د. حسان عبد الله
رغم المظاهر المتعددة للتدين، وملايين المسلمين الذين يحجون ويعتمرون سنويًا لبيت الله الحرام، ومئات.. بل آلاف المساجد التي تبنى سنويا في بلاد المسلمين، وعشرات أو مئات القنوات الفضائية التي تنطق بالخطب والمواعظ، والزيادة الكبيرة في طباعة المصحف (القرآن)، وحرْص المسلمين على اقتنائه، وتعدد أشكاله وزخرفته بشكل لم يعرفه المسلمون من قبل في تاريخهم الطويل؛ فإن واقع المسلمين يشير بوضوح إلى أنهم في حالة خصام مع الإسلام، خصام معنوي ومادي، خصام أخلاقي وقيمي، خصام في الباطن وكذلك الظاهر.
حيث ينفر المسلمون من كل محاولات التعرف على الإسلام وعلى حقيقته الكبرى، وكيف أن الإسلام جاء لإنقاذ الناس من كل ما يعانون من أزمات في الأخلاق والعيش، كيف أن الإسلام بدافعيته الجماعية مخلصا للجماعة الإنسانية من كل أشكال التردي التي وقعت فيها: التردي الاقتصادي تحت نيران الرأسمالية تارة والشيوعية تارة أخرى، والقهر السياسي والاستبداد والطغيان باسم الملك مرة وباسم رجل الدين مرة أخرى..
إن الدعوة إلى التصالح مع الإسلام دعوة خلاص حقيقي لكل أشكال التردي التي تعاني منها الأمة: تردي الانفصال عن الحقيقة الوجودية للإنسان، وتردي الانفصال بين المسجد والشارع، وتردي الانفصال بين الذات والاعتقاد، وتردي الانقسام والشيزوفرنيا الإسلامية، والعصاب الأخلاقي النفعي الأناني لدى المتردين ممن أعلنوا انتسابهم للإسلام في الظاهر.
التصالح مع الذات
إن أول سبل التصالح مع الإسلام هو التصالح مع الذات، برؤيتها من منظور الإسلام وإدراك حقيقة وجودها وغايتها وطبيعتها ووظيفتها العبادية بمفهومها الشامل والعميق، وإدراك دورها في الإعمار -كما حدده الإسلام- وذلك حتى يحدث توافق بين تلك الذات وبين حركة الإنسان الكلية في الكون؛ فالتصالح مع الذات كنهه وجوهره إدراك حقيقة الذات وحقيقة وجودها وحقيقة الغاية التي وجدت من أجلها في معانيها المتعددة والشاملة {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: (56)، {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (هود: 61).
وهذا التصالح يدفع الإنسان دفعا إلى استغلال قدراته وقابلياته المتعددة والمتنوعة إلى تحقيق هاتين الوظيفتين المتكاملتين (العبادة والإعمار)، والبحث في السنن النفسية والكونية، وتنمية القابليات الذاتية بالتعلم والتجربة والخبرة من أجل تحقيق أعلى عبادة وأكمل إعمار في النفس والمجتمع والكون.
التصالح مع الله
الذي لا يعرف نفسه لا يعرف ربه، وهكذا فالتصالح مع الذات يسبق التصالح مع خالقها؛ فمعرفة الذات هي السبيل المتفرد لمعرفة الله {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (فصلت: 53).
والتصالح مع الله هو معرفته بأنه الحق، والحق هو الموجد للشيء، وهو الفاصل في الحكم، والحق ضد الباطل، ومنه أيضا الحقوق الثابتة التي أقرها الحق للناس ومنها حفظ نفوسهم وأموالهم وعقولهم وعرضهم ودينهم واعتقادهم. والتصالح مع الله موصول بالناس الذي هم طرف الوجود الثاني؛ فالوجود طرفاه (الخالق: الله) و(المخلوق: الناس).
ولهذا أكد -سبحانه وتعالى- على ميزان العمل والمعاملة في الإيمان به وامتثال أوامره، من تحريم الظلم بين الناس وتحريم ظلم الناس.. كل الناس.. أيا كان اعتقادهم ولونهم ولغتهم… إلى المساواة الكاملة بين كل ذي يدين “لا فضل لعربي على عجمي…” {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}.
والتصالح مع الله هو إقرار (للناس) بحقوقهم المتعلقة دائما بمرجعية (الله) التي تراقب أداء تلك الحقوق، وتتوعد المخالفين والمنتهكين لها {أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} (المائدة:32).
والتصالح مع الله ميزانه (الناس) {أَوفُوا المِكيالَ وَالميزانَ بِالقِسطِ وَلا تَبخَسُوا النّاسَ أَشياءَهُم وَلا تَعثَوا فِي الأَرضِ مُفسِدينَ} (هود: 85).
ولا يهم الله من الإنسان الصلاة لمجرد الصلاة.. إلا إذا نهته عن الفحشاء والمنكر وارتكابه بين الناس..
ولا يهم الله الصوم إلا إذا سادت به التقوى بين الناس..
ولا يهم الله الحج إلا إذا رد الحاج مظالم الناس قبل الحج ولم يعود إلى مظلمتهم..
ولا يهم الله إنفاق المال من الإنسان إلا إذا اعتبر الإنسان المؤدي أنها حق معلوم للناس.
التصالح مع المجتمع
أن يتكتل على المجتمع كل هذه المؤسسات الإعلامية والدينية والأكاديمية، وأشباه المثقفين وأشباه الدينيين؛ فهذا أدعى للمصلح الحق أن يشفق على المجتمع، وأن يبذل قصارى جهده في رفع الحجب عنه، ومواجهة كل أنواع الزيف والخداع، بنفس قدر وبراعة المخادعين والمزيفين.
إن قضية المصلح المسلم ليست هداية الناس {لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} (البلد: 22)، وإنما توفير مناخ الهداية ذاته، وأهم عناصر هذا المناخ هو تحرير الناس أنفسهم بكشف معبوداتهم المزيفة، وتحرير الناس من الأوثان والوثنيين والهامانيين والفراعنة والقياصرة.
إن المجتمع هو المجال الحيوي للمصلح، كما أنه كذلك للمفسد.. وهو ساحة العمل الحقيقية، وساحة جهاد المجاهد، وساحة المقارعة والمبارزة، وساحة لا بد أن ينتصر فيها الله على يد المصلح المسلم، والنصر يكون بتحرير المجتمع كله من كل قيد يمكن أن يقف بينه وبين معرفة الله حق معرفته، وجبال الزيف لا بد أن تواجهها معاول التفتيت لا أن نساعد في بنائها، وتراث الخداع والانحراف لا بد أن يقابله أرتال من البيان والحقيقة لا أن نضيف إليه.
وعلى هذا.. فالمصلح في تصالحه مع المجتمع عليه أن يمتلك الحقيقة الاجتماعية التي تتحدد فيما يلي:
- الوعي والتوعية بكل العناصر الحية والعناصر الميتة التي تؤثر في المجتمع وفي حركته وفي نشاطه إيجابًا (العناصر الحية) وسلبًا (العناصر الميتة)؛ فعناصر اللغة والدين والثقافة والتاريخ في غالبها تمثل عناصر حية وإيجابية للمجتمع، والنزاعات والانقسامات والتفاوتات الاجتماعية والطبقية في غالبها تمثل عناصر ميتة للمجتمع.
والحقيقة الاجتماعية: هي الوعي بعناصر النباهة العقلية للفرد والنباهة الاجتماعية للمجتمع، والوعي كذلك بكل عوامل تزيف هاتين النباهتين (العقلية والاجتماعية) وبكل من يحاول أن يزيفهما أو يخرجهما عن مجال التفكير الحيوي مصير الناس (الفرد – والمجتمع)، ومن ثم فإن الوعي بمشروعات التغريب وحقيقة الاستعمار -الذي لم يرحل بعد- والقابلية للاستعمار، وواقع كل منهما في حياة المجتمع هو قلب تلك الحقيقة الاجتماعية.
- الوعي والتوعية بحالة الدجالة التي تمارس على الناس:
الدجالة الدينية أو باسم الدين: وهي أسوؤها على الإطلاق لأنها تستخدم المقدس لتبرير المدنس وتمريره باسم الدين، ويلبسون فيه زي العلماء ويتشبهون بزي الرسول، ويحملون القرآن لا يتجاوز حلوقهم ثم يدعون للغاصب المستبد بطول العمر، ويدعون” الناس” لطاعته باسم الله واسم الدين واسم الرسول. وهكذا أيضا: الدجالة السياسية، والدجالة الاجتماعية، والدجالة الإعلامية. وكلها تمارس تزييف النباهتين العقلية والاجتماعية، من أجل صرف الناس إلى التفكير في غير مصيرهم، وفي غير عدوهم الحقيقي، وفي غير الأسباب والعوامل التي أدت بهم إلى أسوأ أنواع التردي والتخلف والانحطاط.
- الوعي والتوعية بكل ما يمارس على الناس من وسائل إلهاء بالجنس أو الرياضة أو الدراما أو المخدرات أو الإنترنت أو مواقع الترفيه، أي الوعي بكل ما يصرف الناس عن حقوقهم وعن كيفية الحصول عليها، وصرفهم عن الانتباه عن حقيقة وجودهم وعن مكانتهم في الخلق.
- الوعي والتوعية بكل طيف ألوان الفساد، والتزوير والرشى، مثل الرشى الأخلاقية، والتزوير في الدرجات العلمية والوثائق الرسمية وغير الرسمية، والعصابات الحاكمة في كل مجالات المجتمع بهدف تضليله: في السياسة والاقتصاد والاجتماع والتعليم…
- الوعي والتوعية بالقوى التي تكرس في المجتمع رباعية التخلف (الجهل، والمرض، والفقر، وتزيف الوعي).