د. توفيق بن عبدالعزيز السديري
إن التنوع والتمايز والتعدد والاختلاف سنة إلهية كونية مطردة في سائر عوالم المخلوقات.. من الجماد إلى النبات إلى الحيوان إلى الإنسان وعوالم الأفكار.. وإن هذه التعددية هي في إطار الأصل الذي خلقه الله سبحانه وتعالى.. فالإنسانية التي خلقها الله من نفس واحدة تتنوع إلى شعوب وقبال وأمم وأجناس وألوان، وكذلك إلى شرائع في إطار الدين الواحد.. وإلى مناهج. أي ثقافات وحضارات في إطار المشترك الإنساني الواحد، الذي لا تختلف فيه الثقافات.. كما تتنوع إلى عادات وتقاليد وأعراف متمايزة حتى داخل الحضارة الواحدة، بل والثقافة الواحدة.
وهذا التنوع والاختلاف والتمايز يتجاوز كونه «حقا» من حقوق الإنسان إلى حيث هو «سنة» من سنن الله التي لا تبديل لها ولا تحويل، وآية من آياته، سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُوا اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (1) سورة النساء، {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} (22) سورة الروم، {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (118-119) سورة هود، وكما يقول المفسرون: فللاختلاف خلقهم، وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (13) سورة الحجرات، وهذه الآية الكريمة تكشف عن ثلاث قواعد:
القاعدة الأولى هي الوحدة الإنسانية؛ بمعنى أن الناس جميعا يشكلون أمة واحدة خلقهم الله من نفس واحدة.
القاعدة الثانية هي التنوع الإنساني، حيث تتابع الآية الكريمة {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ}، أي أن هذا التنوع جُعل بإرادة إلهية، وأن وجوده هو تجسيد لهذه الإرادة الإلهية وتعبير عنها.
القاعدة الثالثة هي أن الهدف من هذا التنوع هو التعارف بين الناس تحقيقا لوحدة تحفظ التنوع وتحترمه وتصونه؛ حيث تكمل الآية القرآنية بتحديد الحكمة من التنوع بقولها: {لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.
فالتعارف هو الجسر الذي يربط بين الجماعات المتنوعة والمختلفة، ولكن لا تعارف من دون معرفة، ذلك أن التعارف يقوم أساسا على المعرفة، ويفترض بالآخر أن يكون مختلفا حتى نتعرف إليه، ويفترض أن نكون نحن مختلفين عنه حتى يتعرّف إلينا.
ومن دون هذا الاختلاف ما كانت هناك حاجة للمعرفة، وما كان للتعارف أساسا أن يكون.
من هنا فإن الدعوة القرآنية للناس ليتعارفوا هي في حدّ ذاتها دعوة لهم للتعرّف على ما بينهم من اختلافات وللاعتراف بهذه الاختلافات، ولإدراك حتمية استمرارها، ولبناء مجتمع إنساني واحد ومتناغم على قاعدة معرفة المختلفين وتعارفهم، لقد شاء الله بحكمته أن يكون الناس رغم وحدة الخالق، ووحدة الخلق أمما وشعوبا مختلفة، فالوحدة الإنسانية تقوم على الاختلاف والتنوّع، وليس على التماثل والتطابق؛ ذلك أن الاختلاف آية من آيات عظمة الله، ومظهر من مظاهر روعة إبداعه في الخلق. إنه مع اختلاف الألسن والألوان، كان من طبيعة رحمة الله تعدد الشرائع والمناهج، فالدين واحد، والشرائع متعددة، وهو ما أكد عليه القرآن الكريم بقوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (48) سورة المائدة.
فالاختلاف الثقافي والعرقي والديني والمذهبي باق حتى قيام الساعة، والحكم فيه يومئذ لله، والتعامل مع بقائه لا يكون بإلغائه ولا بتجاهله، بل بالتعرّف إليه والتعامل معه باعتباره سنّةً دائمةً من سنن الله في الكون.
يقول القرآن الكريم: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} (22) سورة الروم، وبالتالي فإن الاختلاف العرقي لا يشكل قاعدة لأفضلية ولا لدونية، فهو اختلاف في إطار الأسرة الإنسانية الواحدة يحتم احترام الآخر كما هو، وعلى الصورة التي خلقه الله عليها.
ونحن مكلفون بالاجتهاد في الوصول إلى الحق، وقد لا نصيبه بالضرورة، يقول أبو الوليد الباجي: «وإن من حكم بغيره فقد حكم بغير الحق، ولكننا لم نكلف إصابته، وإنما كلفنا الاجتهاد في طلبه، فمن لم يجتهد في طلبه فقد أثِم، ومن اجتهد فأصابه فقد أُجِر أجرا واحدا لاجتهاده ولم يأثم لخطئه؛ هذا يعني أن الاجتهاد باعتباره عملا فكريا إنسانيا مفتوحا على الصواب والخطأ.
وبالتالي فإنه ليس مقدسا، وإنه ليس لأحد حقّ احتكار الصواب المطلق. أو حقّ توجيه اتهام الفكر المختلف بالخطأ المطلق. فمن أبرز صفات السماحة الإسلامية أن المفكر أو المجتهد المخطئ لا يؤثم على خطئه، بل يؤجر على اجتهاده، حتى إذا أصاب يؤجر ثانية لإصابته الحق. من هنا قول الشافعي: «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب».
فالتغاير والاختلاف هو القاعدة، وهي قاعدة عصية على التجاوز، تشكل الثابت الدائم في المجتمعات الإنسانية منذ بدء الخلق وحتى نهاية الزمن.
ولذلك أرسى الله قاعدة التعارف المكملة لقاعدة الاختلاف والتغاير، والقاعدتان معا تشكلان الأساس الذي تقوم عليه الأخوّة الإنسانية التي لا سلام ولا استقرار من دونها.
علاقة المسلمين بمن يعيش معهم في وطن واحد
لقد حدد الإسلام العلاقة مع الآخر، ولم يقمها على الحرب والقتل بسبب اختلاف الدين، وإلا لقاتل غير المسلمين كافة ولم يقبل منهم أي عقد أو عهد أو ذمة، بل لما اعترف بحقوقهم ولما قبل وجودهم وشرع الأحكام التي تضبط تعايشهم مع المسلمين إذا وجدوا معهم في مجتمع واحد.
فالمجتمع الإسلامي مجتمع يقوم على عقيدة خاصة: منها تنبثق نظمه وأحكامه وآدابه وأخلاقه فهو مجتمع اتخذ الإسلام منهاجا لحياته، ودستورا لحكمه، ومصدرا لتشريعه وتوجيهه في كل شؤون الحياة وعلاقاتها، فردية واجتماعية ومعنوية، محلية ودولية.
ولكن ليس معنى هذا أن المجتمع المسلم يحكم بالفناء على جميع العناصر التي تعيش في داخله، وهي تدين بدين آخر غير الإسلام.
كلا، إنه يقيم العلاقة بين المسلمين، وبين مواطنيهم من غير المسلمين على أسس وطيدة من التسامح، والعدالة، والبر، والرحمة، وهي أسس لم تعرفها البشرية قبل الإسلام، وأساس هذه العلاقة مع غير المسلمين قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (8-9) سورة الممتحنة، فالبر والقسط مطلوبان من المسلم للناس جميعا، ولو كانوا كفارا بدينه، ما لم يقفوا في وجهه ويحاربوا دعاته، ويضطهدوا أهله.
ولأهل الكتاب منزلة خاصة في المعاملة والتشريع فالقرآن ينهى عن مجادلتهم في دينهم إلا بالحسنى، حتى لا يوغر المراء الصدور، ولا يوقد الجدل واللدد نار العصبية والبغضاء في القلوب قال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (46) سورة العنكبوت.
الحوار مع الآخر ضرورة من أجل التعايش السلمي
لا شك أن الحوار ضرورة للتواصل البشري والتعاون الإنساني، ولتحقيق السلام والتقدم الحضاري فالإنسان مدني بطبعه، وهو بحكم كونه مدنيا، يحتاج إلى توثيق روابطه بالآخرين، وذلك من خلال التفاهم المفضي إلى التعايش السلمي المحقق للتقدم الحضاري.. فلا يمكن أن يعيش الإنسان منعزلا عن الآخرين، فضلا عن أن يعيش معاديا لهم أو متخاصما معهم.
ولهذا كله دعا الإسلام إلى الحوار، وحث على مد الجسور مع الآخرين، ورسم لهذا الحوار معالم أساسها الرفق والود وكفالة الحرية التي تسمح بالاختلاف والتعايش في نفس الوقت دون عداء ودون كراهية.. وما أروع قول المولى في الدعوة إلى حوار أهل الكتاب: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (64) سورة آل عمران، وما أعظم قوله جل شأنه في الدعوة إلى حوار من يحتاجون إلى الترشيد وتصحيح الفكر أو السلوك حتى من المسلمين: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (125) سورة النحل.
ففتح سبل الحوار بين المسلمين وغيرهم مطلوب بل مأمور به.. والدعوة إلى الحق والخير مطلوبة كذلك بل مأمور بها. على أن يكون الحوار مسموحا فيه بأن يخالفنا من نحاوره، وإذا حدث هذا، فلا إكراه له ولا عداء معه. وحسبنا أن نقول له: {اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ أو نقول لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (6) سورة الكافرون.
ولا ينبغي أن يكون الحوار مشوبا بأي عنف ولا أي عداء ولا أية كراهية، لأن ذلك مخالف لقول المولى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (46) سورة العنكبوت.
وهكذا نرى أن الحوار من المسلم مع غير المسلم مطلوب ومشترط فيه أن يكون بالتي هي أحسن. كما نرى أن الحوار من المسلم الداعية مع غيره من الذين توجه إليهم الدعوة، أمر مطلوب كذلك، ومشترط فيه أن يكون بالحكمة والموعظة الحسنه. والحكمة تعني الرفق والتعقل والدقة والمعالجة الصحيحة، وغير ذلك من الدلالات الكثيرة التي تدل عليها كلمة «الحكمة».. والموعظة الحسنة، هي الموعظة الجميلة الرقيقة الجذابة الحانية التي من شأنها أن يُستجاب لها ويعمل بمقتضاها، وذلك لأنها «حسنة» وليست قبيحة ولا منفرة ولا متشددة ولا غليظة.
التطرف يهدد الحوار والتعايش الإنساني
التطرف أكبر خطر يهدد الحوار، ويقطع التواصل، ويحول دون التعاون، وبهذا فهو مدخل إلى الإرهاب أحيانا، وسبيل إلى عدم التوافق مع كل الأحايين وعدم التوافق قد يكون بين المرء ونفسه، وقد يتجاوز ذلك فيكون بين المرء ومجتمعه، وقد تتسع دائرته فيكون بين مجتمع وغيره من المجتمعات.
فالمتطرف عادة إنسان متوتر غير راض وغير سعيد.. والمتطرف عادة يرى في نفسه مع ذلك تميزا على الآخرين، ويحس أنهم مقصرون آثمون، ومن هنا لا يتوافق معهم ولا يطمئن إليهم، فهو ينفر منهم بل كثيرا ما يعاديهم ويتربص بهم.
ولذا فهو يكره مجتمعه وأحيانا تحمله الكراهية على اعتزال هذا المجتمع، وأحيانا أخرى يعمل على تغييره بالقوة فيتورط في العنف والإرهاب.. وقد يكون هناك مجتمع متسم بالتطرف، وهذا المجتمع يتمثل أحيانا في حزب أو فرقة أو أصحاب مذهب، كما يتمثل هذا المجتمع أحيانا في دولة تأخذ نفسها بفكر متطرف وتبتعد به عن كل سماحة الدين الحق وعن جوهر الوسطية القويمة والاعتدال الرشيد.
ومن أمثلة ذلك الخوارج قديما وبعض الأحزاب المنتسبة للإسلام بل بعض الدول حديثا.
وليس يخفى انحراف هؤلاء جميعا وبعدهم عن الطريق القويم، طريق الاعتدال والوسطية وسماحة الإسلام، تلك السماحة التي تدعو إلى الحوار من أجل التعايش السلمي والتعاون الإسلامي، ومن أجل السلام والتقدم وتحقيق حياة أفضل لبني الإنسان.
إن التاريخ أكبر شاهد على أن الحوار المعتمد على جوهر الإسلام في سماحته، كان أحسن السبل لازدهار الحضارة وتحقيق الخير للناس. كما أن التاريخ أكبر شاهد على أن التطرف البعيد عن جوهر الإسلام واعتداله، كان أقصر الطرق إلى التخلف وجلب الشر والأذى للناس..
إن الخوارج كانوا متطرفين، وأفعالهم ونتائج حركتهم تثير الأسى، فلم تجن الحضارة الإسلامية من ورائهم إلا سفك الدماء وإزهاق الأرواح، وأصحاب حركة الاستشهاد من مستعربي الأندلس كانوا متطرفين، وأفعالهم ونتائج حركتهم تثير الأسى أيضا، ولم يجن منها المسيحيون في الأندلس إلا سفك الدماء وإزهاق الأرواح..
والحروب الصليبية كان وراءها التطرف من المعتدين على الأراضي المقدسة في فلسطين وبعض بلاد الشرق ومثلها في العصر الحديث حرب الصرب للبوسنة، فهي كذلك حرب وراءها التعصب.
ولم يجن منها الناس إلا الخراب والدمار وسفك الدماء وإزهاق الأرواح.. وفي المقابل يؤكد التاريخ أنه حين تحقق الحوار والتواصل والتسامح في العصرين الأموي والعباسي في الشرق، قامت حضارة إنسانية رائعة..
وكذلك حين تحقق الحوار والتواصل والتسامح في العصر الأموي في الأندلس، قامت كذلك حضارة إنسانية رائعة. وهذه الحضارة المشرقية وتلك الحضارة الأندلسية كلتاهما قد عادت بالنفع لا على المسلمين وحدهم، وإنما على المسلمين وغير المسلمين، بل كانت من أهم الدعائم التي قامت عليها النهضة الغربية عقب ظلمات عصرهم الوسيط.
كيف يمكن أن نقيم حوارا مثمرا؟
ولكي نقيم حوارا مثمرا، يجب معالجة التطرف الذي يعوق الحوار، وأن نقدم من خلال الحوار قيم ديننا الحنيف التي قامت عليها دعوته وشيدت عليها حضارته ودولته. وأهم هذه القيم: الحرية والمساواة والشورى والعدالة، والاهتمام بالعلم النافع.
فالإسلام قد حرر الإنسان ذاتا وفكرا وروحا.. والإسلام كرم الإنسان بهذه الحرية، وجعله أفضل خلقه وسخر كل ما في الكون من أجل سعادته.. {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (70)، سورة الإسراء، {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} (116) سورة طه.
والإسلام دعا إلى المساواة بين البشر، ورفض أن يفضل أحد أحدا للونه أو جنسه أو عرقه أو طبقته، وجعل أساس المفاضلة التقوى فحسب، فبقدر حظ الإنسان من تقوى الله تكون ميزته وتكون درجته ويكون فضله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (13) سورة الحجرات. والإسلام دعا إلى الشورى ومجد المسلمين لأن أمرهم شورى بينهم، بل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم -وهو الموحى إليه الذي لا يخطئ- بأن يشاور أصحابه ولا يستبد برأي. وفي ذلك يقول المولى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (159) سورة آل عمران.
ولقد أصبح الحوار اليوم أكثر إلحاحا من ذي قبل باعتباره وسيلة للتعايش السلمي والرقي الحضاري، فالحضارة هي ثمرة جهود الأفراد والشعوب ومساهمتها في تطوير أوضاع الإنسان عبر العصور، أما الحوار فهو الأسلوب المتحضر والراقي في التعامل مع جميع الآراء الثقافية والفنية والدينية لإشاعة التعايش السلمي وتجنب نشوء أزمات حضارية تزج بالإنسانية في نفق المظلم.
إن حوار الفرقاء المختلفين مهمة إنسانية وخيار منهجي ومطلب واقعي وشرعي بما يتضمنه من اعتراف بالآخر وبحقه في الوجود إذ بدونه تنعدم شروط الحياة الآمنة وظروف السلم الأهلي والاجتماعي، إلا أن الإشكال الحقيقي الذي تواجهه الإنسانية اليوم لا يتمثل في اختلاف الحضارات والثقافات والأديان وإنما يكمن في مسألة تدبير وإدارة هذا الاختلاف والتنوع بشكل عقلاني وموضوعي بعيدا عن نزعات التعصب والتطرف والهيمنة.
ذلك أن الحضارات لا تتصارع فيما بينها، وإنما تتلاقح وتتكامل لتنتج حضارة جديدة يستفيد بعضها من البعض الآخر ولذلك يكون الحوار هو خلاص البشرية من ويلات الحروب والصراعات العقدية والدينية خصوصا بعد نظرية صراع الحضارات للكاتب الأمريكي صامويل هنتنغتون ومن سار في نفس طريقه، وهي النظرية التي ساهمت في إيجاد مبررات فكرية استخدمت لتغذية نزعات العنف والتطرف بشكل يهدد مستقبل البشرية ويضعه على حافة الهاوية.
إن انعدام الحوار معناه النزوع نحو الهيمنة ومحاولة إخضاع الناس جميعا لنمط واحد من أنماط الحياة البشرية ولنموذج واحد من نماذج المنظومات الثقافية وتحويل الاختلاف إلى عملية تنميط قسري والقضاء على ما سواها لتغدو بعد ذلك الحضارات الأخرى نسخا تابعة لمنظومة قيمية واحدة.
لذلك فإذا أراد مجتمع ما أو دولة ما أو إقليم ما بل العالم بأسره أن يتعايش بسلام وأمن فلا بد من الحوار قيمة ومعنى ومنهج، وبقدر ما ترى مفكرا أو زعيما أو دولة تسعى وتدعو للحوار فاعرف مدى ما يتمتع به ذلك الشخص أو تلك الدولة أو ذلك المجتمع من روح الحضارة والإدراك العميق لسنن الله في الكون.
* وكيل وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
المصدر: صحيفة الجزيرة السعودية (بتصرف).