مصطفى عاشور
يشهد القرن الحادي والعشرون استعادة الدين لدوره المؤثر في الحياة، فحوالي 84% من البشر ينتمون إلى دين أو عقيدة ما، ويشكل المسيحيون حوالي 31.5% من سكان العالم، ويعيش ثلثاهم في دول العالم الثالث، حيث يستوطن الإسلام والعقائد الأخرى، رغم أن 80% من المسيحيين حتى القرن التاسع عشر كانوا يعيشون في أوروبا والأمريكتين، وهذا يعني أن المسيحية تتمدد باتجاه الجنوب، أما المسلمون فيشكلون 23.2% من سكان العالم، ويعيش ثلثهم في دول ومجتمعات غير مسلمة، وفي ظل انتشار ظاهرة انتشار التدين وتراجع الإيمان وأخلاقياته، ظهر التعصب والتشدد وتراجعت الروحانية، وهنا تُطرح قيمة التسامح بين أهل الأديان.
والإنسان المعاصر أشد ما يكون احتياجا إلى التسامح كخلق وسياسات؛ فالقدرات التي في يده للانتقام هي الأعلى في تاريخ البشرية من الأسلحة الفتاكة، كما أن إمكاناته على نقل الكراهية متنوعة وضخمة، وإذا لم تُقيد الكراهية والقوة الغشوم بروح التسامح والعقل فإن البشرية تقترب من حافة الدم والدمار.
وفي خطوة لإبراز جانب التسامح في الأديان صدر عن “مركز الدوحة الدولي لحوار الأديان” العدد الـ(12) من مجلة “أديان” يناير 2019، وهي مجلة نصف سنوية مُحكمة تصدر باللغتين العربية والإنجليزية، وتناقش ملف “التسامح في الأديان”؛ لتؤكد أن التسامح فضيلة أخلاقية وضرورة إنسانية لضبط الاختلاف، وتحقيق التعايش.
يلعب عاملان أساسيان دورا محوريا في إبراز قيم التسامح، هما التغيير الديموغرافي المتمثل في الهجرة إلى الغرب، والتي باتت تهدد هوية الغرب وثقافته، وهو ما أدى إلى تراجع التسامح، وكذلك الإرهاب الذي وقع من بعض المهاجرين باسم الدين فقلص هو الآخر مساحة التسامح وأجج مشاعر الاحتقان.
وفكرة التسامح من معانيها القدرة على تقبل الرأي الآخر والصبر الجميل على أشياء لا يحبها الإنسان ولا يستسيغها، بل يعدها معاكسة لما يؤمن به، لذا فالتسامح يهدف إلى تجاوز سبل الانقسام نحو الانتماء للأصل الإنساني.
كان أول ظهور لكلمة تسامح (Tolerance) في الفكر المعاصر في كتابات الفلاسفة الذين تناولوا الأيديولوجيا في أوروبا، فأغلب فلاسفة التنوير الذين طالبوا بالتسامح، لم يكونوا مستعدين لتطبيقه وتقبل مخالفيهم، ومن أوائل القوانين التي صدرت في هذا الشأن “قانون التسامح” عام 1689 في بريطانيا[1].
التسامح في الأديان
التسامح ليس ترفا، وليس اختيارا هامشا للفرد والمجتمع، ولكنه اختيار مصيري، وحقيقة الأديان في مجملها تدعو إلى التسامح، وتُشرع من الحقوق والواجبات ما يكفله، ومن المواعظ والنصائح ما ييسر حركته داخل الأنفس والمجتمعات، فتزيل العوائق التي تعترضه من الكراهية والرغبة في الانتقام والتشفي، ففي القرآن الكريم {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} [2] وفي وصايا المسيح -عليه السلام- “اغفروا يُغفر لكم”.
لم يرد التسامح بلفظه في القرآن الكريم، ولكن بألفاظ ومصطلحات تقاربه وتعبر عن نفس مضمونه، ولعل أشهرها هو “العفو” و”الصفح” و”الإعراض”، وفي السنة النبوية كانت أحاديث النبي الكريم-صلى الله عليه وسلم- تحذر من ظلم الإنسان بسبب دينه أو لونه أو نسبه، وتكفل من الحقوق والسياجات ما يكفل أن يعيش غير المسلم داخل المجتمع الإسلامي وحقوقه مُصانة محفوظة لا يخشى عليها.
وفي الفكر الإسلامي تجسد التسامح في مقولة “رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”، وفي التجربة التاريخية الإسلامية تجسد التسامح في كثير من فتراتها، ففي الأندلس تجسد في حضور أصحاب الديانات الثلاث في الوزارة في عهد الخليفة الأموي “عبد الرحمن الثالث”، وكان بعض الرهبان الغربيين يدرسون في قرطبة وإشبيلية على أيدي العلماء المسلمين، وذلك على خلاف المعاملة التي تلقاها المسلمون بعد سقوط دولة الأندلس، حيث تعرضوا لمذابح مخيفة سميت بـ”محاكم التفتيش”[3]، وكانت تلك المحاكم ردا على التعدد الديني الذي شهدته إسبانيا في ظل حكم المسلمين.
وقد أنتجت الرؤية الإسلامية في مجال التسامح حق التعارف، فالتعارف هو بوابة التسامح، ولا يتحقق التعارف إلا باللقاء والحوار والتفاهم، كما أقرت نصوص الإسلام حق التعددية واعترفت بالآخر وأقرت له من التشريعات ما يضمن حقوقه وأمنه وسلامته، والدليل على ذلك أن وثيقة المدينة التي وضعها النبي-صلى الله عليه وسلم- بعد هجرته إلى المدينة لتنظم العلاقة بين طوائف هذا المجتمع الجديد، ضمت (27) مادة تضمن حقوق غير المسلمين في المجتمع الجديد من حوالي (47) مادة هي مجمل نصوص الوثيقة[4]، ويؤكد المفكر اللبناني “محمد السماك” أنه لا يوجد في الإسلام ما ذهب في فضيلة التسامح مع المسيحيين مثلما ذهب إليه نص العهدة النبوية إلى مسيحيي نجران، فتلك المباديء التي أرساها نبي الإسلام-عليه الصلاة والسلام- كانت الأساس الشرعي الذي التزم به الخلفاء الراشدون في علاقتهم مع المسيحيين، وكان أشهرها “العهدة العمرية” إلى مسيحيي القدس.
وعبرت وصية الإمام علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- لمالك بن الأشتر حين ولاه مصر عن روح التسامح العظيمة في الإسلام، عندما قال له: “وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبّة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنّهم صنفان: إمّا أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه”.
وفي الفكر الإسلامي الحديث نجد من أوائل الخطابات التي تكلمت عن التسامح الإمام محمد عبده في كتابه ”الإسلام والنصرانية”، حيث اعتبر أن المساواة بين أبناء الأمة هو أساس التقدم، وأن العقل البشري مفطور على التنوع والتعدد، وربط بين الديمقراطية السياسية والمسألة الاجتماعية، ورأى المفكر البوسنوي على عزت بيجوفيتش أن “الظلم يمكن تصحيحه بالعدالة والعقوبة، المثل بالمثل، لكن الطريقة الوحيدة للانتصار على الظلم, هي التسامح، ولذلك يأمر القران بالعدالة, وينصح بالتسامح”.
وروح التسامح مبثوثة في الأديان والمذاهب الأخرى، فالمصلح الصيني كونفوشيوس (متوفى 551 قبل الميلاد) دعا إلى التسامح، وحين سُئل عن نصيحة لتكون نهجا للحياة قال:”قد تكون التسامح، وألا ترضى لغيرك ما لا ترضاه لنفسك”.
وفي التجربة التاريخية المسيحية، كان التسامح فيها قليلا في ظل التحالف بين السلطة السياسية والكنسية، ولكن مع حركة الإصلاح الديني أخذ التسامح يطرق كتابات المفكرين، فكتب المفكر الفرنسي “فولتير” رسالته المهمة “في التسامح” عام 1763م، والتي ارتبطت بقصة اتهام أب وإعدامه بتهمة قتل ابنه المخالف معه في المذهب الديني، وقال فولتير في رسالته “التسامح هو المبدأ الأول لحقوق الإنسان”، أما “بيير بايل” فكان من كبار المفكرين للتسامح الديني في أوروبا وأول منظر يدعو للتسامح.
أما الخلفية الفكرية للتسامح الديني في الغرب فهي نتاج للعقل التنويري الذي دخل في صراع مع الكنيسة من أجل تحقيق سلامة المجتمع بعد الحروب الدينية، وبذلك كانت فكرة التسامح تتويجا لتراكم فكري لسلوكيات رجال الدين ومؤسساتهم المهيمنة على مقدرات الشعوب الأوروبية المادية والمعنوية والعقلية، والتي صورت العقل وكأنه نقيض للدين، لذا جاء فلاسفة الأنوار وجعلوا العقل مرادفا للعقيدة الدينية.
ولكن هل في اليهودية منابع للتسامح يمكن الحديث عنها؟
المتأمل في التوراة وكل أسفارها وفقراتها يجد أنها عقيمة من حيث السلم بين المجتمع الإسرائيلي والشعوب الأخرى، لكن يأتي التسامح في اليهودية من خلال الوصايا العشر لنبي الله موسى –عليه السلام- والتي شرحها الطبيب اليهودي موسى بن ميمون والتي تأثر فيها بالدين الإسلامي وتسامحه في مدن الأندلس خاصة قرطبة، حيث زود الوصايا بلمحة من التسامح والتعايش.
وفي العصر الحديث قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها (51) في 15 تموز/يوليو 1996 إعلان مبادئ بشأن التسامح، اعتبرت فيه أن التسامح يعني قبول الآخر وقبول التنوع للثقافات وأشكال التعبير عنها، وأن التسامح يتعزز بالمعرفة والتواصل مع الآخر وحرية الفكر والمعتقد، وأنه مسؤولية إذ لا تعارض بين التسامح وحقوق الإنسان.
* المصدر: موقع إسلام أون لاين.
——
[1] صدر هذا القانون في عهد الملك وليم أورانج أو وليم الثالث في ظل صراع سياسي على السلطة بعد ما عرف بـ”الثورة المجيدة” ضد استبداد الحكم الملكي لأسرة “ستيوارت”، حيث اتجهت انجلترا منذ ذلك التاريخ نحو الملكية الدستورية بعد زوال حكم أسرة “ستيوارت” نهائيا، حيث تأكد الحكم الدستوري واصبح الشعب مصدر السلطات، واصبح الملك يسود ولا يحكم، وأصدر البرلمان في تلك الفترة قانون “التسامح” 1689م الذي منح المخالفين حق العبادة العلنية
[2] الأعراف: 119
[3] أسسها الملوك الكاثوليك فرناندو الثاني وإيزابيلا الأولى في 1478 بموافقة البابا سيكستوس الرابع. ومهمتها الحفاظ على العقيدة الكاثوليكية في الممالك الإسبانية، واستمرت محاكم التفتيش حتى تم الغائها نهائيا سنة 1834
[4] هناك اختلاف في الروايات في عدد نصوص الوثيقة ما بين (47) أو (49) أو (55).