د. أحمد بن عبد المحسن العساف
يعود هذا العنوان إلى كتاب ألفه السفير الألماني المسلم مراد هوفمان، ونقله إلى العربية عادل المعلم وياسين إبراهيم، وطبعته دار الشروق أولاً، ثم مكتبة
العبيكان. وأكتب هنا عن الطبعة الثانية الصادرة عن مكتبة العبيكان عام 1432 – 2011م، وتقع في 352 صفحة، وهي طبعة حسنة الإخراج وورقها مريح للعين؛ لكنها غاصة بالأخطاء الطباعية، وفيها بعض الملحوظات النحوية، فضلاً عن كلمات لا تخدم السياق ولا ينتظم معها معنى الجمل، وهي غالباً من أثر ضعف المراجعة قبل النشر. وكنت أتمنى كتابة أسماء الأعلام الأجنبية باللغة العربية، ووضع عنوان كل فصل في الهامش العلوي.. ولعل هذه المقترحات أن تُستدرك في طبعة لاحقة كما وعدني الناشر.
يتكوّن الكتاب من مقدمة، ثم خمسة عشر فصلاً غالبها متقارب في عدد الصفحات، فقائمة بالمراجع. وتقوم فكرة الكتاب كما يتبيّن من المقدمة على أربعة أسئلة مهمة، هي:
الأول: من أكثر حاجة للآخر: الغرب أم الإسلام؟
الثاني: من يجب أن يخشى الآخر: الإسلام أم الغرب؟
الثالث: هل سينجح الإسلام في تقديم نفسه كعلاج لأمراض الغرب؟
الرابع: هل الغرب مستعد لتقبّل الإسلام أو منحه الفرصة في دياره؟
والمؤلف مسلم من أصول غربية، وقد تربى على نظم التفكير في ألمانيا؛ ما يجعل رؤاه أوسع مما اعتاده المسلمون، وما من أحد إلا ويؤخذ من قوله ويرد عليه، وما أحرانا بالإفادة من طريقة تفكير المسلمين من الغرب كالمؤلف محمد أسد وعلي عزت بيجوفيتش. وقد ألقى مراد هوفمان 139 محاضرة خلال خمسة أعوام فقط منذ منتصف عام 1994م، في تسعة بلدان إسلامية، وتسعة بلدان غربية، كما حضر 27 مؤتمراً كان الإسلام موضوعه الرئيس؛ ولذا فاهتمامه بهذا الموضوع ليس خاطرة عابرة، بل هو مشروع اهتم به، وصرم عليه عمره ووقته. وقد كتب مقدمته في إسطنبول في الأول من يناير عام 2000م، وهذا التاريخ مهم لسببين؛ ففي تلك الصبيحة كان العالم يترقب أثر مشكلة الصفرين في التقويم، والسبب الثاني أنه يسبق أحداث سبتمبر وما تلاها من تغيّرات.
وأول الفصول بعنوان: مفتون – الغرب المحير -، وفيه يسأل المؤلف: ما الذي يحدث على الجانبين الآن؟ ورأى أن أفضل من يجيب عن سؤاله هم الذين عاشوا في العالمين الإسلامي والغربي دون أن يتنكروا لجذورهم؛ وذلك لما يتميّزون به من تفكير نقدي، خاصة بعد تجربة العيش التي قضوها في أحد العالمين. وحتى يصل المؤلف لمبتغاه افترض وجود أربع شخصيات، شخصيتان لطالبين مسلمين يعيشان في الغرب، وشخصيتان لطالبين أوروبيين اعتنقا الإسلام.
والطالب المسلم الأول من المسلمين بالميلاد، وهو مفتون بالغرب حتى قبل أن يعيش فيه، وللغرب فتنة كما يقول المؤلف الذي بهرته أمريكا المنتصرة عام 1950م، وكان عمره حينها 19 عاماً، وما أعجبه وهو الألماني فلا غرابة أن يطيش له عقل الشرقي المعجب بهذه الحضارة قبل أن يتعاطى معها يومياً، وسبب هذه النظرة الإيجابية من مسلم الميلاد تجاه الحضارة الغربية ما شعر به من مركزية للفرد وحماية وتقديم، وقد أدت هذه المركزية إلى سيادة فكرة الحرية والتحرر من كل شيء حتى الحياء.
وأما المثال الثاني فلطالب مسلم يعيش في الغرب رافضاً له جملة وتفصيلاً، ومستمسكاً بشعائر دينه، ويوجّه نقده إلى العقلانية الغربية التي لم تجدِ شيئاً إزاء سلسلة الفظائع والأعمال غير الإنسانية التي نجمت عن حضارة تدّعي تقديم العقل، وتحاول العيش دون الإيمان بشيء مقدس، خاصة بعد تأثير نظريات داروين وإينشتين وستيفن هاوكنج. وقد صب هذا المسلم نقده على مظاهر الانحراف في الحياة الاجتماعية فيما يتعلق بالأسرة والمرأة والطفل، وتعاطي المخدرات وممارسة الجنس، ولم يتطرق في نقده إلى نظام الدولة والاقتصاد وأعرض عنهما؛ لأن واقع عالمه الإسلامي ذو تجربة مخزية فيهما.
ويختم المؤلف قصة الشابين المفترضين بتأكيد أنهما قالا شيئاً حقيقياً وإن كانا متناقضين تماماً، ووصفا جزءاً من الواقع كما هو؛ والمأخذ عليهما في رد فعلهما تجاه الغرب، وكان حرياً بهما أن يستفيدا من منجزات الغرب دون ولوغ في آفاته، أو تضرر من أمراضه؛ فالكاتب يرى أن الانتقاء هو السبيل الأمثل لهما، وليس الانزلاق أو الانزواء.
وفي الفصل الثاني عن الشرق المثير للتساؤل، يفترض المؤلف وجود شابين غربيين قد أسلما، فالأول مبالغ في التعرب في كل شأنه من ملبس ومأكل ومظهر، ويرغب في الهجرة إلى بلد إسلامي؛ لما تتمتع به العائلة من مكانة وأهمية تجعل الفرد يشعر بدفئها، ويشيع الاحترام والرحمة بين أفرادها، وللعلاقات المتينة التي تربط بين المسلمين حتى من غير الأقارب لدرجة الكرم في إنفاق المال، ويطرب هذا الأوروبي لشعور التضامن لدى المسلمين، الذي يتجلى في أبهى صوره خلال موسم الحج. ومما راق لصاحبنا وضع المرأة في البيئة المسلمة، وإيمان الناس بالقضاء والقدر.
وأما الشخص الثاني المفترض فيشبّهه المؤلف بمحمد أسد الذي يحمد الله – كما يروي المؤلف – وهو في عقده التاسع أنه اعتنق الإسلام في شبابه قبل أن يتعرف إلى العالم الإسلامي، وهذا الشخص المتخيل ينظر بسلبية شديدة للجوانب الإيجابية التي بهرت سابقه، فمفهوم العائلة في الشرق قضى على المهنية والكفاءة؛ لأن الواحد يقدم أفراد عائلته بحسب قربهم دون التفات لاستحقاقهم من عدمه، فضلاً عن جرأة الإنسان الشرقي على ظلم البعيد نصرة للقريب ولو كان ظالماً. وأما دفء العلاقات الإنسانية بين أفراد الأمة فينقضه واقع العمالة المسلمة في دول شبه الجزيرة العربية الغنية، ويتضح أكثر في الفجوة الكبيرة بين فقراء الأمة وأغنيائها. ثم يشير هذا الشاب إلى ضعف النظام الاقتصادي الإسلامي، وعدم وجود دولة إسلامية ديمقراطية، واستئثار الحكام بالثروات دون شعوبهم، وإحالة سبب مشكلات العالم الإسلامي إلى التآمر الغربي، هذا غير انتشار المخدرات والخمور مع أنها محرمة، واختفاء بعض الفضائل مع أنها مستحبة أو واجبة.
وينهي المؤلف الحديث عن هذين الشابين بنفس ما قاله عن السابقين، فلا يمكن تفضيل رأي على آخر، ولا توجيه اللوم لواحد منهما فقط، فلكل منهما أسبابه الموضوعية التي قادته للحكم، وغالب هذه المسائل قابلة لأكثر من تفسير. ومن حاصل آراء هؤلاء الأربعة ونقاشها تتكون الفصول التالية للكتاب، وقد أثبت المؤلف في نهايته أن النور ينبعث من الشرق الذي يمكن له أن يقدم الكثير للغرب، فهل يفعلها المسلمون؟ وهل يتقبلها الغرب؟
وبعد ذلك استعرض المؤلف تاريخ العلاقة بين الشرق والغرب تحت عنوان معبر جداً هو: سنوات طويلة من الغضب، فهذا الماضي السيئ يحجب النظرة الإيجابية للمستقبل. وقد أشار المؤلف إلى أن الإسلام نموذج عابر للحدود، وارتكز في دعوته على العالمية دون أن يجبر المخالفين على اعتناقه، مع تمتعه بالحماية من الذوبان في غيره. وهذه الخصائص الفريدة أدت إلى توسعه المذهل، ما أحنق العالم الغربي عليه، وما زال موقف الغرب واحداً وحجته واحدة، سواء في رفض الدين الإسلامي أو في منع رفع الأذان! وسعى الغرب لتزوير الاتهامات ضد الإسلام مع أن الحضارة الغربية نهلت كثيراً من حضارة المسلمين، ومع ذلك تناسى الغرب كل علاقاته الثقافية والحضارية بالشرق ولم يتذكر إلا الحروب، حتى وصف عالم الاجتماع السياسي ماكس فيبر الإسلام بأنه دين حرب! ما يوضح عظم الأثر الذي تركته الحروب الصليبية مع أن الغرب هو من أشعل نارها.
وقد نقل الكاتب عن بعض الباحثين الغربيين أن آباء فكرة الحروب الصليبية أضرموا نار البغض لكل شيء إسلامي من خلال حملة متقنة لنشر الجهل بالإسلام، وحجب المعلومات الصحيحة عنه، ونشر أكاذيب وافتراءات حوله، ولم يسلم الجناب الكريم صلى الله عليه وسلم من إفكهم حين اتهموه بادّعاء الألوهية، والسحر، وبأنه كاردينال فشل في الصعود على كرسي البابوية! وكان المقام السامي صلى الله عليه وسلم عرضة لسهام الشتائم الغربية دون مراعاة لشعور المسلمين، ودون اعتبار لمكانته كنبي متبوع.
وأبان هوفمان أن المستشرقين زادوا المعرفة عن الإسلام للجهات التي خدموها، لكنهم عرقلوا وصول هذه المعرفة الحقيقية لعامة الناس، حتى قال بعضهم في مطلع القرن العشرين: إن الإسلام قد استنفد دوره السياسي! ووصف المستشرقون الإسلام بإبراز ما يفتقده كي يصبح أوروبياً؛ وكأن النموذج الأوروبي هو نهاية التاريخ! ولذلك فالغرب يستبيح انتقاد الإسلام في كل سياق، ولا خيار عنده للمسلمين غير المسيحية أو الأسلوب الأمريكي للحياة. وبسبب هذه الممارسات ما زالت الحروب الصليبية حية في وجدان المسلمين وإن لم يظهر فرسانها، ومع وجود هذا التاريخ الطويل من العداء فإن وسائل الإعلام تشعل المزيد منه، كما يقول المؤلف.
ولأجل ذلك جعل الفصل الرابع بعنوان وسائل الإعلام تحت المراقبة، وقد جزم الكاتب بأن فوبيا الإسلام مكون أساس في كل وسائل الإعلام، فتحوُّل نجم سينمائي إلى البوذية أمر لا يثير الاندهاش، والطقوس اليهودية تحوز الرضا، وهي مشابهة للشعائر الإسلامية التي ينتقدها الإعلام ويهزأ بها، وعلى رأسها: اللحية وغطاء المرأة ونحر الذبائح!
ولخبرة المؤلف السابقة في إدارة المعلومات لحلف النيتو، فهو يعلم يقيناً ما تفعله وسائل الإعلام في الذاكرة الجمعية؛ لدرجة أن أحد المفكرين المسلمين عدَّ الإعلام الغربي أكبر تهديد يواجهه المسلمون ولا يستطيعون مقاومته. وينقل المؤلف عن دراسة إحصائية غربية تثبت وجود هوة سحيقة بين معتقدات الشعب وما يؤمن به الإعلاميون، إضافة لتدني القيم الدينية والأخلاقية عند أغلب الممارسين الإعلاميين. وإذا كان هذا حالهم مع دينهم وثقافتهم فكيف سيكون موقفهم من دين ارتضعوا العداء له وتربوا على نظرة مشوهة عنه؟ ومتى يكون للمسلمين وسائل إعلامية مستقلة تنطق بلسانهم دون توجيه حكومات متراخية أو سيطرة توجهات غالية أو ضالة؟ أفلا يمكن استثمار ثورة التواصل الاجتماعي في إحداث تغيير إيجابي لصالح الإسلام في الغرب؟ وحديث المؤلف عن إعلاميي أوروبا وتشويه الإسلام يدفعنا لتشبيه مكرهم بفعل كثير من وسائل إعلام المسلمين، وشبهها المثارة ضد ما يرتبط بالدين من مؤسسات ومنتجات وأشخاص، وغالباً ما يكون المنافق في الداخل صورة عن الكافر في الخارج؛ بيد أنها صورة فجة قبيحة.
ويحدد المؤلف الانطباعات التي يرسخها الإعلام الغربي عن الإسلام، فأولها أنه أيديولوجية وليس ديناً أو عقيدة، ما يعني نفي المصدر الإلهي عنه وتحويله إلى فكرة بشرية محضة. وعندما أصدرت مجلة دير شبيغل الألمانية الشهيرة ملحقاً عن الإسلام في عدد يناير 1998م، لم تظهر فيه كلمة «الله»، ولا اسم «محمد»، وتولى وصف مكة شخص يبدو أنه لم يزرها.
وأما الانطباع الثاني عن الإسلام فهو أنه دين حرب وعدوان – مع أنه دين محارَب أكثر منه محارِب -، ونقلت المجلة ذاتها عن رئيس المجلس الاتحادي لحماية الدستور قوله: «سيغدو الإسلام في القرن المقبل خطراً داهماً». وأعلن رفضه تحقيق مطالب الأقلية المسلمة تحت مبدأ التسامح. وليلاحظ القارئ الكريم أن موضوع الأقليات في العالم الإسلامي حاضر في الخطاب الغربي الإعلامي، وفي الإملاء السياسي على دولنا؛ فيحظى الباطنيون والشيعة والنصارى واليهود القاطنون في العالم الإسلامي بما لا يحلم مسلمو أوروبا بعُشره!
وقد نقل المؤلف عن وسائل إعلامية غربية هجوماً عنيفاً على الإسلام خلال التسعينيات، حيث ادّعت بعضها أن حمل السلاح جزء أساس في هوية المسلم، وأنهم يمارسون الإرهاب باسم الله، ويخوضون حرباً مقدسة، وغير ذلك مما تبثه القنوات الخاصة والعامة في عملية تشويه منظمة تدعم تكوين الانطباع الثالث عن الإسلام بأنه دين عفى عليه الزمن ولا أمل في تنويره، وأنه لا يجتمع مع حقوق الإنسان كما لا يجتمع الماء مع النار، وأن الاستبداد والوحشية من سماته الأصلية.
ثم يدعو مراد هوفمان المسلمين – حكومات وأفراداً – إلى السير على نهج الإسلام حتى لا تسهم تصرفاتهم الخاطئة في تشويه صورته، ويؤكد ضرورة صناعة التغيير دون انتظار أحد، ويقترح لتحقيق ذلك ابتعاث الطلبة لدراسة الإعلام والحقوق، واكتساب مهارات إعلامية في فن كتابة المقالات بدقة ومهارة وتوثيق. وفي إشارة حزينة قال المؤلف: «لو كان الصرب مسلمين، وأهل البوسنة كاثوليك؛ لما صبر العالم والإعلام الغربي عليهم حتى يبادوا، لكن المسلمين لا بواكي عليهم إن قتلوا وطحنوا، والويل لهم جميعاً إن تجرّأ واحد منهم أو جماعة على مهاجمة يهود أو نصارى!».
والفصل الخامس عن الحقوق الشقراء وغيرها، ويذكر المؤلف أن أهم ثلاثة أسئلة في أي حوار نصراني – إسلامي هي: موقف الإسلام من حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، ومن الديمقراطية التي لم يثبت المسلمون قدرتهم على ممارستها – وقد أكد الربيع العربي وما تلاه من مكر النفاق هذا الأمر -. ويشير إلى أن الغرب لا يعتقد أنه مكتشف حقوق الإنسان وواضعها فقط، بل إنه الوحيد المستأثر بها؛ لكونها مهدرة تماماً في الشرق الإسلامي الذي تمارس حكوماته انتهاكات فظيعة لحقوق الإنسان. ويجيب الكاتب بغيرة أن الدين بريء من هذه التجاوزات، وأكبر دليل على ذلك أن سجون البلاد الإسلامية ممتلئة بالشخصيات العلمية والدعوية المسالمة.
ويواصل هوفمان مناقشة هذا الادعاء بأنه لا يوجد أفظع من انتهاكات الحروب العالمية التي قادتها دول غربية، ويروي عن عالم اجتماع كيني يدرس في جامعة أمريكية أنه لا يوجد عند المسلمين عمليات قتل وإبادة منظمة كما حدث في أمريكا بشقيها، وروسيا وأستراليا وجنوب إفريقيا واليابان، كما ينقل تهكم شباب المسلمين على كيل الغرب بمكيالين فيما يخص حقوق الإنسان التي يشعرون أنها خاصة بذوي الشعر الأشقر والعيون الزرق فقط. ثم يختم نقاشه بحقيقة دامغة لمن تأمل، وملخصها أن حقوق الإنسان عند المسلمين مصدرها الوحي؛ فهي حقوق شرعية إلزامية ربانية المصدر وليست بشرية قابلة للتعديل، ويلزم من هذه الحقيقة أنها أقدم من حقوق الإنسان الغربية بقرون طويلة.
وأسهب المؤلف في الفصل السادس باحثاً عن موقف الإسلام من الديمقراطية، واختار له عنواناً لطيفاً: ديمقراطية – شورى قراطية. ونقل عن ولي عهد المملكة المتحدة الأمير تشارلز نعيه على الغرب في تضييقه على الآخر ليصير نسخة عن المفاهيم الغربية! وذكر هوفمان أن النبي صلى الله عليه وسلم سعى لتأسيس دولة إسلامية وهو ما لم يفعله المسيح عيسى – عليه السلام -، وقد ظهرت أمة الإسلام في تاريخ البشرية ككيان قائم على الدين والإيمان ولا يعتمد على أي انتماء آخر. ثم توغل المؤلف كثيراً في مسائل السياسة الشرعية مع اعتباره حساسية كلمة الديمقراطية عند جل المسلمين، وخلص إلى أن النظام السياسي في الإسلام مؤطّر بحدود واسعة تتيح الحركة بغير ما طريقة دام أنها لا تخالف أصول التشريع، وتتخذ من القرآن والسنة مرجعاً في الأحكام، ومن ثم فغالب أدوات الديمقراطية يمكن تفعيلها في الحياة الإسلامية بعد تنقيتها من المحظورات الشرعية إن وجدت. واستغرب المؤلف ترحيب الغرب بأحزاب دينية في ألمانيا وإيطاليا مقابل فرقه من الأحزاب الإسلامية في الجزائر وتونس مثلاً. وختم فصله بإلماح إلى أن غياب الديمقراطية عن دول المسلمين أمر مقبول غربياً؛ لأن الصناديق إذا كانت نزيهة وحرة فلن تأتي بغير الإسلاميين، وهو ما لا يريده الغرب والمنافقون، لكن الله سيتم نوره بصندوق أو ببندقية أو بدعوة، ولو كره الكافر والمنافق.
وعنوان الفصل السابع: متساوو الحقوق أم سواسية؟ وهو عن حقوق النساء التي يشهرها الغرب في وجه المسلمين بين فينة وأختها، حيث ذكر المؤلف أن اضطهاد النساء بلاء عام وغير خاص بأمة، وإنما يزداد إذا نقص إيمان الرجال، وبمقارنة خبير أشار إلى أن الإرث الديني اليهودي – النصراني يحمِّل المرأة ذنوباً شتى، وصيرها مساوية للشيطان، وهو ما لا يوجد في نصوص المسلمين التي ساوت بين الجنسين في كثير من التكاليف والحقوق.
ثم عرج على انتقادات الغرب وضع المرأة المسلمة من حيث تعدد الزوجات، ومكانة المرأة بعد الزواج، وزي المرأة، وحجابها، والفصل بين الجنسين، وسلطة الرجل في الطلاق، وانتقاص المرأة في الإرث والشهادة، وقد ناقشها بما فتح الله عليه وبمبلغ علمه، وذكر أن الغرب المفتون بالحريات يحارب حرية المسلمة – التي يكفلها الدستور الغربي – في ارتداء ما تشاء ولو كان بمحض إرادتها؛ معيداً للأذهان مسألة الحجاب التي هزت عدة بلدان أوروبية، ثم أورد إحصاءات غربية عن السفاح والإجهاض، وجزم أن هذه النسب ستنخفض لو أن الزي الإسلامي كان أمراً شائعاً في الغرب، وبمقارنة ذكية نبَّه إلى أن الطلاق في أوروبا مرتفع جداً مع أن تكلفته باهظة؛ خلافاً للواقع عند المسلمين، فأي الطريقتين أقوم؟
وعنوان الفصل الثامن: لماذا محمد؟.. فبعد أن فرغ المؤلف من عريضة الاتهام الثلاثية التي يرفعها الغرب ضد الإسلام، ذكر أهم الاحتجاجات التي يقدمها العالم الإسلامي للغرب، وهي ضرورة الاعتراف بمحمد صلى الله عليه وسلم، وإسقاط صفة الألوهية عن عيسى – عليه السلام -، ومسألة العنصرية. وبعد تطواف متقن فيما أحاط بالبعثة النبوية من تحريفات في الديانة النصرانية، وموقف الإسلام المصحح لها؛ قرر المؤلف أن من أصول المعاملة المهذبة عدم تجاهل رسول يؤمن به أكثر من مليار إنسان، ويوقّرونه ويتّبعون تعاليمه التي لا خلاص للعالم من دون هدايتها.
والفصل التاسع بعنوان: عيسى يفرق – عيسى يوحد، وفيه يشير المؤلف إلى أن عقيدة النصارى المحرفة في عيسى – عليه السلام -، فضلاً عن التحريفات في العهد الجديد؛ تمثل تناقضات يعجز النصارى عن فك عقدتها، وتتهرب الكنيسة ورجال الدين من مناقشتها، مفضلين حجب أي عملية نقدية عن جمهور الناس، ونقل عن بعض النقاد قولهم: إن مجرد مناقشة التجسيد والتثليث قد سلبتهما قدسيتهما. ثم عرض المؤلف الرؤية الإسلامية للمسيح – عليه السلام -، التي تمثل خلاصاً للغرب من ورطة التناقضات لو أدرك الغرب ذلك.
وذكر المؤلف أن المجمع الكنسي الأول في نيقيه – هي مدينة إزنك حالياً وتقع قرب إسطنبول – المنعقد عام 325م؛ دعا لعقده القيصر قسطنطين الكبير، وهو وثني غير معمد، وليس بابا روما! وأقامه في قصره وليس في الكاتدرائية! ولم يترأسه أحد رجال الدين! وفي النهاية اعتمد المقترح المقدم من الإمبراطور بأن الله والمسيح جوهران متماثلان – تعالى الله عما يقولون -، وكأن الشأن الديني الصرف يفرض بأمر إمبراطور وثني جاهل! ولذا جاء إحياء عقيدة التوحيد من بلاد العرب البعيدة في موقعها، والمخالفة لبلاد الروم في لغتها، بل إن اللغة العربية لغة عذرية في المجال الديني.
وعنوان الفصل العاشر: لا تفرقة على أساس اللون، ويرى المؤلف أن العنصر الوحيد الذي يمتلك القدرة على تحييد جميع مصادر التعصب والعنصرية هو الدين، وضرب أمثلة ببعض النصوص القرآنية التي تؤكد وحدة الجنس البشري، وثنى بالحج كتطبيق واضح لنزع العنصرية التي تضرب بشدة في أعماق النفس البشرية، حتى إن الإسلام مع نجاحه المتميز في معالجتها لم يبدها تماماً؛ لكنه ألقى في روع أتباعه حرمتها وعظم وزرها حتى إن مارسوها، وقد أنهى الفصل بحكم فصل ملخصه أن التطبيق الصحيح للإسلام الحق هو أكبر نقيض للعنصرية.
وحمل عنوان الفصل الحادي عشر سؤالاً عماذا يريدون هنا؟ وهو سؤال أوروبي عما يريده المسلمون من أرضهم وهي غير إسلامية، وهو ذات عنوان محاضرة دعي لإلقائها في بلده ألمانيا. وابتدأ المؤلف بحقيقة مفادها أن الإسلام لن يتراجع في الغرب؛ فلا يمكن إلغاء هجرة العمالة المسلمة، ولا وقف زحف الأكاديميين المسلمين، ولا منع استجابة الأفروأمريكيين لدعوة الإسلام. وببصيرة نافذة أشار إلى أن الغربيين يعدون الإسلام ديانة شرقية، وقد أثبت أن النصرانية المحرفة تأثرت بمعتقدات شرقية واستوعبتها، فجاءت خليطاً من الزرادشتية والمانوية والغنوصية والعبادات السرية الرومانية والإيرانية، وحملت النصرانية المحرفة عقائد متداخلة، وأسراراً غامضة، وهو الأمر الذي يخلو منه الإسلام. ثم يتحسر المؤلف من خزايا بعض «المثقفين» المسلمين ذوي الخلفيات الليبرالية واليسارية؛ الذين ميعوا دينهم في تطبيقاتهم وأقوالهم، وقدموا للغرب نسخة محرفة من إسلام أوروبي لم ينزل به الله سلطاناً. كما أكد خطورة المهاترات، والانغماس في الخلاف بنقاش أشياء غير ضرورية – وهي سمة منتشرة بين المسلمين -؛ حيث تفقد الدين روحانيته وتسوغ للغرب الانصراف عنه.
ونظراً لهذا الواقع اختار الكاتب للفصل الثاني عشر سؤالاً مهماً هو: ماذا يجب أن يتغير؟ حيث يلمح المؤلف إلى ضرورة حدوث تغيير في الجانبين حتى يتعامل الغرب مع مسلميه من منطلق التعايش لا المواجهة، ورأى أنه يجب على المسلمين تنقية السنة مما ليس منها، وتجديد علوم الشريعة، وجزء كبير مما ذكره داخل في جهود المحدثين والفقهاء وأساتذة السياسة الشرعية، والذي ينقص فعلاً هو وجود حكومة تعمل بمقتضى السياسة الشرعية دون مضايقة من الغرب، أو مكايد مفتعلة من أتباعه في الشرق.
وعنوان الفصل الثالث عشر: طالبو إحسان أم شركاء؟ ورصد المؤلف فيه بعض الإشارات التي تصب في صالح قبول الغرب للإسلام؛ وهي حب الغربي للتراث الشرقي، وزيادة عدد مواليد المسلمين، ووجود أزمة في الكنيسة وفراغ ديني لدى الشباب، واحترام الاختلاف في الثقافة الغربية مع الولع بالأشياء الغريبة، فضلاً عن تفجر شعور بالذنب تجاه مذابح المسلمين، خاصة في أوروبا، التي صمت عنها الغرب طويلاً. وقد أثنى المؤلف على تقارب إسبانيا مع مسلميها، وعدَّ تجربتها قابلة للاقتداء من بقية الدول؛ لأن الإسلام يمكن أن يكون دواء لأمراض الغرب، وليس مجرد عنصر يدل على التنوع. والأسباب التي تدعو المؤلف لهذا الاعتقاد هي ما يتميز به الإسلام من علاقات اجتماعية دافئة، ومعاداته الأصيلة للعنصرية، وحرية العبد في علاقاته بربه، ووجوب التفكير على الفرد دون الركون لرأي متوارث، وتحريمه الربا والشذوذ، فضلاً عن موقف الإسلام من الجنس والمخدرات والخمور؛ وهو موقف وسط بين موقفين غربيين متطرفين. ويؤكد في ختام الفصل أن الإسلام اعتنى بالكيف فأنجى أتباعه؛ خلافاً للغرب المفتون بالكم والأرقام.
والفصل الرابع عشر عنوانه: إسلام صنع في أمريكا. وأكرر ما ذكرته بأن المؤلف كتبه قبل أحداث سبتمبر، وربما أن رأيه تطور بعدها باتجاه متفائل كما عبّر عنه في هذا الفصل، حيث يرى أن أحسن فرصة لمستقبل الإسلام في الغرب هي في أمريكا ذات التنوع؛ لأنها نشأت كملاذ لبعض المضطهدين، حتى إن جيشها يضم أفراداً وضباطاً يعتنقون 261 ديناً ونحلة! وفوق التعددية فالإسلام لا يمثل خطراً أو تهديداً في العقل الجمعي الأمريكي، ولا يظهر المسلمون في أمريكا كجماعة عرقية واحدة، فهم ينتمون لبلدان مختلفة، وغالبهم على درجة عالية من التعليم والثقافة، وموقفهم المالي جيد، ويحمل عدد كبير منهم الجنسية الأمريكية، ولهم جمعيات تعنى بشؤونهم، وأكثر شيء يعكر عليهم هو اللوبي الصهيوني القوي والمؤثر إعلامياً وسياسياً.
واختتم الكتاب فصوله بسؤال عماذا سيحدث إذا أتوا فعلاً؟ وأوضح فيه أن السؤال الأهم في الغرب هو ماذا سيحدث إذا أصبح المسلمون أغلبية في الغرب؟ وتحدث عن وضع الأقليات لدى المسلمين، موضحاً أن المسلم يطالب الغرب بشيء يسير مما يمنحه الإسلام للأقليات، والذي يستند إلى نصوص قرآنية محكمة، بينما لا يسلك الغرب تجاه أقلياته المسلمة أي سلوك ليبرالي يدّعيه ولا يعاملهم كما يعامل غيرهم، بل زاد الأمر عجباً أن بعض السلطات الأوروبية تجرأت وفسرت القرآن لمسلميها كما يحلو لها! وقد كرر المؤلف خلال هذا الفصل سؤاله المعبر: من يجب أن يخشى الآخر؟ فقيم الإسلام وتعاليمه باقية وغير مرتبطة بزمن، خلافاً لمفهوم ما بعد الحداثة الغربي، حيث يشعر المسلمون بريبة مع تسامحه، الذي ينتهي إذا اتصل الأمر بالإسلام، وأكبر دليل على صحة شعورهم أنهم لا يتمتعون بمزايا الأقليات الأخرى في أوروبا.
والحاصل أن مستقبل الإسلام في الغرب وغيره هو انعكاس لحال المسلمين مع دينهم، ولتعاملهم مع بعضهم، وفق هديه ونهجه، وأي توسع له أو صعود نحو الموضع الذي أراده الله له لن يكون بغير التمسك بصفاء الدين الذي أنزله الله في كتابه، وعلى لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، بعيداً عن أي تأويل باطل، أو تحريف جاهل، أو تحميل النص الشرعي ما لا يحتمل، أو حتى تضييقه عما لا غضاضة في استيعابه. وإنها لمسؤولية ملقاة على القوى الشعبية للمسلمين، خاصة مع توافر وسائل التواصل والتأثير، وانكشاف عجز أغلب الحكومات عن نصرة الدين وأهله؛ فالتعويل على الفرد ذاته، ومن مجموع الأفراد يتكون كم كبير ضخم، وكيف متنوع، وخبرات متراكمة، وهو ما لا تستطيع التغلب عليه أعتى قوة.. فمتى تنهض الجموع؟
———-
المصدر: مجلة البيان العدد 326 شوّال 1435هـ، أغسطس 2014م.