مسارات تربوية
د. حسان عبد الله
ذكرنا في الحلقة الأولى من هذه السلسلة أن الدعوة إلى التصالح مع الإسلام دعوة خلاص حقيقي لكل أشكال التردي التي تعاني منها الأمة، وفي هذ السياق أشرنا إلى ثلاثة أنواع من التصالح وهي: التصالح مع الذات، والتصالح مع الله تعالى، والتصالح مع المجتمع.
وهنا نشير إلى بعض مسارات تحقيق هذا التصالح.
-
معايرة الإيمانبالموقف من الأسباب ومقدار الكشف عنها:
إذا كنا نأخذ على الحضارة الغربية أنها فقدت بُعد السماء؛ فالأمة المسلمة فقدت بُعد الكون والخلق. وفي الاثنين خلل واضح وانحراف عن نظام الكون والسنن، بيد أن أمتنا في وضع أسوأ كثيرًا؛ فإذا كانت الحضارة الغربية قد أهملت بعد السماء واكتسبت وتفوقت في بُعد الكون والخلق؛ فإن الأمة المسلمة فقدت البُعدين معًا؛ فلم ترع للأسبابِ قدرًا ولا عملًا ولا كشفًا، وجاء ارتباطها ببعد السماء على غير حقيقته؛ لأن الحقيقة الإسلامية لا ترى ذلك الفصل بين البُعدين..
الحقيقة الإسلامية “واحدة” من التوحيد الذي هو شعار ومسار هذه الأمة غيبًا وحضورًا؛ فهي أمة {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا}، تمامًا كما أنها {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ}، وهذا يعني ضرورة استعادة الأمة لمعايرة الإيمان وحقيقته الذي هو الكشف والبحث والتنقيب عن الأسباب كل الأسباب..
والعجب الذي يشعر به المتابع المتألم للأمة أن ترفع كل هذه الأكف بالدعاء دون استجابة واحدة منها لسنن الله بالتغيير الذاتي لرافعيها في منطق تفكيرهم وتعاملهم مع الأمور والظواهر.
إن الاستجابة ترتبط في عالمنا الظاهر بهذه المعايرة، ومن ثم كان التساؤل عن الإخلاص في الدعاء؛ فإخلاص هذه الأمة يأتي في خلاصها، وخلاصها يأتي في فلاحها، والفلاح عمل جماعي يتطلب القيام للتفكير كما يتطلب القيام لله {أنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا}..
إن ميزان التوحيد للأمة كفته الإيمان الخالص وكفته الثانية الأسباب الخالصة.
-
تطويرتعليم الدرس الإيماني (إعادة بناء الإيمان على أساس العقل):
موجات الإلحاد الحديثة والمعاصرة التي مُنيَ بها العقل الإنساني تختلف في طبيعتها (من حيث الفلسفة والتناول) عن موجات الإلحاد في العصور القديمة (رغم اتفاقهما في المبدأ)؛ فهذه الموجات المعاصرة تقوم على منطق وعلم يفوق المبادئ القديمة، وأرسيت له نظريات وطرق عمل ووسائل تتجاوز أيضا ما كان في الماضي..
ومما ساعد على قوة موجات الإلحاد ارتباطها بعصور النهضة الصناعية والعلمية في أوروبا، وارتباطها بالنموذج الغربي المتفوق ماديًا، في حين أن بلاد الشرق المؤمنة توارت عن خارطة النظام العالمي كنماذج مؤثرة في حركته وتطوره، بل أصبحت عالة ومدمرة للحضارة (كما ذكر هيجل(.
وتعاني المجتمعات الإسلامية من تيارات فكرية تشكك في الإيمان وتدعو إلى الإلحاد، وكان ذلك قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، والآن أصبحت الدعوات سريعة ومكثفة وللأسف مثمرة في بعض الأوقات!
وفي ضوء ذلك.. فإن الدرس الإيماني المعاصر لا يمكنه أن يسير بنفس طرق البناء القديمة من حيث الاعتماد على النقل والسمعيات في بناء الاعتقاد بالغيب؛ لأن النقل والسمعيات نفسها تحتاج إلى دليل لاختيارها مصدرًا في هذا المجال..
فالإيمان بها ناتج عن الاختيار بينها وبين غيرها ومن ثم لا يمكن أن تكون دليلًا على ذاتها وبذاتها.. والعقل مناط التكليف لأنه مناط الاختيار والحرية التي منحها الله تعالى، والعقل هو الذي يميز ويختار ما يعتقد ويحكم بالصواب والخطأ من خلال قوانينه التي خلقها الله فيه، ومن ناحية أخرى لم تلتفت الحركة الإسلامية إلى تطوير درسها الإيماني، وظلت معتمدة على جانب (الوراثة) الذي تنتقده في خطابها، إلا أنها في واقعها المعرفي لم تسعَ إلى تطويره؛ لأنها اعتمدت كما ذكرنا على ميراث المجتمع الإيماني.
إن هذا التطوير المنشود يتطلب تعليم الإيمان عن طريق العقل واستخدام النظريات الحديثة، وقراءة الأفكار في مجال الإلحاد المعاصر، ومباني نزعات التشكيك وأصولها التي تقوم عليها، وأن يطرح في مواجهتها برنامج مقابل يقوم على مركزية العلم والمناهج المعاصرة.
ومما يساعد في تطوير هذا الدرس الإيماني هو الانطلاق من مرتكز الكون والإنسان والتاريخ، ومن النماذج التي يمكن البناء عليها في هذا المجال ما قدمه وحيد الدين خان (الإسلام يتحدى) ومصطفى محمود (حوار مع صديقي الملحد) وألكسيس كاريل (الإنسان ذلك المجهول) وغيرها من الكتابات، بل وحتى كتابات الغربيين التي فاقت أخيرًا ومثلت صحوة ضد الإلحاد مثل جيفري لانج (الصراع من أجل الإيمان(، وهو تجربة مميزة وفريدة جدا في الانتقال من الإلحاد إلى الإسلام.