د. فاطمة حافظ
لاقت مسألة الحوار بين الأديان اهتمامًا متزايدًا في العقود الأخيرة بوصفها وسيلة للتقريب بين المؤمنين بالأديان، لكنها ليست فكرة مستحدثة فقد شاع أمرها في الأندلس حيث الاحتكاك الحضاري بين الإسلام والديانات السماوية، ولدينا في هذا الصدد رسالتان في القرن الخامس الهجري الأولى لابن حزم (ت:456 هـ) في تفنيد مزاعم ابن النغريلة اليهودي بشأن دين الإسلام، والثانية للإمام أبو الوليد الباجي (ت:474 هـ) كتبها ردا على رسالة راهب إلى المقتدر بالله حاكم سرقسطة يدعوه فيها إلى اعتناق المسيحية، ولضيق المقام سنتوقف أمام رسالة الباجي لما تحمله من أهمية، ولعلنا نعود لرسالة ابن حزم في مقال آخر.
أبو الوليد الباجي وقضايا عصره
ولد أبو الوليد الباجي بمدينة بطليوس بالأندلس عام (403 ه) وتجمع المصادر على أنه أبرز علماء الأندلس وحفاظها، تلقى العلم في وطنه ثم ارتحل إلى الشرق طلبا للعلم فأقام بمكة ثم بغداد والموصل وعرج على الشام ومصر ثم عاد إلى وطنه بعد ثلاثة عشر عاما. وكان الباجي “حسن التأليف متقن المعارف”[1] كما يقول القاضي عياض وله تصانيف مشهورة وبخاصة في الفقه والأصول، ومنها كتاب (المنتقى) في شرح الموطأ ويقع في عشرين مجلدا، و(الإيماء) في خمس مجلدات و(إحكام الفصول في أحكام الأصول).
عاش الإمام الباجي في فترة تاريخية مضطربة حكم فيها ملوك الطوائف الأندلس، ومع الاضطراب السياسي نشطت المذاهب المتشددة في الأندلس، وتعرضت العقيدة الإسلامية للهجوم من قبل العناصر غير المسلمة، ولمواجهة هذه الأخطار انتهج الباجي خطة قوامها:
– الدعوة إلى الوحدة السياسية بين ملوك الطوائف: وهي المسألة التي أولاها الشيخ عنايته إذ فور وصوله من المشرق ارتحل قاصدا ملوك الطوائف في مدنهم المختلفة موضحا خطورة التفرق وتربص الأعداء بالبلاد، وفي هذا يقول ابن بسام “أنه لأول قدومه رفع صوته بالاحتساب، ومشى بين ملوك أهل الجزيرة .. فقام مقام مؤمن آل فرعون لو صادف أسماعا واعية بل نفخ في عظامٍ ناخرة”[2].
– التصدي للمذهب الظاهري: وقد أخذ في الانتشار على يد الإمام ابن حزم الظاهري، ويعزا انتشاره إلى بلاغة ابن حزم وقدرته على التأثير والإقناع وإلى ضعف العلماء، وعلى هذا دعا العلماء الباجي لمناظرة ابن حزم علانية لدحض آراءه في نفي القياس وإبطال الرأي وما إلى ذلك، وقد جرت بينهما مناظرة مشهورة عام (439 ه) أسفرت عن هزيمة ابن حزم وإحراق كتبه في إشبيلية وانحسار نفوذ الظاهرية، وفي هذا السياق يقول القاضي عياض “فجرت له معه مجالس كانت سبب فضيحة ابن حزم وخروجه من ميورقة، وقد كان رأس أهلها، ثمَّ لم يزل أمره في سِفال [انحطاط] فيما بعد”[3].
– مواجهة دعاوى التبشير: التي عمت الأندلس مستفيدة من ضعف ملوك الطوائف الذين وصفهم ابن حزم بقوله “اللهم إنا نشكو إليك تشاغل أهل الممالك من ملتنا بدنياهم عن إقامة دينهم، وبعمارة قصور يتركونها عما قريب عن عمارة شريعتهم اللازمة لهم في معادهم وقرارهم، وبجمع أموال ربما كانت سببًا إلى انقراض أعمارهم وعونا لأعدائهم عليهم… حتى استشرف لذلك أهل القلة والذمة وانطلقت ألسنة الكفر والشرك”[4]، وبلغ من انتشار هذه الدعايات قيام راهب فرنسي بتوجيه رسالة إلى المقتدر بالله حاكم سرقسطة يدعوه فيها لاعتناق المسيحية فلم يُجب وأحالها إلى الإمام الباجي الذي كتب عليها ردا مطولا.
بنية الرسالة ومنهجها
حظيت الرسالة باهتمام المستشرقين الأوروبيين إذ كتب المستشرق دنلوب مقالا بشأنها عام 1952 وتبعه ألن كتلر وآخرون، أما الدارسون العرب فلم يلتفتوا إليها إلا في الثمانينات حين قام الدكتور محمد عبد الله الشرقاوي بنشرها وتحقيقها، ولهذا الاهتمام ما يبرره فالرسالة تحظى بأهمية كبيرة فهي من جهة تكشف عن التصورات المسيحية بشأن الإسلام أو التعليلات المسيحية بشأن ظهور الإسلام وانتشاره والتي تعود حسب زعم الراهب إلى تشبيه الشيطان على بني اسماعيل في أمر النبي الذي اتبعوه[5]، وتقوض من جهة أخرى الافتراضات بشأن عدم اطلاع العلماء- في الأندلس على الأقل- على الكتب الدينية المسيحية ووقوفهم على الاختلافات العقدية بين الطوائف المختلفة.
وقد تألفت رسالة الراهب من بضع نقاط أهمها دعوة المقتدر إلى المسيحية وبيان موجز لأهم المبادئ المسيحية كالاعتقاد في ألوهية المسيح، والخطيئة الإنسانية وفداء المسيح وما إلى ذلك، أما رد الإمام الباجي فقد جاء في قسمين كبيرين:
القسم الأول، تناول تفكيك دعوى ألوهية السيد المسيح، وهي القضية المركزية التي شغل الإمام الباجي بدحضها أكثر من أي مسألة أخرى باعتبارها لب المسيحية، وذكر في ذلك حججا عديدة منها: أن المسيح بشر مخلوق يتصف بالحدوث والتغير فهو يأكل ويشرب ويتحرك وهي أشياء يفعلها البشر لا الإله، ومنها أن عدم وجود أب للمسيح ليس دليلا على كونه إلها فآدم عليه السلام ولد من دون أب وأم ولم يزعم أحد أنه إله، ومنها أن المعجزات التي أتى بها المسيح كإحياء الموتى وشفاء المرضى ليست دليلا على الألوهية بل على النبوة فقد ظهر مثلها بل أعظم منها لدى الأنبياء.
والقسم الثاني، عرض لجوهر الإسلام ومبادئه الكبرى عقيدة ونظاما وأخلاقا وسلوكا، وافتتح بالحديث عن الشواهد العقلية التي تؤكد أن القرآن الكريم هو كلام الله المنزل وبين وجوه إعجازه، وذكر نبذة في دلائل نبوته صلوات الله عليه، وبسط بعبارات موجزة بليغة خلاصة ما يحض عليه الإسلام وما ينهى عنه، واختتم بدعوة الراهب إلى القدوم إليه ليتعرف على الإسلام لعله يهتدي إلى الدين الحق.
وقد تميز رد الإمام الباجي بعدد من الخصائص المنهجية من قبيل:
-المجادلة بالتي هي أحسن: التزم الإمام الباجي في رسالته بالتوجيه القرآني بالمجادلة بالحسنى، فاستخدم لغة لينة ليس فيها تعنيف ولا شدة، وأظهر التواضع العلمي بالتأكيد على أن “ملك الله أعظم من أن يحيط به فهم إنسان” ، وأكد أن غايته هي النصح ليخرج من ظلمة الجهل إلى نور العلم.
– الإحاطة التامة بأفكار الخصم: أوضح الإمام الباجي أن علماء المسلمين تعمقوا في دراسة العقيدة المسيحية وسبروا أغوار الاختلافات بين الطوائف المسيحية وحول هذا المعنى يقول “وعندنا من علم شريعتكم واختلاف أخباركم في ملتكم وما تورده كل طائفة من شبهكم في الأقانيم والاتحاد ومعنى اللاهوت والناسوت … ما لو أبدينا إليهما [أي إلى الرسولين اللذين حملا الرسالة] اليسير منه لحيرهما وبهرهما”[6].
– تفكيك منهجية الخصم: وجه الإمام الباجي اهتماما بنقض أفكار الراهب حول المسيحية وتصويب آراءه بشأن الإسلام، لكنه لم يقتصر على ذلك وإنما اتجه كذلك إلى إبراز التناقضات التي ضمها الراهب في رسالته كقوله “وقد رأينا ما في كتابك مما خالفت به جميع أهل ملتك فإنه ليس في فرق النصارى من يقول إن المسيح لا ينبغي الإيمان بـأحد سواه” وليس هذا هو التناقض الوحيد إذ “لو تتبعنا ما في كتابك من: التناقض، وفساد الوضع، ومستحيل القول، لما سلم منه إلا اليسير الحقير، حملنا ذلك منك على ما عهدناه من أهل ملتك من قلة العلم والبعد عن مقاصد المناظرة[7]“.
– ضبط المفاهيم: لاحظ الإمام الباجي استخدام الراهب المفاهيم دون إدراك لمدلولاتها حيث أوضح له ” أنها ألفاظ كثيرة سمعتها لا تعرف معانيها”[8] و”تستعملها في غير مواضعها لأنك لا تعرف مقتضاها، ولوددنا أن الله ييسر لك الهجرة إلينا والمثول لدينا، لتسمع الكلام على حقيقته في معاني الألفاظ وتقيم وجوهها واستعمالها على ترتيبها”[9].
وبالجملة تكشف الرسالة أن الوجود الإسلامي في القارة الأوروبية لم يكن مقبولا من قبل الغربيين، ومع تعذر الإطاحة بالمسلمين عسكريا إذ ذاك لم يكن هناك سبيل سوى إقناعهم بالتخلي عن دينهم واعتناق المسيحية كشرط للبقاء، لكن جهود الإمام الباجي وابن حزم وغيرهما أفسدت ذلك المخطط وحتمت خيار الاستئصال العسكري للمسلمين.
——
[1] القاضي عياض بن موسى اليحصبي، ترتيب المدارك وترتيب المسالك، المحمدية: مطبعة فضالة ،1983 ، 8/119.
[2] أبو الحسن علي بن بسام الشنتريني، الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، تونس: الدار العربية للكتاب، 1978، 3/95.
[3] ترتيب المدارك، 8/122.
[4] ابن حزم، الرد على ابن النغريلة اليهودي ورسائل أخرى، تحقيق: إحسان عباس، القاهرة: دار العروبة، 1960، ص45.
[5] محمد عبد الله الشرقاوي (تحقيق)، رسالة راهب فرنسا إلى المسلمين ورد القاضي أبو الوليد عليها، القاهرة: دار الصحوة، 1986، ص53 .
[6] نفس المرجع السابق، ص72-73.
[7] نفسه، ص74.
[8] نفسه، ص99.
[9] نفسه، ص 71.
——-
* المصدر: إسلام أون لاين.