأخّر”.
إنّ معرفة الدّاعية بهذا الأسلوب الذي يتّبعه الخصوم وعدم انزلاقه فيه يُوفّر على الدّعوة والدّاعية الكثير من الوقت ليُبذل في مجالات أوسع وآفاق أرحب، كما يرفع مكانة الدّاعية عند النّاس، ويزداد تأثّرهم بما يقول، وذلك عندما يرونه مقبلاً على دعوته مخلصًا لها، مترفّعًا عن الانتصار لنفسه، معرضًا عن الخائضين في شخصه.
المصدر: نوافذ/الإسلام اليوم