أحمد قطشة
قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (آل عمران : 110)
ارتبطت هذه الآية في أذهاننا، بأنها تصريح رباني لأمة محمد عليه الصلاة والسلام، يفيد أنها أفضل أمم الأرض، وأن أفضليتها تنبع من كونها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وما يغلف ذلك كله الإيمان بالله، وبذلك يرتاح ضميرنا، لأن أحداً من أمم الأرض، لا يؤمن بالله كما نؤمن نحن، فضلاً على أنهم لا يملكون ما نعرفه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر…
فهل نحن فعلاً أفضل أمم الأرض؟ وهل تعني الآية فعلاً هذا المعنى؟ وما هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ وما علاقة الإيمان بالله بكل هذا؟
ولنعد أيضا في نفس الوقت لمعاجم اللغة العربية، ونتوقف عند معنى كلمة خير، فالمعاجم تقول لنا: (إن كلمة خير، هي ضد الشر، وأن الخير تعني النفع)، والمعنى الأخير، هو الذي يستقيم مع سياق الآية، ليصبح المعنى أنكم أنفع أمة أخرجت للناس، وما يؤكد هذا المعنى قوله عليه الصلاة والسلام (خَيْرُكم خَيْرُكم لأَهله )، فالأفضلية ارتبطت تماماً بمقدار النفع المتأتي من هذا الشخص تجاه أهله، فالخير هو من الخيرية، وليس من الأفضلية، بل إن الأفضلية متحققة بمقدار الخيرية الناتجة عن هذه الأمة، أو عن هذا الشخص.
ومن هنا نلاحظ قوله عليه الصلاة والسلام: “إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضيين حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير” (رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب صحيح وصححه الشيخ الألباني).
خير أمة = أنفع أمة
غير أننا لو نظرنا لسياق الآيات، لوجدنا أن كلمة الخير، لا تحمل أبداً معنى الأفضلية، بل كانت واضحة الدلالة في هذه الآيات أنها تعني الأنفع والأصلح، يقول رب العزة {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ}، {لَيْسُوا سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ}.
لتكن منكم أمة يدعون إلى الخير، وبعدها بعدة آيات كنتم خير أمة أخرجت للناس، ثم وصف الله سبحانه لطائفة من أهل الكتاب، بأنهم يسارعون في الخيرات، كما نلاحظ تواتر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه الآيات جميعها.
ولو كان رب العزة سبحانه وتعالى يريد القول بالمعنى الأول الذي صدرناه في بداية المقال، لكان الأصوب لغوياً القول بأنكم خير أمة أخرجت في الناس، وليس للناس، فاستعمال اللام هنا، دل أن هذه الأمة، تحمل رسالة عالمية بامتياز، تفيد كل الناس، مهما كانوا، وأينما كانوا، فهذه الأمة أنفع أمم الأرض لغيرها، ومقدار أفضليتها مرتبط بمقدار نفعها لغيرها، وهو ما عبر الله سبحانه وتعالى عنه، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل إن أحد أشكال الخير والنفع للناس، هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
بطبيعة الحال، ما يتبادر لذهن القارئ عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو تلك الأوامر الدينية، التي تصدر من أشخاص أو هيئات، ارتبطت بهذه الظاهرة، بل وارتبط فعل الحض على الطاعات بهذه التسمية، مع أن التسمية أوسع من أن نضيقها بهذه الخانة.
يبدو ذلك واضحاً من الآية نفسها، فهذه الأمة، أنفع الأمم للناس، والناس قد يضمون المؤمن والكافر، وإذا فهمنا جواز أو وجوب حض المؤمنين على الطاعات وترك المنكرات، فهل يستقيم دعوة غير المؤمنين لذلك، مع أنا لا نقف نحن وهم على أرضية مشتركة، يمكن بها فعل ذلك، فهل يستقيم حض الملحد مثلاً على الصلاة، وهو لا يؤمن أساساً برب العالمين؟.
المعروف = كل خير للبشر
لنعد مرة أخرى ونتأكد من معنى المعروف، فالقاموس المحيط يقول أن “المعروف هو اسم لكلِّ فِعلٍ يُعرَفُ حُسْنُه بالعقل أو الشَّرْع، وهو ضد المنكر”، وهذا تعريف شامل لما نريده، فالمعروف ما تعارف الناس عليه عقلاً أنه جيد، وما أقره الشرع أنه جيد، وبالتالي لا تجد أمة من أمم الأرض، لا تحض في أدبياتها على الصدق، والأمانة، والالتزام، والحرص على الوقت، كما لا تجد أمة منها، لا تنهى عن الكذب، والغش والخداع، فهذا هو المعنى الذي يقوم به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع من لا يؤمن بالله.
أما مع الذين يؤمنون بالله، فلا يقتصر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حدود الأوامر الدينية، كما نفهمه في حدودنا الضيقة، بل يتعداه ليصل به حدوداً لا يمكن إهمالها أو حصرها.
إنني أرى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو الصيغة الإسلامية للحوار الداخلي للمجتمع، هو الطريقة التي تتم بها تصحيح الأخطاء، سواء شرعية، أم عرفية، هو الصيغة التي تكفل تساوي الجميع أمام القانون، إنها حوار يستطيع فيه اي شخص أن يقول رأيه، ويجب على البقية الاستماع والتنفيذ، بكل رضا، طالما أن الرأي استند على قاعدة المعروف والمنكر، ولم يستند على قاعدة أخرى، تدخل فيها اعتبارات القوة، سواء كانت قوة معنوية متمثلة بالصلة من المتنفذين بالمجتمع، أم بقوة مادية مدعومة بوفرة من المال.
إنها الصيغة المنشودة والمعبر عنها، في كل مكان في هذا العالم، حتى في أعرق برلمانات الأمم، فالمعروف ما تعارف الناس على حسنه.
شرط الإيمان بالله
غير أن شيئاً ما ينقصنا في هذه المعادلة، فقد يتعارف الناس على شيء سيئ، كما تعارف قوم لوط على الفاحشة، وكما يتعارف مدمنو المخدرات على حقن بعضهم البعض بها، فما يفعلونه معروف بالنسبة لهم، وقد يصل الانحراف ليصيب المجتمع بأكمله، كما في قصة قوم لوط، وكما في قصة أهل مدين، عندما تعارفوا على بخس الوزن.
فما الذي يحدد المعروف من غير المعروف؟ هنا يكمن سر قوله تعالى (وتؤمنون بالله)، إنه الإيمان به سبحانه، والاحتكام لمنهج يسمو على طمع البشر وأهوائهم، منهج لا يتغير بتغير الزمان والمكان، منهج لا يرتبط بتطور وتقدم، ولا بتخلف وتأخر، لا يحيد ولا يتبدل، موصول بالسماء.
ومن هنا نقول أن الأخلاق، وبرغم وجودها في الفطرة الإنسانية منذ خلق الله آدم، تبقى بحاجة للاتصال بشيء ثابت، مرجعية واضحة، تعود إليها، وتنضبط بمعاييرها.
المصدر: موقع أون إسلام