محمد الغزالي **
أصاب جهاز (التليفزيون) عندي عطل مبهم فلم تظهر الصورة المرتقبة، ونظرت إلى الجهاز الجاثم في مكانه لا يؤدي عمله نظرة استغراب! وتحسسته بيدي فخيل إلى أنه لا ينقص شيئا من آلاته الجلية والخفية.. وأخيرا جاء العامل المتخصص في إصلاحه، واستبدل بجزء تالف منه جزءا صالحا، واستأنف الجهاز عمله، وشرع يحقق الفائدة المرجوة منه!! وقلت في نفسي: إن الجهاز كله توقف عن أداء رسالته حتى تعاونت أجزاؤه الصغار والكبار على تحقيق وظائفها المنوطة بها!!
ولا عجب فقد تتوقف الدبابة عن السير والقتال لقطعة تنقصها في مقدمتها أو مؤخرتها.. وقد يتعطل مصنع عن الإنتاج تكلف إنشاؤه الألوف المؤلفة من الجنيهات، لأنه يفتقر إلى تكملة لا تساوي مائة جنيه.. وهكذا شئون الحياة المادية والأدبية، قد يصيبها عطب فادح، لأن شطرها أو أغلبها موجود، وبقيتها الأخرى مفقودة عن خطأ أو تعمد. ومن ثم قد ترى أمامك أشياء صالحة، ولكنها قليلة الجدوى، لأنها مبتورة، وما تتم قيمتها وتبرز ثمرتها إلا إذا دارت الحياة فيها وفيما يكملها، وعندئذ ينطلق التيار في دائرته المغلقة فيسطع النور..
إن تعاليم الإسلام كذلك لا تصلح الحياة وتقيم المجتمعات إلا على النحو الذي شرحنا.. وعناصر الوحي تشبه عقاقير الأدوية لا يتم الشفاء بها إلا إذا أخذناها كما جاءت. أما إذا طرحنا عقارا، وتناولنا آخر فلن يذهب لنا سقام..
وقد وجدت أن كثيرا من علل المسلمين الفكرية والنفسية، بل عللهم الاقتصادية والسياسية ترجع إلى أنهم يجدون مع بعض النصوص، ويهزلون مع بعضها الآخر، فلا يحصدون من هذا التناقض إلا ضياع النصوص كلها، ولا يفيدون من النصوص التي عملوا بها – فيما يزعمون – شيئا طائلا! لأن وجودها المنقوص في المجتمع كوجود جهاز (التليفزيون) الذي سقت لك خبر عطله.
تأمل معي هذا الحكم الشرعي في فرع من فروع الفقه الإسلامي… يقول الله تعالى : {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا}. إلى هنا يمكن تقرير الحكم العملي في شأن يتصل بكيان الأسرة، وربما لا يشغل العلماء أنفسهم عند تقرير الحكم بأبعد من ذلك عند إيراد النص… أفهذا ما فعل القرآن الكريم ؟ لا، لقد أعقب ذلك بخمس جمل تتضمن فنونا من النصح والتأديب والتربية يضيع المجتمع إن أضاعها، فقال جل شأنه: 1 – {ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه}. 2 – {ولا تتخذوا آيات الله هزوا}. 3 – {واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به}. 4 – {واتقوا الله}. 5 – {واعلموا أن الله بكل شيء عليم}. وعندما توجد في بلادنا أحكام الطلاق ولا توجد معها بقية المعاني التي صاحبتها في هذه الآية فسوف يلعب بكتاب الله، ولن تزيد الأمة إلا خبالا…!!
خذ مثلا آخر: لقد نهى الإسلام عن السرقة، وأمر بقطع يد السارق، بيد أن هذا الحد من حدود الإسلام يكون خيرا وبركة مع إحياء أوامر الله كلها، وإقامة شعب الإيمان الكثيرة، التي تسد يقينا كل ثغرة، وتمنع أي غبن، وتطارد آفات البطالة والجوع عند البعض، وآفات النهب والحيف والسرف عند البعض الآخر. أما مع رفع كل رقابة عن طرق الاكتساب، وإتاحة الثراء من شتى الوجوه الحرام، وإيقاع الضعاف في عقابيل البأساء والضراء، فالأمر يحتاج إلى تبصر في التطبيق.
ومعاذ الله أن نتريث في إقامة حد من حدود الله، ولكنا نقول مقالة الحسن، وقد رأى الشرطة تقبض على لص فقال: أسارق السر يسعى به إلى سارق العلانية… ؟!! وما كذلك دين الله… وسمعت متحدثا في الدين يذكر أنه لا حدود للمهر، ويستشهد بقصة المرأة التي اعترضت عمر بن الخطاب لما أراد تقييد المهور. والقصة صحيحة، ولكن المتحدث قليل الفقه في الإسلام، ضعيف الشعور بمآسي المسلمين اليوم.. إن الجمهرة من الشباب ألفت أن تقضي صدر عمرها، ولا أقول شطره، في التسول الجنسي والانحراف الشائن، وكل تعسير للحلال سيتبعه حتما تيسير الحرام، فكيف يلقى فقيه ربه بإقرار هذه الحال، أو إقرار ما يؤدي إليها يقينا ؟ إن قصة عمر مع المرأة المعترضة تفهم في جو كان الرجل يستطيع فيه الزواج مثني وثلاث ورباع.. وكان الحرام يقع فلتات نادرة أو استثناء من قاعدة عامة… أما اليوم فإن العرف السائد بين جماهير المسلمين في الزواج والمهور والهدايا لا صلة له بتقوى الله، ولا إشاعة الاستعفاف، ولا إقرار الطهر النفسي والاجتماعي.
إنه عرف يقوم في جملته على رذائل الرياء، والكبرياء، ورغبة أسر كثيرة في الانتفاخ والتعاظم..
إن الإسلام كل لا يتجزأ، والشبكة التي تنسج تعاليمه الدقيقة تفقد جدواها عندما تخرق من جانب واحد ، فكيف إذا تعددت فيها الخروق، وتفاحش الإهمال والتلف ؟؟
والواقع أن هجر بعض الأحكام الإسلامية، والإقبال على بعضها الآخر، هدم لمبدأ السمع والطاعة المأخوذ على جماعة المؤمنين. فإن تقسيم الوحي الإلهي على هذا النحو لا يعدو أن يكون تحكيما للهوي الشخصي فيما ورد، فما أعجبنا قبلناه وما لم نسغه رفضناه.
وهذا قريب من مسلك المشركين أنفسهم مع رسول الله، فإنهم لم يردوا كل ما جاء به، بل وافقوه على البعض، وحاربوه على البعض الآخر، ولذلك أمره الله بالثبات على الكل، وقال له: {فلعلك تارك بعض ما يوحي إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل}. واتباع الهوى في استبقاء حكم، واطراح آخر معناه أن ما استبقي ليس لأنه أمر به!! فقد أمر بغيره كذلك فلماذا ترك ؟ معناه أن ما استبقي ظفر بالحياة لأنه أرضى رغباتنا فقط، ولو صادمها لطوحنا به هو الآخر.
وقد نبه القرآن الكريم إلى أن فساد بني إسرائيل نشأ مع هذا العوج، فقد أخذت عليهم المواثيق بأمور سواء، ففعلوا بعضها وتناسوا بعضها، لأنهم يتصرفون وفق شهواتهم، ولا يرتبطون بأمر الله ونهيه.. فكان التعقيب الإلهي على هذا السلوك: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون}..
والأمة الإسلامية اليوم موزعة على عشرات الدول، وأمر الإسلام في كل دولة منها يستحق الدراسة، ويؤسفني أن أقول: إني لم أره مكتمل الشكل والموضوع في قطر من أقطار الأرض. هناك مجتمعات لا تعترف بالحدود والقصاص، ومجتمعات لا تعترف بدساتير الحريات والحقوق، ومجتمعات لا تعترف بالحلال والحرام، وأخرى تترك الصلاة والصيام، وأخرى… وأخرى…
وأعداء الإسلام كلما رأوا جزءا منه أصابه الشلل، سارعوا بالتدخل الماكر، ليزيدوا الطين بلة، أو ليزيدوا المريض علة… ونحن نصرخ بأولئك المسلمين المفرطين أن يرجعوا إلى دينهم كله، لا يدعون منه شيئا، ولا يفرطون في جانب، ولا يأذنون لعدو سافر ولا لصديق جاهل أن يصرفهم عن كتاب ربهم وسنة نبيهم، فذاك وحده طريق النصفة والانتصار.
إن شعب الإيمان التي تبلغ السبعين موزعة توزيعا دقيقا على الدائرة الرحبة التي تمد إليها وظيفة الإيمان وتنتشر فيها أشعته.
ولما كان الإسلام علاقة تشمل النفس والمجتمع والدولة، وتتناول المعاش والمعاد في إطار من معرفة الله ورقابته، فإن تعاليمه تشبه شبكة الأعصاب المربوطة في الكيان الإنساني كله لا تخلو منها جلدة بين الرأس والقدم..! قال تعالى : {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين}..
ومن الخطأ تصنيف تعاليم الإسلام على أساس فني وتصور أن بعضها يقوى وينمو في حين أن بعضها الآخر يذبل ويذوي. إن ذلك قد يجوز في عالم الدراسات النظرية حيث ينجح الطالب في مادة ويرسب في أخرى لأنه استوعب الأولى وأهمل الثانية. أما في المجتمع الكبير فإن اعتلال بعض الإسلام ينقل العلة إلى البعض الآخر على عجل أو على مهل ما لم نسارع بالاستشفاء والتصون وإنفاذ أوامر الله في كل مجال.
فضعف العقيدة مثلا ليس يترك أثره الرديء في صلة المسلم بربه بل يتعدى ذلك إلى موقف الفرد من الجماعة وموقف الدولة من العالم أجمع. وترك الصلاة ليس معصية خاصة فقط بل هو ذريعة إلى انهيار الأخلاق وانتشار الآثام. وإهمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس برودا في عاطفة التدين فقط ولكنه آية على موت الضمير الاجتماعي وتلاشي رسالة الأمة.
والاستعمار الحديث في حملته على الإسلام لا يقوم بهجوم شامل على كل شيء إنه أذكى من ذلك وأدهى. إنه يصر على إماتة بعض التعاليم أو سرقتها من الوعي العام عالما أن ما بقي سيتبع ما أخذ. ترى هل سنخدع عن ديننا أم ندافع عن كل ذرة منه؟!!.
** المصدر: من مقالات الشيخ الغزالي.