د. محمد عمارة
المنهاجُ هو الطريق الواضح والبيِّن والمستقيم؛ ولذلك كان لا بدَّ للمنهاج الحق من استقامة المعايير ودقة التطبيقات على الحالات والمفردات.. وفي المنهاج القرآني إزاء التعامل مع “الآخر” -كل “آخر”- المتميز بين ألوان الطيف في مواقف فصائل وتيارات ومذاهب هذا “الآخر”.. انطلاقًا من منهاج “ليسوا سواءً” وذلك لتحقيق العدل الذي يتنافى مع التعميم والإطلاق في الحكم على الآخرين.
لقد طلب القرآن الكريم مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن، لكنه استثنى من ذلك الذين ظلموا من هؤلاء الكتابيين {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (العنكبوت: 46).
ومع تصنيف القرآن لليهود بأنهم مع المشركين الأشد عداوةً للذين آمنوا {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} (المائدة: 82)؛ فقد ميَّز في اليهود عندما قال: إنهم {لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ . يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ . وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} (آل عمران: 113-115).
كذلك ميز المنهاج القرآني في الموقف من النصارى بين الذين كفروا وأشركوا عندما اتخذوا من المسيح وأمه عليهما السلام إلهين من دون الله وبين الذين هم أقرب مودةً للمؤمنين {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ . وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (المائدة: 82-83).
وكذلك حال المنهاج القرآني المستقيم في معاييره الصارمة في تطبيقاته حتى مع المشركين؛ ففي آيات سورة التوبة “براءة” التي زعم البعض أنها قد شرعت للعنف والقتل والقتال ضد الآخر.. وأنها لذلك قد خلت من “البسملة” التي تذكِّر بالرحمة! ففي آيات هذه السورة التي عرضت للموقف من المشركين نراها قد التزمت المنهاج القرآني في التمييز بين أنواع ومواقف هؤلاء المشركين.
1- فهناك المشركون المعاهدون “المحترِمون للعهود” وهؤلاء لهم -مع شركهم- الوفاء بالعهود والمعاهدات {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (التوبة: 4).
2- وهناك المشركون المحايدون الذين لم يتعرفوا على الإسلام.. “هؤلاء تقدم إليهم المعرفة، وتبلغ لهم الدعوة ثم يترَكون أحرارًا في أمان المسلمين حتى يحددوا مواقفهم في حرية ودون إكراه”، {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} (التوبة: 6).
3- أما المشركون المعتدون الذين فتنوا المسلمين في دينهم وأخرجوهم من ديارهم ونقضوا العهود ولا عهد لهم ولا أمان فهؤلاء هم الذين يقاتلهم المسلمون درءًا لعدوانهم وكفًّا لشرورهم لأنهم {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} (التوبة: 10)؛ ذلك أن هذا الصنف من المشركين هم الذين نقضوا العهود.. واعتدوا على المؤمنين واحترفوا نقض المعاهدات {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُّرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ * اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (التوبة: 8-9).
هكذا ميَّز القرآن الكريم بين مواقف الآخرين -يهودًا ونصارى ومشركين- وحدد صفات كل فصيل، وهكذا تميز المنهاج القرآني باستقامة المعايير.. والعدالة في تطبيقات هذه المعايير حتى مع الأعداء من المخالفين.
——-
المصدر: نوافذ/الإسلام اليوم.