د.رمضان فوزي بديني (خاص بموقع مهارات الدعوة)
الإحسان هو أقصر الطرق إلى قلب المدعو؛ فالقلب ينفتح لمن يجد منه حرصا عليه وعلى مصلحته، وإذا انفتح القلب للداعية سهل عليه تقبل أي شيء منه؛ وقديما قال الشاعر:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم *** فطالما استعبد الإحسانَ إنسانُ
ويعد نبي الله يوسف عليه السلام نموذجا للحسن والإحسان؛ فهو يُضرب به المثل في الحسن والجمال، وقصته في القرآن من أحسن القصص، وقد وصفه الله تعالى بالإحسان في مقتبل حياته وهو في مرحلة الأشد، واستمر الإحسان معه حتى وصفه الله تعالى به أيضا بعد التمكين والجلوس على خزائن الأرض، وبين هذه وتلك وصفه صاحباه في السجن بالإحسان، وكذلك وصفه به إخوته حينما تعاملوا معه في التجارة قبل أن يعرفوه.
وإحسان الملك إلى يوسف كان أحد الأسباب التي جعلت يوسف يتعفف عن خيانته مع أهله، كما أن يوسف -عليه السلام- في آخر قصته يتذكر إحسان الله عز وجل إليه إذ أخرجه من السجن وجاء له بأبيه وإخوته من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بينه وبين إخوته.
وفي السطور التالية نقف مع بعض محطات الإحسان في حياة نبي الله يوسف عليه السلام..
“أحسن القصص”
القرآن الكريم هو أفضل الكتب وأقدسها؛ ولذلك فهو يقص من القصص أحسنها وأرقاها؛ ولم ينزل تلك القصص للتسلية والتسرية فقط، ولكن وراء ذلك أغراضا أسمى وأجل، يقول الله تعالى في مفتتح سورة يوسف {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} (يوسف: 3)، يقول الطاهر بن عاشور على هذه الآية: “إن في تلك القصص لعبرا جمة وفوائد للأمة؛ ولذلك نرى القرآن يأخذ من كل قصة أشرف مواضيعها، ويُعرض عما عداه ليكون تعرضه للقصص منزها عن قصد التفكه بها، من أجل ذلك كله لم تأت القصص في القرآن متتالية متعاقبة في سورة أو سور كما يكون كتاب تاريخ، بل كانت مفرقة موزعة على مقامات تناسبها؛ لأن معظم الفوائد الحاصلة منها لها علاقة بذلك التوزيع، هو ذكر وموعظة لأهل الدين فهو بالخطابة أشبه” (التحرير والتنوير: 1/64).
الإحسان طريق التمكين
لقد وصف الله تعالى نبيه يوسف عليه السلام بالإحسان مرتين؛ مرة في بداية القصة بعد أن ألقاه إخوته في الجب وأخذه عزيز مصر، والمرة الأخرى بعد التمكين وجعله على خزائن الأرض.
فقد جاء وصف يوسف عليه السلام بالإحسان أول مرة في قول الله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (يوسف: 22)؛ فالحكم والعلم هما جزاء الإحسان، والملاحظ أن هذه الآية الكريمة جاءت في الترتيب القصصي للسورة قبل أن يتولى نبي الله يوسف أي حكم؛ بل جاءت بعد بيعه بدراهم معدودة لعزيز مصر؛ حيث إن الآيتين السابقتين لهذه الآية هما: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ * وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (يوسف: 20، 21).
فكأن الله تعالى يخبرنا بأن الحكم والتمكين ليوسف بدأ مع دخوله قصر عزيز مصر؛ فمن هنا كانت بداية الطريق إلى الملك، بما اعترى هذا الطريق من عوائق وفتن.
فالله -عز وجل- آتى يوسف عليه السلام العلم المتمثل في تأويل الأحاديث، والحكم المتمثل في دخوله بيت العزيز وتمكنه من قلبه حتى أكرم مثواه؛ حيث يُعد التمكن من قلب العزيز بمثابة التمكين ليوسف في الأرض (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض).
أما الموضع الآخر الذي وصفه الله تعالى فيه بالإحسان فهو بعد التمكين الحقيقي، والإمساك بخزائن أرض مصر، وهو ما ذكره القرآن في قوله تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَاءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (يوسف: 54-56).
فتمكنه من خزائن الأرض نوع من الجزاء له مقابل إحسانه في عبادته لله تعالى، وإحسانه إلى الناس في تعاملاته؛ حيث وصفه من تعاملوا معه بالإحسان وسلوكه، كما سيتضح في السطور التالية.
حينما يُحسن المظلوم!
إن الإنسان إذا تعرض لظلم في حياته فإنه ربما يتخلى عن بعض صفاته الإيجابية، وكلما ازداد الظلم على الإنسان انعكس ذلك على تصرفاته وسلوكياته تجاه الآخرين، لكن نبي الله يوسف عليه السلام لم يقابل الظلم الكبير الذي وقع عليه بالتخلي عن فضائل الأخلاق ومكارم الصفات المتمثلة في الإحسان الذي شهد له به من تعاملوا معه، وقد تجلى هذا في موقفين:
الموقف الأول: حينما دخل السجن؛ فرغم ما يعانيه السجين ويكابده من آلام نفسية وضغوط اجتماعية يكون لها تأثيرها على سلوك الفرد؛ فإن نبي يوسف عليه السلام احتفظ بأخلاقه الفاضلة المتمثلة في الإحسان في تعامله لرفقائه في السجن، رغم أن ضغوط وآلام السجن يضاف إليها بالنسبة لنبي الله يوسف ضغوط وآلام الظلم البين الذي وقع عليه من امرأة العزيز.
فقد نقل القرآن عن صاحبي يوسف عليه السلام في السجن حينما طلبا منه تأويلا لرؤييهما قولهما {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}.
وشهادة صاحبي السجن ليوسف بالإحسان شهادة معتبرة؛ إذ هي ناتجة عن ممارسة واحتكاك مباشر، وتعامل طوال الليل والنهار، جعله محل ثقة لهما؛ وهو ما يجعل لشهادتهما مصداقية كبيرة. ويجوز أن يكون قولهما (نراك من المحسنين) أي نرى إحسانك في أفعالك وتصرفاتك وعباداتك، وربما يكون: نرى علامات الإحسان في قسمات وجهك.
وقد استثمر يوسف -عليه السلام- هذا الفرصة وفتح مع رفيقيه هذين حوارا دعويا راقيا، وصل فيه لهما معالم دعوة التوحيد لله تعالى، قبل أن يبدأ في تفسير رؤييهما.
الموقف الثاني: وهو موقف -في عمومه- لا يقل ظلما وألما عن الموقف السابق؛ ذلك هو موقف يوسف مع إخوته الذين ظلموه صغيرا، وأكل الحسد قلوبهم فكادوا له المكائد حتى هداهم تفكيرهم الحاقد إلى التخلص منه حتى يستأثروا بقلب أبيهم؛ فذهبوا به وألقوه في الجب، وتطورت الأحداث كما تسردها السورة حتى وصل يوسف إلى حال التمكين في الأرض وأن يكون على خزائن أرض مصر.
ثم حينما أصاب الجدب أرض كنعان، وسمع أهلها بالخير الوفير الذي يفيض على أهل مصر، اتجه إخوة يوسف -كحال غيرهم من الناس- إلى مصر ليأتوا منها بالمؤونة، وحينما وصل إخوة يوسف ودخلوا على أخيهم يوسف الذي كان قائما على خزائن مصر حينها عرفهم، وهم لم يعرفوه.
وليتخيل كل منا حاله مكان نبي الله يوسف في هذا الموقف؛ حيث يجد أمامه إخوته الذين ظلموه وفعلوا به ما يصعب على القلب تجاوزه والصفح عنه.. كيف سيكون حاله معهم؟ وكيف ستكون مقابلته لهم؟!!.
لكن مع تطور الأحداث نجد هؤلاء الإخوة يشهدون ليوسف بما شهد له به صاحباه في السجن {إنا نراك من المحسنين} (يوسف: 78)، ويا له من قلب كبير ذلك الذي يتجاوز كل تلك الأحداث والإيذاءات التي تعرض لها؛ بل ويرتقي في تعامله مع من أساؤوا إليه هذه الإساءات إلى درجة الإحسان التي شهدوا له بها!!
وهكذا يكون حال المتعلق بالله تعالى؛ يعفو ويصفح، ويجاوز ويغفر، ولا تتغير طبائعه الطيبة مع تغير أحول الزمان وتوالي صروف الدهر عليه؛ فيوسف المحسن وهو فتى، هو يوسف المحسن في السجن، هو أيضا يوسف المحسن بعد التمكين والتحكم في خزائن مصر.
هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟
إذا كان يوسف عليه السلام موصوفا بالإحسان من الخالق سبحانه ومن الخلق؛ فإن ذلك ناتج عن إدراك خاص لديه للإحسان وحقيقته وجزائه؛ وهو ما ظهر في أثر الإحسان إلى يوسف على تصرفاته، ومقابلته الإحسان بإحسان مثله؛ فإحسان عزيز مصر إلى يوسف كان أحد الذرائع التي حاول من خلالها الإفلات من إغواء امرأة العزيز له؛ حيث قال لها: {مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (يوسف: 23)؛ أي أنه لا ينبغي لي أن أسيئ إلى العزيز الذي أحسن إلي؛ فنجاني من الجب وآواني في بيته، وأنا غريب مقطوع الرجاء إلا بالله تعالى.
وفي نهاية القصة هاهو يوسف عليه السلام يذكر لأبيه إحسان الله تعالى إليه في هذه النهاية السعيدة بعد أن خرج من السجن وجمعه بأبيه وإخوته؛ حيث يقول: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} (يوسف: 100).
فيوسف المحسن ينسى كل إساءة وكل ابتلاء مر به في حياته، ويذكر إحسان الله عز وجل به؛ وينسب الإحسان لله تعالى، والإساء للشيطان الذي نزغ بينه وبين إخوته، وهو بهذا يرفع الحرج النفسي الذي ربما يصيب إخوته في مثل هذا الموقف جراء ما فعلوا به.
وصدق الله العظيم الذي ختم هذه السورة بقوله: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُّفْتَرَى}.