د. أحمد عيسى (لندن)
كالأرض القاحلة التي اشتاقت إلى الماء منذ مواسم عديدة، وكالفراغ الداكن الذي يحلم بنور يملؤه وعطر يزكيه، وكالحيران في الأرض يجدها ضاقت عليه بما رحبت يبحث عن الدليل.. كان هؤلاء الذين اصطفاهم الله للهداية في الجزيرة البريطانية التي تبعد بعد المشرقين عن أرض الوحي، وفي زمن ظهر فيه كل الفساد وتكالبت فيه كل الوحوش على الإسلام تحاول تشويه صورته التي جمعت محاسن الجمال.
وصل هؤلاء إلى شاطئ الهداية، ودبت في نفوسهم الحياة، وملأ نور الحق جوانبهم، ووجدوا ضالتهم، يحدث هذا رغم تقصير المسلمين هنا، ولو أنهم نشطوا للالتزام بدينهم والدعوة إليه لدخل الناس في دين الله أفواجاً.
إن الدعوة للإسلام خاصة بالقدوة الحسنة والتعامل الطيب والنجاح في الحياة العلمية والمهنية، وتقديم النموذج الأسري المترابط، والبعد عن العنف هي مفاتيح حل معضلة الإسلاموفوبيا، وهناك مشاريع دعوة كثيرة في المدن البريطانية منها «مشروع القرآن»، وهو يوزع نسخة فاخرة من المصحف الشريف بالإنجليزية مجاناً، وأسبوع التعريف بالإسلام كل عام في كل مكان وفي الجامعات، ومشروع «ألهمت بمحمد صلى الله عليه وسلم»، وهو يعلن عن الإسلام بطريقة رائعة في شوارع المدن.
جذبتهم الدعاية السلبية
تقول «سارة جوزيف»، محررة مجلة «إيمل»، وهي من الداخلات في الإسلام: «إن الدعاية السلبية عن الإسلام ليست فقط بُعد البعض عنه، وإنما أيضاً تجذب الآخرين»! ولعل ذلك ما حدث لـ«مريم فرانسوز» التي اشتهرت كطفلة ممثلة في أحد الأفلام الشهيرة في التسعينيات، أصبحت معروفة أنها من بين اللواتي أسلمن في بريطانيا، هناك عدد كبير من هؤلاء المتعلمات من الطبقة المتوسطة..
قالت الممثلة: إن حادثة 11 سبتمبر سببت لها الغضب والاستهجان نفسه الذي شعر به الناس حول العالم، ولكن حينما قرأت كتاباً ينادي بطرد المسلمين من أوروبا، واحتدام النقاش والجدال الذي بني حول هذه العقيدة، وكنت طالبة جامعية حينذاك، جعلني أغوص في أعماق موضوع الإسلام.
وتقول: إنها بالبحث لم تجد في الإسلام أي شيء يبرر الإرهاب، بل العكس وجدت الإسلام ملهماً؛ فأسلمت، وتعتقد أن الرسول محمداً -صلى الله عليه وسلم- كان رجل سلام، وقالت: إن أحد أسباب تغيرها هو دراسة سيرة الرسول فوجدته أحد أكثر الذين أسيء فهمهم في التاريخ، وتأثرت بأقوال النبي -صلى الله عليه وسلم- أن «أعفو عمن ظلمني، وأصل من قطعني، وأعطي من حرمني.. وأن تقول الحق ولو على نفسك».
الإيمان مضاد للعنصرية
أحد الذين تابوا ودخلوا الإسلام وكان عضواً بحزب متطرف (محمد إسلام حالياً، جون أورد سابقاً)، قال لـ«الجارديان»(1): “إنني أتذكر أول مرة، فقد خرجنا يوم سبت وكنا نتجرع الخمر، وذهبنا إلى منطقة آسيوية، فالتقينا بشاب يبلغ من العمر حوالي 17 عاماً، وبدأنا نردد الهتافات المعتادة: «ارجع إلى بلدك»، وبعد ذلك قمنا بمطاردته، كنا عشرة رجال آنذاك وقمنا بضربه بأيدينا وركله بأرجلنا ونحن نضحك».
ويضيف: «لم أدرِ ماذا حدث لذلك الفتى، وفي ذاك الوقت لم يكن يهمني أن أعرف، فقد كنا عصبة تربطنا الصداقة والصحبة منضوين في جماعة واحدة، ذات يوم من عام 1989م مررت بمكتبة قاعة الاحتفالات الملكية، وكانت تعرض كتباً مستعملة، فجذبني غطاء لكتاب كانت عليه صورة لمبنى جميل مطلي بألوان زاهية، لم أكن أعرف ما هذا الكتاب، وكان ثمنه رخيصاً جداً، فقط عشرين بنساً، لذا قررتُ شراءه، ضامراً أن أشتري لاحقاً بروازاً رخيصاً لهذه الصورة الجميلة، ومن ثم أعلقها على الحائط في بيتي، ولم أدرك إلا بعد أن وصلت البيت، بأنَّ ما اشتريته لم يكن سوى القرآن.. أصبت بصدمة حين اكتشفت ذلك، ولأول وهلة، كانت مشاعري تحفزني لأتخلص من الكتاب، إلا أن الشعور بالفضول دفعني لتفحصه، علني أجد فيه شيئاً أحاجج فيه هؤلاء المسلمين.
اعتقدت أنه سيكون مليئا بالتناقضات، وكنت قد ورثت عن والدتي حب النقاش والمجادلة، فقد كانت أمي تجادل بقوة وقد لاحظت ذلك عليها منذ صغري، وبعدها صرت أذهب إلى «الهايد بارك» لأجادل المسلمين في ركن النقاش، ومع الزمن بدأت أكوّن فكرة مغايرة تماماً عما ألِفْتُه عن الإسلام، وقد اجتذبني بشدة منظر الناس وهم يصلون في جماعة، إنه منظر قوي حقا.
وقد بدأت المؤسسات الإسلامية في أوروبا تهتم بصورة الإسلام، والدعوة إليه، والاهتمام بالتربية عن طريق المدارس الإسلامية، وحلقات حفظ القرآن، والدروس، والدورات، ودعوة الدعاة من الشرق.. ولكن يبقى القرآن وسلوك المسلم وخلقه أشد الوسائل تأثيراً، وبدأ المسلمون ـكما في بريطانياـ يتعاملون مع البنوك الإسلامية، وبعض المحاكم الشرعية التطوعية التي تجتمع للنظر في مسائل الطلاق والنزاعات المالية، ولم يعد الاهتمام هو بقضيتي الهلال (أوائل الشهور) أو الحلال (الطعام)! وتقف عوائق خارجية كثيرة دون انتشار نور الإسلام في العالم -غربا أو شرقا- وأهمها سطوة الاستبداد ومناخ التخلف الذي يرزح تحتهما العالم الإسلامي، وهما عقوبة إلهية جرّاء التخلي عن الإسلام وكذلك عدم التجديد في أسلوب عرض الإسلام، وتقصيرنا في تبليغه دعوةً وسلوكاً.
عوائق غربية
وهناك عوائق خاصة بالغرب، منها ما هو مرتبط بالمدعو، ومنها ما يرجع إلى الداعي، ومنها ما يكون بسبب عامة المسلمين في أوروبا..
أما المدعو، فهو عادة متعالٍ يرى الإسلام من منظار مشوَّه، وينظر إلى المسلمين بمنظور التحدي والغلبة والتفوق الذهني العلمي، ولكنه يعاني أيضاً من متاهات معيشية وأخلاقية وعلاقات اجتماعية مهترئة وصراع نفسي كبير، ولذلك فهم بحاجة ليد حانية تنقذهم من حيرتهم، وعقول واعية تعيد للإسلام بريقه دون اللجوء إلى المواجهة.
وأما الداعي، فرغم أن وجود المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث الآن سيكون له الأثر الطيب، فما زلنا نفتقد الدعاة المؤهلين علماً وعملاً وقدرة على التأثير، ومعرفة بميزات العصر وأحوال الناس وعاداتهم وإجادة لغاتهم، والفقه بأولويات الدعوة والصبر على ما قد يلاقونه من صعاب، والتجرّد لله تعالى في دعوتهم، ونحتاج إلى كتب مناسبة ومكتبات وترجمة ومراجع صحيحة..
وأما عامة المسلمين -بعضهم وليس كلهم- فنتساءل: ألم يأنِ لهم أن يتركوا خلافاتهم التي ورثوها من بلدانهم الأصلية، وأن يهتموا بأنفسهم وأولادهم، وأن يبتعدوا عن السلبية والتقوقع وعن مظاهر الكذب والغش والخداع والجهل والجريمة؟ فإنهم بذلك قد يصدون عن سبيل الله، ولا يجد الغربي -منهم وفيهم- القدوة الحسنة.
خطوات عملية
وقد حذرت اللجنة الأوروبية لمناهضة العنصرية وعدم التسامح في مايو 2013م من أن التردي الاقتصادي وإجراءات التقشف يغذيان عدم التسامح والعنف ضد المهاجرين، ودعا مفوض حقوق الإنسان بالمجلس الأوروبي «نيلز موزنيكس»، في يوليو إلى «ربيع أوروبي» لمواجهة التحيز ضد الإسلام، مستشهداً بأمثلة كمنع النقاب والتصنيف العرقي من قبل الشرطة(2).
كما دعت المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو)(3) لخطوات عملية لتصحيح الصور النمطية حول الإسلام، ومنها:
– خلق قنوات للحوار مع القيادات الفكرية وقادة الرأي والقيادات الإعلامية والسياسية في الدول الغربية، عن طريق مؤسسات المجتمع المدني في العالم الإسلامي النشيطة في مجال الإعلام وحقوق الإنسان للحد من الآثار السلبية لظاهرة «الإسلاموفوبيا».
– دعوة رجال الأعمال وأثرياء العالم الإسلامي إلى استثمار جزء من أموالهم في الصناعة الإعلامية الغربية، وذلك بقصد منافسة اللوبي الصهيوني، والتحكم في الحملات الإعلامية المشوهة للإسلام والمسلمين، حث المثقفين والإعلاميين المقيمين بالبلدان الغربية على الانخراط في الحياة العامة والمشاركة في النقاشات العامة للدفاع عن صورة الإسلام، وإشراك المثقفين والإعلاميين الغربيين في ذلك.
– إنشاء شبكة إسلامية للمعلومات وتوزيع المواد من الكتب والأشرطة والأسطوانات باللغات المختلفة، يتم خلالها نقل المعارف والمعلومات في مختلف الدول الأوروبية، بما يساعد على تبادل المعلومات والخبرات وخاصة في المجالات المرتبطة بتصحيح صورة الإسلام والمسلمين، دعم المراكز والمؤسسات الإسلامية في الغرب لتعزيز تعاونها مع المؤسسات الأوروبية المتخصصة من أجل العيش المشترك بكرامة واعتراف متبادل.
لا للعنف
ومن المبشرات المحفزة على أن هناك قدرة ورغبة في تخطي عقبة الإسلاموفوبيا أن هناك قطاعاً عريضاً خاصة في فئة الشباب يرغب في ذلك، ويخشى من العنف والنزاع، فبحسب استطلاع لمعهد «جالوب» الأمريكي(4)، فإن «الأغلبية العظمى من المسلمين الشباب لا يحلمون بالذهاب إلى الحرب، وإنما بالحصول على فرص العمل، وعندما جرى سؤالهم من كافة الأعمار عن آمالهم المستقبلية، قالوا: إنهم يريدون أمناً ووظائف أفضل، وليس النزاع والعنف»، حيث قامت الدراسة بإجراء استطلاع لآراء المسلمين في العالم يُعَدُّ الأكبر من نوعه حتى الآن، وتوصلت إلى أن معظمهم يريدون الديمقراطية بقيم دينية، والحريات من خلال منظومة الإسلام، لكن دون أن تُفرَض عليهم من قِبَل أمريكا بحسب مواصفاتها.
ألم يأنِ للعالم أن يرى المسلمين بمنظار صادق، وأن يسمع لهم بأذن واعية، ولا يبني رأيه من لبنات الإعلام المشوه، أو بنات أفكار الأفراد القليلين الذين لا يمثلون عامة المسلمين، وتستقطبهم وسائل الإعلام لعلمها بشطحاتهم، وتقدِّمهم على أنهم المتحدثون باسم الإسلام؟!
الهوامش:
(1) I was a BNP activist and converted to Islam
Muhammad Islam. The Guardian, 24 September 2005 (2) التقرير العالمي 2013: الاتحاد الأوروبي- هيومن رايتس ووتش.
http://www.hrw.org/ar/world-report-2013/2013 (3) عرض جهود «الإيسيسكو» في مجال تصحيح الصور النمطية عن الإسلام في وسائل الإعلام الغربية، عام 2012م، المنظمة الإسلامية الدولية للتربية والثقافة والعلوم.
(4) Who Speaks for Islam? What a Billion Muslims Really Think by John L. Esposito and Dalia Mogahed. Gallup 2008
———–
المصدر: مجلة المجتمع الكويتية.