أ.عمرو عبد المولى
قبل أن نقوم بتعريف البوذية سوف نقوم بالمرور سريعًا لنتعرف على الظروف والعوامل التي سبقتها وساعدت على ظهورها, وأيضًا نتعرف
على البيئة والمكان الذي نشأت فيه العقيدة البوذية، حيث أشهر أماكن وجودها في بلاد جنوب قارة آسيا وشرقها، خاصة الهند التي تتميّز وتتسم بكثرة الديانات والمعتقدات وتعدّدها، وكلها ديانات وثنية، تقوم إما على الشرك أو الإلحاد، ما عدا الإسلام، حيث يوجد نسبه غير قليلة من المسلمين في الهند, بل إن الهند ساد فيها الإسلام قرونا من الزمن, فعاش الناس في أمن وأمان وعدل وإحسان.
عُرفت تلك العقائد الوثنية منذ قرون كثيرة تزيد على ثلاثين قرنا، وهي في الجملة تمثل مذاهب في الحياة والأخلاق، وليست عقائد بالمعنى المتعارف عليه في الدين الإسلامي.
تميزت الهند “المنشأ الأصلي للبوذية” بالأساطير والخرافات, وتميز المجتمع فيها بأنه مجتمع الطبقات الذي تتعدّد فيه اللغات والألوان.
وبنظرة إلى جغرافية الهند يتبيّن لنا ما السبب وراء هذا التعدّد، حيث تبلغ مساحة الهند ما يعادل مساحة قارة أوروبا كلها باستثناء روسيا, وهي شبه جزيرة تمثل مثلثا غير منتظم الأضلاع، قاعدته إلى أعلى ورأسه إلى أسفل, والهند بلاد مقفلة كما يسميها الباحثون, فضلعا المثلث في الشرق والغرب يدور حولهما البحر, أما قاعدة المثلث في الشمال فتحيط به سلسلة جبال الهملايا وجبال سليمان، ويحتضنها نهران عظيمان، أحدهما نهر السند، وينبع من جبال الهملايا, والآخر نهر كنكا، وهو ينبع أيضًا من جبال الهملايا ويصب في خليج البنغال، بعد أن يتصل بواتر المقدس(1), ويشق الهند عند منتصفها تقريبًا سلسلة من الجبال والأدغال تبدأ من الغرب, وتسير حتى قرب الساحل الشرقي, وهذه السلسلة تقسم الهند قسمين يختلف أحدهما عن الآخر في طبيعته وسكانه وحضارته وديانته.
ومن نهر الأندوس (السند) اشتُق اسم الهند(2), وظهرت كلمة “أندوهند”, وهي تعني الأرض التي تقع فيما وراء “الأندوس” وسمي سكان هذه البلاد “الهنود أو الهندوس”، وقيل كما ذكر غوستاف لوبون “يحتمل اشتقاق اسم الهند من اسم الإله اندرا”، ويقع في الشمالي الغربي من الهند دولة أفغانستان، والتركستان في الشمال والصين في الشمال والشمال الشرقي، وبورما في الشمال الشرقي أيضًا.
كل هذه البيئة الجغرافية واتساع أراضيها وجبالها الشاهقة والمرتفعات, جعلتها فعلًا بلاد العجائب والمفارقات, وأرضا خصبة للفلسفات والعقائد والأديان المختلفة.
تعد الهند مركزا من مراكز الحضارة القديمة نظرا لجعرافيتها كما ذكرنا من قبل، وهي في هذا تضارع مصر والصين وآشور وبابل, واتسمت الحضارة الهندية القديمة بالرقي في شتى المجالات، سواء أكانت زراعية أو معمارية، ولذلك كان من الصعب غزوها أو احتلالها نظرا لما يحيط بها من جبال وأنهار.
هناك معبران كل منهما يشكل منفذًا سلكته أجناس من البشر إلى الهند، حيث تكوَّنت التركيبة السكانية للهند، ويقع أحد هذين المعبرين شرقي جبال الهمالايا عند وادي نهر “برهما بوترا” ويسمى “الباب الشرقي”, ويقع الثاني غربي هذه الجبال ويسمى “الباب الغربي”, ومن هذين المنفذين اُقتحِمت الهند عدة مرات بأجناس مختلفة، ومن هنا أصبح سكان الهند كما يقول غوستاف لوبون “ذوي أمثلة متباينة, ففيها تجد شعوبًا بيضًا بياض الأوروبيين, كما تجد الزنوج السود, وبين هؤلاء وأولئك ألوان وألوان.
فمن الباب الشرقي دخلت الشعوب الصفراء (التورانيون) أفواجًا منذ آلاف السنين, يضيق الزمن بينها أو يتسع, وقد فرّ من وجهها بعض السكان الأصليين واحتموا بقمم الجبال, أما أغلب السكان الأصليين فقد ارتبطوا بالزاحفين، وكانت بينهما علاقات أنتجت ما يعرف بعد حين ب”السكان الأصليين”, وكان هذا المجتمع الجديد يتكون من جماعتين: إحداهما يغلب فيها الدم التوراني, والثانيه يغلب فيها الدم الهندي, أما الذين آووا إلى قمم الجبال فقد أطلق عليهم “زنوج الهند”(1)، ومن الباب الغربي اقتحم الهند الآريون.
ويرى باحثون آخرون([1])أن الجنس الآري أسيوي الأصل, وكان هذا الجنس الآري يعيش في وسط آسيا ببلاد التركستان، بالقرب من نهر “جيحون” ثم زحفوا أفواجًا في أزمنة مختلفة إلى الهند، وكان هذا في الأغلب في القرن الخامس عشر قبل الميلاد, وعندما دخلوا إلى الهند دخلوها كشعب مهاجر لا كجيش محارب, يقول غوستاف لوبون “وعن الآريين أخذ سكان الهند لغتهم ودينهم وقوانينهم وسجاياهم وطبائعهم”(1) وباختلاط هذه الأجناس الثلاثة (الآريين والتورانيين والسكان الأصليين) نشأت طبقات، وأجناس متعددة, وأصبحت ذات أهمية كبرى في تاريخ هذه البلاد, فمن الآريين كانت طبقة: رجال الدين (البراهمة) وطبقة المحاربين, ومن التورانيين: تكونت طبقة التجار والصناع، والسكان الأصليين: طبقة الخدم والعبيد، وهناك طبقة أخرى هم السكان الأصليون الذين لم يتصلوا بالآريين، وانعزلوا عنهم، فقد بقوا بعيدين عن التقسيم، وهؤلاء هم المنبوذون, وبهذا الامتزاج والاتصال والذوبان تكوّن المجتمع الهندي، وتكونت الثقافات والعقائد والأديان.
فإنه ليس في بلاد العالم كلها مجتمع تنمو فيه الخرافات والأساطير وتزدهر كما في الهند, ويرجع ذلك إلى الأجواء الموجودة بالهند، وطبيعة البلاد والسكان. كما اتسم المجتمع الهندي بنظام الطبقات القاسي، الذي عانى منه كثير من سكان الهند، وحرمهم من ثروات بلادهم ومن تولي الكفاءات منهم للمناصب في البلاد.
ونحن في هذه الدراسة سوف نتعرض بشيء من التفصيل لكل عقيدة من العقائد المنتشرة في الهند، حيث نبيّن للقارئ “البوذية – الهندوسية – الجينية” متناولين كل عقيدة من حيث نشأتها وأفكارها وعقائدها والكتب المقدسة، ومناطق الانتشار وتطورها عبر التاريخ وعدد معتنقي هذه العقيدة.
سوف نبدأ بإذن الله مع البوذية، وهي من العقائد الكبرى في العالم، حيث يعتنقها حوالي (300 مليون نسمة)، والدول التي تنتشر فيها الأفكار والعقائد البوذية هي “الهند – التبت –سيريلانكا – منغوليا – كوريا – كمبوديا – فيتنام -الصين -اليابان -نيبال -سومطرة -بورما -سيلان –سيام”، بالإضافة إلى انتشار البوذية ولو بعدد محدود في بعض البلدن العربية والإسلامية.
الجزء الأول
كانت الهند تعيش في ظلِّ الديانة البرهميَّة، مع ما جاءَت به من تعاليم ظالمة ومجحفة للناس، فجاءت البوذية تخفيفًا لِما جاءت به البرهميَّة من تعاليمَ، وإزالة ما أحدثته من تفريق بين الناس، فالناس في الديانة البرهميَّة ليسوا سواءً؛ من حيث العبادةُ أو الزهد، بل إنهم مختلفون من حيث الطبقات والأعمال، وتم تقسيمهم إلى طبقات مهينة ومتفاوتة.
كلمة بوذا: ليست اسم علم على شخصٍ بعينه، وإنما هي لقب ديني عظيم، معناه: الحكيم أو المستنير، أو ذو البصيرة النفَّاذة.
البوذية
البوذية ليست دينا، إنما هي فلسفة وضعية انتحلت الصبغة الدينية، وقد ظهرت في القرن الخامس قبل الميلاد. وكانت في البداية تناهض الهندوسية وتتجه إلى العناية بالإنسان، كما أن فيها دعوة إلى التصوف والخشونة ونبذ الترف والمناداة بالمحبة والتسامح وفعل الخير.
بعد موت مؤسسها تحولت إلى معتقدات باطلة، ذات طابع وثني، ولقد غالى أتباعها في مؤسسها حتى ألَّهوه. ومنهم من اعتبره “ابن الله “بالرغم من كونها نظامًا أخلاقيًا ومذهبًا فكريًا مبنيًا على نظريات فلسفية باطنية، وتعاليمها ليست وحيًا كما قلنا، لأنها ليست دينا، وإنما هي آراء وعقائد في إطار ديني.
تختلف البوذية القديمة عن البوذية الجديدة في أن الأولى صبغتها أخلاقية، في حين أن البوذية الجديدة هي تعاليم بوذا مختلطة بآراء فلسفية وقياسات عقلية عن الكون والحياة والانسان.
بوذا
الميلاد – النشأه – الوفاة:
في الناحية الشرقية من الهند وبجانب مملكة “كوسالا” بين مدينة “بنارس” وجبال “الهملايا” حيث تسكن قبيلة “ساكيا” من الطبقة “الكشترية” والتي كان فيها أمراء القبيلة هم أصحاب السيادة في هذه البقعة.. سلاطينها المسموعو الكلمة، وكان “سدودانا” أحد نبلاء هذه القبيلة، له زروع نَضرة وقصور شاهقة، وكان متزوجا من “مايا” يعيش معها في هذا النعيم المقيم وفي سنة “563” ق.م (هذا ما ذكره المؤرخون بناء على وفاة بوذا في سن الثمانين سنة 483 قبل الميلاد)، أنجب هذان الأبوان طفلا أسمياه “سذهاتا”، تولت رعايته أمه التي توفيت بعد ذلك ثم احتضنته خالته “مهاياياتي”، وشبَّ الطفل في هذا النعيم العظيم المترف، وكان هذا الترف والنعيم رهن إرادته، وتدفقّت عليه المسرات من كل جانب، وبلغ مطلع الشباب وهو يرفل في هذا النعيم, كلمته مسموعة ورأيه مطاع.
1. تزوج هذا الشاب (سذهاتا) من ابنة أحد النبلاء، واسمها “ياسودهر” وولد له ابن سموه “راهولا”. وكان من الممكن أن تنسيه هذه الحياة المترفة الآلام التي يعانيها البؤساء والأشقياء.. تلك المآسي الناشئة عن نظام الطبقات الذي أنتجته وفعلته الديانة الهندوسية في الهند، لكن “سذهاتا” لم يستسلم للملاذ والشهوات، وعاش فردا في مجموعة يفكر ويحس بإحساسها, لا بل نقول إن “سذهاتا” جذبه جانب الشر والألم في الحياة أكثر مما جذبه جانب النعيم والترف، فلم يرضخ للحياة التي رسمت له، ولكنه رسم لنفسه حياة من نمط آخر، فما هو؟.
يروي المؤرخون أن “سذهاتا” التقى بشيخ عجوز واهن يتوكأ على عصاه ويوشك أن ينكفئ على صدره وقد تقوّس ظهره وثقل عليه رأسه، فلا يطيق حمله، فاضطرب له “سذهاتا” وتألم.. وكان يرافقه في هذه الرحلة صديقه “شانا” فقال له: هكذا نهج الحياة، ثم رأى مريضا يتلّوى من المرض، ويئن من الألم، ويشكو من العناء، وأهله حوله لا يستطيعون معالجته أو تسكين الألم، فقال له رفيقه “شانا”: هكذا نهج الحياه، فأخذ يفكر في هذا العناء والألم.. ما مصدره؟، وكيف يمكن التخلص منه؟، خاصة أن كل إنسان لا بد له أن يمرض ويتألم، وكثير من الناس يمتد بهم العمر فيعانون الهرم، وأحس والده بما هو فيه من إطالة تفكير في هذه المسائل والأمور التي رآها، فحاول مقاومة هذا الاتجاه عند ابنه بأن يبعد عنه أي مناظر فيها ألم، وأن يسبغ عليه مزيدا من الملذات والمسرات لصرفه عن التفكير، فلم يكن من السهل أن ينصرف عنها ثم أن “سذهاتا” عمّق فيها الفكر، ونتج عنها أحاسيس نفسية قوية، فلم يأت إسباغ الملذات بأي نتيجة كما حاول والده، ثم اتخذ “سذهاتا” قراره بأن يدع صخب الحياة، وأن يبدأ حياة الزهد والفكر لعله يصل إلى معرفة سر الكون.
في إحدى الليالي حيث كان القصر يموج بالبشر والملذت والترف، قال سذهاتا: “هذه رابطة أخرى علينا أن نفصمها” فعزم الأمر على أن يدعها ويفارقها ويفارق زوجته وابنه، وتسلل من القصر وامتطى جواده وانطلق إلى مرحلة جديدة، وكان عمره 29 سنة.
سار بوذا حتى خرج بعيدا عن مدينته على ضفة نهر “ملية” نزل من على حصانه ووضع عليه ما كان يرتديه من حلى وذهب، وسار على رجليه حتى التقى براهبين من البراهمة، فبقي معهما وتتلمذ على يديهما وتعلم منهما، وأراد عن طريقهما أن يصل إلى غايته، لكن بعد فترة تأكد لديه أن غايته ومبتغاه ليس عندهما، فهجرهما وقرر أن يسعى بنفسه لنيل معرفة وكشف أسرار الكون, وفي سبيل تحقيق ذلك اتخذ وسائل متعددة كالتصوف والفلسفة، ثم دخل دنيا الرهبنة ولقب في هذه المرحلة “غوتاما” أي الراهب، وأصبح أسير الفلسفة الهندية.. قرأها واطلع على أسرارها الباطنية وأفكارها ومبادئها الشاذة عن فطرة الإنسان التي فطر الله الناس عليها، وتأثر بها وجعلته يشعر أن الحياة جحيم لا يطاق، وأن الحياة عبارة عن آلام وتعب، وأخذ منها أيضا حياة التقشف والانقطاع من أجل الوصول إلى أسرار الكون وكشف الحُجب عنه، واتخذ نفس الطريق الذي سلكه الهندوس من قبل وألجأتهُ “غوتاما” إلى العزلة والتقشف، واكتفى من ملابسه برقاع أو أوراق شجر يستر بها عورته, وألقى بجسمه بين الأشواك والحصا، وأهمل الطعام والشراب إلى إن وصل إن يُطعَم أحيانا قليل من الأرز في اليوم راجيا من ذلك أن تكشف له أسرار الحياة والكون، وسبل النجاة منها.
قام بوذا بألوان وأنواع غريبة من الرياضات النفسية رغبة في أن يطهر نفسه, كل هذه الأعمال والرياضات أثّرت عليه أثرا بليغا حتى اضمحل جسمه وانحلت قواه.
وكان يصاحبه في هذه الفترة خمسة من النساك، وكانوا يرونه أكثرهم قسوة على نفسه وأصبرهم على الآلام، لذلك قرروا أن يضعوه في موضع ومكانة الزعامة بينهم، إذ كانت الزعامة في ذلك الحين لمن يستطيع أن يكون أشد صرامة وقسوة على جسمه، وأمضى في ذلك سبع سنين في هذه الحالة، والعيش بهذا التقشف، ثم فكر فلم يجد أنه وصل إلى غايته وأدرك أن ما يفعله ما هو إلا إجهاد لجسمه لا يغني فتيلا، وهنا أقدم “غوتاما” على مالم يكن معهودا ولا مألوفا في نُسّاك عصره .
ذلك لأن النساك في ذلك الوقت يرون محاربة الجسم كأنها غاية وليست وسيلة، ويستمرون في هذا العناء حتى الفناء، وكانوا في عصرهم مثل القديسين، أما غوتاما فقد اتخذ الزهد والتقشف وتعذيب الجسد وسيلة، فلما وجد وتبين له أنها وسيلة غير مجدية ولا تحقق تطلعه، تركها وعاد إلى طعامه وشرابه وكسائه، وقرر أن يتوقف أيضا عن قتل الشهوات وأعلن أن خير ما يوصله إلى غايته عقل يتغذى في جسم سليم.
على إثر ذلك فارقه وبَعد عنه أتباعه لأنه خيّب آمالهم، على أن غوتاما وإن عدل عن فكرة إماتته وفناء نفسه وتعذيبها فإنه لم يعدل عن تفكيره وتطلعه.
وبينما كان يمشي وحيدا موحشا مال إلى شجرة في غابة “أورويلا” ليتفيأ ظلالها ويتناول طعامه، ولكن المقام طاب له في ظل هذه الشجرة وتولدت لديه رغبة في البقاء في ظل هذه الشجرة، وحدث ما تمناه، يقول هو نفسه في هذه المرحلة: “سمعت صوتا من داخلي يقول بكل جلاء وقوة: نعم في الكون حق أيها الناسك، هناك حق لا ريب فيه، جاهد نفسك اليوم حتى تناله” “فجلست تحت الشجرة في تلك الليلة من شهر الأزهار وقلت لعقلي وجسدي: اسمعا لا تبرحا هذا المكان حتى أجد ذلك الحق، لينشف الجلد ولتتقطع العروق ولتنفصل العظام وليقف الدم عن الجريان؛ لن أقوم من مكاني حتى أعرف الحق الذي أنشده فينجيني”.
وحسب زعمه تمت له الإشراقة التي كان يترقبها, ويصورها بوذا بأنها صوت حادثه، وفي هذا الصدد يقول مولانا محمد عبدالسلام الرامبوري في كتابه “فلسفة الهند القديمة”: “وكان مستغرقا في تأمله خائضا في تفكره، إذ أخذته نزعة سماوية فغاب عن نفسه وعن كل ما حوله، وطفق يطرأ عليه حال بعد حال، ويلحقه طور وراء طور ثم عاد شعوره يتجلى رويدا رويدا، فأشرق الكون لديه، وأصبح العقل يتجرد عن شوائب المادية، فانشرح صدره ورأى العالم في تكوناته وتقلباته ومباديه ومناحيه، وقد غلب اللاهوت وتنور اللاهوت، فذاق سرورا ما خطر بباله من قبل، ووجد قوة ما استشعر بها قط، فأبصر ينابيع الحياة وأحاط بمنابع الآلام، واستوعب منابت البؤس، واكتشف مقاليد السرور، ورأى سبيلا يهدي إلى تلاشي الأحزان وزهوق الآلام، فأدرك متمناه ونال مبتغاه، وتخلص من تقلبات الحياة، ونجا من حزازات الآلام، وتيقظ شعوره وتنورت بصيرته واستوى على عرش البوذية، وصار بوذا العارف المستيقظ والعالم المتنور.
منذ ذلك الوقت أصبح هذا الشخص “بوذا” حسب زعمه وأباطليه.
في ختام هذا الجزء من هذه الدراسة نستمع لـ بوذا ماذا يقول عن نفسه في هذه المرحلة التي يعتبرها لحظه إشراق وفوز، يقول بوذا: “لما أدركت هذا تحررت من الهوى.. تحررت من شرور الكون الأرضي.. تحررت من شرور الخطأ.. تحررت من شرور الجهل، وتيقظ في المتحرر، شعور التحرر وشعور عدم تكرر المولد، قد انتهى الصراط المقدس، قد تمت الفريضة فلن أرجع إلى هذه الدنيا رجعة أخرى.. قد أبصر هذا”.
تُرى ما هذه الإشراقة التي زعم “بوذا” أنه حصل عليها؟، وما هذا السر الذي كُشف له؟، وما هذه الأنوار التي أحاطت بنفسه؟، وما تلك الوسائل التي استطاع بها أن يحل مشكلات الحياة؟، ويوقف المرض والشيخوخة والموت..!، هذا ما سوف نعرفه في الجزء الثاني من الدراسة بإذن الله ومشيئة الله تعالى.
————————–
المصادر:
– أديان الهند الكبرى سلسلة مقارنة الأديان، الدكتور أحمد شلبي.
– الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة، الندوة العالمية للشباب الإسلامي.
– موقع الألوكة الإسلامي.
– محمد عبدالسلام الرامبوري فلسفة الهند القديمة.
———
المصدر: مجلة البشرى