القائمة الرئيسية
 الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

الآثار التربوية للقرآن

الشيخ طلال حسن

هنالك آثار تربوية عظيمة وكثيرة للقرآن الكريم؛ سنحاول الوقوف عندما يتعلّق بطبيعة التزكية والتطهير والوصول إلى الله تعالى..4

الأثر الأوّل: ضرورة المراعاة الطولية في السير والسلوك:

قال تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} (النجم: 39)؛ فليس من المنطقي أن يتوقَّع في الظروف الطبيعية ارتقاء المقامات دون توفّر المقدمات؛ ففي السير والسلوك لا معنى لا يُسمَّى بحرق المراحل؛ فمن لم يطوِ مرحلة الخلاص من المعاصي والذنوب كيف له أن يكون من المُخلصين فضلاً عن المُخلَّصين؛ فهنا لا تكفي الأماني ولا النوايا السليمة؛ وإنّما لا بدّ من العمل؛ فمن كان يُعاني من.

مرض الكذب –مثلا– لا يُمكنه أن يكون مخلصاً أبداً؛ فالصدق أرضية الإخلاص؛ والإخلاص أرضية الاستخلاص.

ونحن نعلم أنّ كل مرض معنوي بحاجة إلى فترة من الزمن للخلاص منه قد تستغرق شهوراً أو سنوات؛ وهنا ينبغي للإنسان أن لا يغترَّ بأي تقدّم يناله؛ وإنما عليه أن يتهم نفسه فلا يركن للتسويلات الزائفة؛ ورحم الله القائل:

أحب الصالحين ولست منهم *** لعل الله يرزقني صلاحا

إذن فالآية الكريمة تقول ليس للإنسان إلا ما سعى وليس ما أراد أو ما تمنَّى؛ وهنا يكمن البعد التربوي للقرآن؛ حيث يربينا القرآن على ضرورة اعتماد الواقعية فيما نبتغيه؛ فلا يمكن نيل شيء ما نتمناه بدون عمل وسعي.

الأثر الثاني: امتزاج العلم بالعمل والصبر:

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 277)؛ وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ} (القصص: 80)؛ فالصورة الواقعية للإيمان تكمن في العمل الصالح؛ وهذه الجامعية بين الإيمان والعمل الصالح مقام رفيع لا يناله إلا الصابرون؛ والصبر في المقام جامع للصبر عن المعصية والصبر على الطاعة؛ فالطاعة تحتاج صبراً شديداً، كما أنّه اجتناب المعصية يحتاج صبراَ شديداً.

الأثر الثالث: الاهتمام بما يعنيك وترك ما لا يعنيك:

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (المائدة: 105)؛ ولعل هذا من أعظم الآثار المُفضية لتحصيل الكمالات؛ فالإنسان فضولي الطبع، وقد اعتاد على غض الطرف عن عيوبه والتمحيص في عيوب الآخرين؛ وكما قيل: عين الناقد بصيرة؛ فيُبصر القشَّة في عين الغريم ولا يُبصر العوار الذي في عينه؛ من هنا نجد الآية الكريمة تقول ابتدئوا بإصلاح أنفسكم وهدايتها؛ {… فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (فاطر: 8)، وما هم فيه من ضلال ومن سوء أخلاق؛ وهذا لا يعني أن نتصَّل واجباتنا الاجتماعية؛ فالمراد هو الاشتغال بإصلاح نفسك التي بين جنبيك؛ فلا تهدر وقت في عدِّ عيوب الآخرين، وأنت لم تخلُ بعدُ من العيوب.

الأثر الرابع: دوام الابتلاء والتمحيص سنة الله في الذين آمنوا:

قال تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} (آل عمران:
141)، فالإيمان وحده لا يحقّق الأهداف البعيدة والكمالات العليا وإنما لا بدّ من التمحيص الذي لا يتحقّق هو الآخر بدون ابتلاءات مستمرة؛ حتى تبلغ القلوب الحناجر؛ قال تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} (الأحزاب: 10)، ذلك الابتلاء والاختبار الشديد الذي عبَّر عنه القرآن بالافتتان كما في قوله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} (العنكبوت: 2)؛ أي: يختبرون بما يتبين به حقيقة إيمانهم.

الأثر الخامس: التقدّم في التضحية وتحصيل الرضا:

وهنا يكمن أثر عظيم في مسالك السير؛ فلا تنتظر من الآخرين أن يتقدَّموا لتتبع أثرهم؛ أو لا تكن صدى والآخر هو الصوت؛ كن أنت الصوت، وكن أنت الحاضر أوّلاً في مواضع الطاعة، قال تعالى: {قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} (طه: 84)، وهذا من أعظم وأبرز مواضع الاستعجال في موارد الخير والرضوان. نعم ورد في الأخبار ذم للعجلة ومدح للتأني، ولكن هنالك مواضع تنقلب فيه هذه القاعدة الشرعية والعقلائية رأساً على عقب؛ وقد ورد عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام): “التثبت خير من العجلة إلا في فرص البر…” (غرر الحكم الآمدي: ح 1950)، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الأناة في كل شيء خير إلا في ثلاث: إذا صيح في خيل الله فكونوا أوّل من يشخص، وإذا نودي للصلاة فكونوا أوّل من يخرج، وإذا كانت الجنازة فعجلوا بها، ثمّ الأناة بعد خير” (كنز العمال للمتقي الهندي: ح5832)، وفي هذه الأمور الثلاث رضا الله تعالى.

المصدر: البلاغ.

مواضيع ذات صلة