محمد بن عبدالله الدويش
الدعوة الإسلامية ليست منبراً فكرياً يخاطب الخاصة والمثقفين، وليست مجرد دعوة جماهيرية، وليست مجرد منهج تهذيب سلوكي.. إنها تتجاوز ذلك كله.
إنها دعوة للناس كلهم لأن يكونوا عباداً لله تبارك وتعالى؛ وهذا يقتضي قدراً من الاتساع لميادين الخطاب الدعوي لا يتحقق لأي فكرة أو دعوة.
إن الصحوة الإسلامية اليوم بحاجة إلى خطاب لعامة الناس -أو من يُسمَّون بالجماهير- وبحاجة لخطاب الخاصة -أو من يسمَّون بالنخب- ولكل فئة من هذه الفئات سمات وخصائص تميزها عن غيرها.
فخطاب العامة يحتاج إلى أن تزيد فيه شحنة العاطفة، وإلى أن يدور حول المشكلات والقضايا التي تلامس اهتمامهم، وإلى أن يتسم الخطاب المسموع منه بسمات الجاذبية في الإلقاء والحديث.
وخطاب الخاصة يحتاج إلى أن تزيد فيه اللغة الفكرية والعلمية الناضجة، وأن يرتكز على الإقناع، وإلى أن يسعى إلى تشكيل الاهتمامات وإعادة صياغتها.
وتمثل سعة الانتشار وأرقام توزيع المادة مقياساً مهماً لمدى نجاح الخطاب المقدم للعامة، بينما يخضع الخطاب المقدم للخاصة إلى معايير أخرى.
ربما يكون إدراك هذه القضية ليس أمراً شاقاً، لكن التعامل مع نتائجها هو الأهم؛ ذلك أنه لا توجد حدود صارمة تفصل بين هذين المجالين من مجالات الخطاب.
ومن هذه النتائج في الخطاب الدعوي :
– كثير من جيل الصحوة تمثل المادة المقدمة إلى عامة الناس -بما فيها من جاذبية وتفاعل مع المشاعر- المصدر الأساس الذي يتعامل معه، ومن ثم فإنها تسهم بشكل كبير في تشكيل ثقافته.
وهذا أدى إلى تضييق مجالات الاهتمام حول دائرة محدودة، وإلى زيادة نسبة العاطفة في التفكير، وإلى سطحية في التعامل مع الظواهر والمشكلات، وغير ذلك من الظواهر المرتبطة بنمط الثقافة، مما يفرض السعي إلى تداركه والاعتناء به.
– ثمة عناصر يقتصر نجاحها على أن تجيد خطاب الجماهير واستثارة اهتمامها، إلا أن زخم الخطاب الجماهيري قد يدفع ببعض هؤلاء إلى الولوج إلى دوائر أخرى وقيمة كل امرئ ما يحسن.
– صدور الآراء من أشخاص ذوي تأثير وانتشار يعطيها في الأغلب أكثر من قيمتها العلمية، ويعفيها من كثير من خطوات التأمل والتقويم لدى فئة عريضة من شباب الصحوة، وكثير من هؤلاء قد لايجيدون التفريق بين الشخصيات التي تجيد خطاب العامة، وتلك المؤهلة لأن يبرز رأيُها في قضايا الصحوة، أو قضايا الأمة الشائكة.
– تختلط الأمور لدى طائفة من المتحدثين حديثاً مسموعاً وربما مكتوباً، فيخاطبون العامة بلغة وعقلية الخاصة: “وما أنت بمحدِّثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة”، أو يخاطبون الخاصة بلغة وعقلية العامة، وينتظرون منهم مستوى من التلقي لا يليق إلا بالعامة.
– قد نخلط في معايير تقويم الخطاب؛ فحجم الانتشار وأرقام التوزيع على سبيل المثال من أكثر معايير نجاح الخطاب المقدم للعامة ـ وإن كانت تؤثر فيه اعتبارات أخرى كالدعاية والخلفية عن المتحدث ـ بينما تقل قيمة هذا المعيار في تقويم الخطاب المقدم للخاصة. ومنشأ الخلط أن نقوِّم الخطاب المقدم للعامة من خلال صرامة عقليتنا الفكرية، أو أن نقوِّم خطاب الخاصة من خلال الانتشار أو التأثير العاطفي.
إن استقرار الإيمان بالتخصص، وسعة المجالات، والفصل بين الحكم على ذوات الأشخاص وتقويم نتاجهم، إن ذلك سيعيننا على تجاوز كثير من إشكالات الخلط بين خطاب العامة والخاصة.