د. إبراهيم أبو محمد
في مجتمعات المسلمين المعاصرة لا تعمل كل المرافق في أداء متواز ولا يربطها عقد واحد، وإنما كل يعمل بطريقته وبأسلوبه الخاص. وإذا كان الأداء المتوازي يصب في مجرى النفع العام للمجتمع، فإن الأداء الشاذ بحركة انعكاسه وتناقضه ضد بعضه البعض يعطل الكفاءات، ويشل الإرادة، ويصيب المجدين بالإحباط، ويحدث نوعًا من الازدواجية والانفصال، كما يتسبب في حرمان الأمة من ثمرة جهود أبنائها.
ولئن كانت هنالك جهود فردية مبدعة ورائعة، فهي لم تلبث أن تصطدم وتتحطم أمام البيروقراطية القاتلة والروتين السام، ومن هنا لا تلبث هذه الجهود أن تموت وتندثر وسط بيئة لا تقدر المجدين والمبدعين، ولا تعرف كيف تستفيد بجهود أبنائها، وبالتالي فالمحصلة النهائية على الناتج العام تحسب بالخصم من رصيد المسلمين وليس بالإضافة.
وهذه الحالة لا تسبب التوقف والجمود في المجتمع فقط، وإنما ترجع به إلى الوراء، وترتد به القهقرى، فيعيش حالة من التخلف المزري الذي يحيله عالة على غيره من الأمم، ويجعله فريسة لكل طامع وأسيرًا لكل معتد أثيم.
ووسط هذا الجو الكئيب والمملوء بآفات التخلف والضياع تبحث العقول المبدعة لنفسها عن منفذ وملاذ فلا تجد مكانًا وتقديرًا إلا في أحضان الغرب، الذي يحرص بدوره دائما على استنـزاف عقول أبناء الأمة، والاستفادة منها، وحرمان مجتمعاتها الأصلية من ثمرات جهودها وعبقرية عقول أبنائها.
ومن هنا يظل التخلف لنا والتقدم لهم. وإذا كانت طبيعة الحياة لا تعترف بحق إلا للأقوياء، فإن الضعف والهوان يكون من نصيب المسلمين وحدهم، وهكذا يخطط ويراد لأمتنا أن تعيش على هامش الحياة دون أن يكون لها حضور أو تأثير.
علاقة المسلمين بالدين!
وإذا كان الدين الذي نـزل من السماء قد رفع أمتنا قديما إلى مكان القيادة والريادة، وبوأها مكانة التقدير والإعزاز، فإن المسلمين في عصرهم الحالي قد تخلوا عنه، وهبطوا دون مستواه، وفرطوا في قيمه ومبادئه، وذابت هويتهم ومكوناتهم النفسية، ومقوماتهم المعنوية، وبالتالي فقد تحولوا – رغم الكم العددي الكثير (قرابة مليار ونصف نسمة)- إلى شيء لا طعم له، ولا لون، ولا رائحة، يستهلك ولا ينتج، ويأخذ ولا يعطي، وينفعل ولا يفعل، ويتأثر ولا يؤثر، ويستقبل فقط ولا يرسل.
نعم هم من حيث الكم كثير، ولكنهم كما قال النبي (صلى الله عليه وسلم) “غثاء كغثاء السيل”. فهل هذه الأمة هي التي أرادها الله أمة وسطًا، واختارها لتكون شهيدة على أمم الأرض كلها؟ أم أن شيئا خطيرًا قد حدث، غيَّر الملامح والقسمات، وأحال أحرار الأمس، ورواد النهضة، وقادة الحرية، ومشاعل النور، إلى قطيع من الأسرى، يعيشون التخلف والضياع، ويعانون التعثر والتمزق، ولا يجيدون إلا العراك ضد بعضهم، ولا يتحركون في كل شيء إلا بإشارة وتصريح ممن ليسوا من دين الله على شيء.
وإذا كان هذا هو وضع المسلم المعاصر، فكيف يتحقق له التمكين في الأرض، وكيف يستعيد مكانته وهو يعيش هذه الحالة، ولا تتوفر فيه شروط الخلافة عن الله؟ ولا حتى عناصر الإيمان الصحيح؟ فهو بهذا الوضع لم يفلح في دين ولا دنيا، بل قد أضاع دينه ودنياه وضيع نفسه وأمته.
احترام قوانين الحياة
وفي المقابل فإن غير المسلم – الذي لا يؤمن أصلا أو يؤمن على نحو منحرف- ويلتزم بسنة الله في الأسباب، ويحترم بكده وكفاحه قوانين المادة، ويبذل الجهد والعرق في إتقان فنون الحياة وشئون الدنيا، فإن عدالة الله تأبى أن يحرم من ثمرة هذا الكفاح في الدنيا، ولو كان كافرًا فعليه كفره، وسيحاسب عليه عند الله في الدار الآخرة.
وإذا كان الآخرون يحترمون قوانين الطبيعة، ويجدّون في التعرف على المادة وخصائصها وقوانينها، ويستفيدون من كل دقيقة في حياتهم، ويوظفون عنصر الزمن ممثلا في احترام الوقت، وعنصر العلم ممثلا في احترام العقل، وتوفير الإمكانات له، وعنصر المادة ممثلا في احترام المال وحسن استخدامه صرفًا واستثمارًا. فإننا دون أمم الأرض جميعًا أكثر الناس تفريطًا في هذه العناصر واستهانة بها. وإذا كان ديننا ينشئ علاقة تكاد تكون عاقلة بين الكائن والكون، ويقيم البناء الحضاري على تلك الركائز التي استفاد منها أعداؤنا وسخروها لخدمتهم، فهو لم يكتف بلفت الإنسان إليها وتنبيهه إلى خطورتها في تقدم الأمم ورقي المجتمعات فقط، وإنما جعلها محل حساب دقيق في أحرج المواقف وأشدها خطرًا في تحديد مستقبل الإنسان أمام الله في الدار الآخرة.
يقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): “لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به” (صحيح الجامع الصغير وزيادته ). فهل يمكن أن تكون هناك دعوة لاستثمار الطاقات وتوظيف العناصر أفضل من هذه الدعوة؟.
الواقع المر!
إن الآخرين الذين لا يؤمنون بالله، أو يؤمنون به على نحو منحرف قد انصرفوا إلى إجادة أعمالهم، وإتقان فنونهم، والاستفادة من كل ما هو متاح لديهم، فكان من حقهم بمقتضى قوانين العدالة الإلهية أن يتقدموا، وأن ينتصروا، وأن يحققوا أقوى الإنجازات وأعظمها في عالم المادة، وأن يمسكوا – بموجب هذا التقدم- بكل خيوط اللعبة السياسية وتوجيه دفتها لصالح قضاياهم، وأن يسخروا كل المنظمات والمحافل الدولية لتحقيق أهدافهم، فهل يلامون إن فعلوا ذلك؟ وإذا كان هذا هو حالهم فما هو حال المسلمين في المقابل؟
إنك إن نظرت يمنة أو يسرة لا تجد غير التسيب وتبديد الطاقات وضياع الوقت، وبالجملة لا تجد غير أمة تعيش على أطلال آبائها، وتحسن الحديث عنهم بكلام طويل عريض، لكنها لا تحسن اقتفاء آثارهم أو الاقتداء بهم.. تجيد سرد تاريخ البطولة لكنها تعجز عن محاكاة البطل. تلك هي حالة المسلمين، نقول ذلك في محاولة لفهم الواقع وتحديد نقاط السلب والإيجاب، وليكون واضحًا في الذهن طبيعة العلاقة بين التخلف والقيم السلبية السائدة والتي أفرزها الواقع الغائب عن منظومة القيم الإسلامية الحقيقية ولتكون دعوة التجديد والنهضة على بصيرة تستحضر كل جوانب المشكلة ولا تغفل عن جانب منها، ثم نقول ذلك أيضا من باب الصدق مع النفس وليس من باب جلد الذات.
* مفتي أستراليا، رئيس إذاعة القرآن الكريم بسيدني، رئيس مجلس إدارة المؤسسة الأسترالية للثقافة الإسلامية.
المصدر: موقع أون إسلام.