د. رمضان فوزي بديني (خاص بموقع مهارات الدعوة)
خلق الله عز وجل الإنسان مركبا من عقل وجسد وقلب، وجعل لكل منها احتياجاته الخاصة، ودلَّه على سبل ومسالك لتلبية كل منها؛ فجعل القراءة غذاء للعقل، والطعام غذاء للجسد، والخلوة بالنفس والتفكر في الخلق غذاء للروح.
ثم إنه سبحانه وتعالى خلق هذا بصنع بديع، وإتقان إلهي فريد، وسخره للإنسان، وجعل علاقة الإنسان بهذا الكون علاقة تناغم وانسجام وتفاعل؛ فقد ذكر سبحانه وتعالى للإنسان في كتبه بعض أسرار هذا الكون، وترك له مساحة واسعة لإعمال عقله وقدح زناد فكره في استكشاف بعضها الآخر..
ولذلك جاء التحفيز القرآني في العديد من الآيات القرآنية على إمعان النظر وإنعام الفكر في هذا الكون، ومن ذلك الاستفهام الاستنكاري على الغابرين الذين لم يوظفوا حواسهم الإدراكية كما أراد الله تعالى، وعطلوها عن بعض أهم وظائفها وهو النظر والتفكر؛ فقال تعالى في أكثر من موضع {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا…}، وفي مواضع أخرى {أولم يسيروا}. وفي المقابل يأتي الثناء من الله تعالى على المتفكرين والمتدبرين {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُولِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران: 190، 191).. فما أجملها من حالة؛ أن يتفكر العبد بقلبه وعقله فينطلق لسانه ذاكرا لله تعالى، مثنيا عليه، داعيا له بأن يقيه من النار.. إنه منتهى الخشوع والخضوع والعبودية الكاملة لرب الأرباب.
وفي هذا السياق يقدم القرآن الكريم بيانا عمليا لمظاهر التفكر في كون الله تعالى من خلال هذه الصورة البديعة المعبرة في قول الله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ تَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (النمل: 60-64). ويقول عز وجل: {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} (الغاشية: 17-20).
والإنسان مطالب بنوعين من التفكر والتدبر؛ أولهما في كتاب الله المسطور؛ القرآن الكريم، وما يحويه من قيم وآداب وأخلاق وعقائد تسمو بها الإنسانية وتسعد، وثانيهما –وهو مجال حديثنا- هو التفكر في كتاب الله المنظور المتمثل في هذا الكون الفسيح الذي خلقه الله فأتقن خلقه وصنعه، وندبه إلى تقليب النظر وتعويد القلب على التفكر فيه وما ضمه من آيات كونية دالة على عظيم صفاته العلى وأسمائه الحسنى جل وعلا.
فوائد التفكر الدعوية
إذا كان التفكر والتدبر في الكون مندوبين لعامة المسلمين فإنهما أشد ندبا للدعاة إلى الله تعالى؛ لما لهما من آثار على التكوين النفسي والإيماني للداعية؛ ولذلك فإن حبيبنا محمدا صلى الله عليه وسلم الذي صنعه ربه على عينيه، كان التحنث في الغار قبل البعثة أحد وسائل التربية والتكوين والتهيئة له لتقبل الأمر العظيم الذي يترقبه.
فبالإضافة لما يحمله التفكر من صفاء روحي، ونقاء إيماني، هناك بعض الفوائد الأخرى التي يختص بها الداعية والتي يمكن تلخيصها فيما يلي:
- نزهة إيمانية: يحتاج الداعية إلى زاد روحي نوعي يعينه على طريقه إلى الله تعالى؛ ولذلك فإنه يجد هذا الزاد في خلوته بربه بين ثنايا كونه وبديع خلقه، متفكرا في عظمة هذا الخالق العظيم الذي تفنى الأعمار للوصول لمرضاته؛ فتهون على الداعية عقبات الطريق في الدعوة إليه.
- تربية ذاتية: يحتاج الداعية إلى بعض الصفات والخصائص النفسية التي تسهل له مهمته في الحياة؛ فهو يحتاج للصبر ومجاهدة النفس وسعة الصدر. وربما يكون في حمله نفسه على الخلوة لبعض الوقت تحقيق لبعض هذه الصفات؛ فالنفس بطبعها تميل للخلطة والاجتماع، ومخالفتها في هذا الأمر أحيانا يكون تدريبا لها على فعل بعض ما لا تريده؛ حتى يسلس له قيادها، وتخضع له في فعل الخير، وتحمل مشاق الدعوة.
- ثقافة طبيعية: الثقافة أحد مقومات النجاح الدعوي؛ فوظيفة الداعية تقوم على البلاغ، وما لم يكن لديه حد أدنى من الثقافة والفكر والمعرفة فلن يجد ما يبلغه للناس؛ والتفكر في الكون والسياحة التدبرية يعدان مصدرا للثقافة والمعرفة بالطبيعة وما أودع الله فيها من أسرار؛ فكثرة التفكر وتقليب النظر في الطبيعة تعرف بأنواع البحار والمحيطات، والجبال والمزروعات، واختلاف الألسن والثقافات، وتنوع الأحوال والعادات؛ وهو ما يكسب الداعية وعيا اجتماعيا وإدراكا طبيعيا لما يحيط به.
- فرصة تقويمية: ربما تكون الخلوة بالنفس فرصة للداعية لتصحيح مساره وتقويم أخطائه من خلال محاسبة نفسه والوقوف على بعض مظاهر الانحراف التي ربما تعترضها أثناء مخالطتها الناس.
- استراحة تحفيزية: قد تمل نفس الداعية من كثرة مخالطة الناس، ومعالجة مشكلاتهم؛ ولذلك يكون التفكر فرصة لانخلاعها من الخلق، واللجوء إلى الخالق في استراحة مؤقتة، محفزة لها للإبداع والانطلاق بروح جديدة في الدعوة ومجالاتها.
- وسيلة دعوية: قد يكون التفكر وسيلة لرفع منسوب الإيمان وغرس العقيدة الصحيحة في نفوس بعض المدعوين، من خلال اصطحابهم في رحلات خلوية، ودعوتهم إلى النظر في بديع خلق الرحمن، وعظيم قدرته سبحانه وتعالى، ومن ثم فهو المستحق للعبادة والخضوع لعظمته، دون سواه.
- قدوة عملية: حرص الداعية على ورده من التفكر يعد دعوة صامتة لغيره من الناس، ويسهل عليه دعوتهم لهذه العبادة المهجورة؛ فدعوة الحال أبلغ كثيرا من دعوة المقال.
- منحة تثبيتية: من الآفات التي ربما تعترض الداعية الفتور والقعود عن الدعوة؛ ولذلك فهو في حاجة دائمة لبعض الأمور التي تعينه على الثبات والاستمرار في طريق الدعوة، ويعد التفكر في كون الله الفسيح وما يحويه من مظاهر الخير والحق والعدل من وسائل الثبات؛ ولذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: “التفكر في الخير يدعو إلى العمل به، والندم على الشر يدعو إلى تركه. وإذا كان همُّ العبد وهواه في الله -عز وجل- جعل الله صمته تفكراً وكلامه حمدًا”.
- جولة استكشافية: الداعية دائما بحاجة للتعرف على مكنونات نفسه، واستكشاف قدراتها، والوصول لمنطقة المجهول لديه (الذات الخفية)؛ حتى يتمكن من توظيف كل قدراته وملكاته ومهاراته في الدعوة إلى الخالق سبحانه وتعالى، ويعد التفكر في الكون وسيلة لاستكشاف تلك الذات الخفية، وزيادة الفهم المؤدي للعمل، كما قال وهـب بن منبـه: “ما طالـت فكرة امـرئ قـط إلا فَهِـم، ومـا فَهِـم إلا علـم، وما علم إلا عمل”.
- تهيئة ذهنية: من الأساليب الدعوية الناجحة استخدام التهيئة الدعوية لاستثارة الذهن وتحفيز العقل، وهو منهج قرآني وسنة نبوية. ويعد التفكر في هذ الكون ومحاولة الوصول لبعض أسراره وخفاياه رافدا مهما للداعية لابتكار أنواع متعددة من هذه التهيئة الدعوية، وغيرها من أساليب ووسائل دعوية مبتكرة ومؤثرة.
وبعد.. أخي الداعية فلا تحرم نفسك من هذه النفحات الربانية، والفيوضات الإلهية؛ فكن على تواصل دائم وتفاعل مستمر مع الكون وما يحويه، واجمع بين التدبر في كتاب الله المسطور، والتفكر في كتابه المنظور؛ حتى تتهيأ نفسك لوراثة الأنبياء، واتباع سبيل المصلحين.