القائمة الرئيسية
 الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

الداعية الرحيم

عبد الله المومني

أقصد بالرحمة العلاقة القلبية للعبد بربه.

“الرحمة ما جاء من الله تعالى للعبد هداية كبعث الرسل إليه، والرحمة تعلق القلب بتلك الهداية، والاستمساك بعروتها حتى تنور كيانه ويتمكن في محبة الله _15851_120x100عز وجل، تلك المحبة التي تؤدي للعمل والجهاد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ}.

والرحمة لغة: الرقة، والتعطف. والرحمة: المغفرة: يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}، أي فصلناه هاديا وذا رحمة. يقول الله تعالى: {وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} ويقول تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}، أي عفوه، وعنايته ورعايته.

والله عز وجل سمى نفسه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؛ عظيم الرحمة لا رحيم بعده، دائم الرحمة لا نهاية لرحمته، يريد الخير لعباده، ويراعي سبحانه حاجات النفوس حتى لا تنفر من الخير، أو تستثقل السعي إليه، والعمل، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} .

ولا تزال نفحات رحمة الله تصيب من شاء من عباده، ومن تعرض لها وطلبها وسألها إياه. فقد كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اللهم إني أسألك رحمة من عندك تهدي بها قلبي، وتجمع بها شملي، وتلم بها شعثي، وترد بها ألفتي، وتصلح بها ديني، وتحفظ بها غائبي، وترفع بها شاهدي، وتزكي بها عملي، وتبيض بها وجهي، وتلهمني بها رشدي، وتعصمني بها من كل سوء، اللهم أعطني إيمانا صادقا ويقينا ليس بعده كفر، ورحمة أنال بها شرف كرامتك في الدنيا والآخرة” .

ورسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو الرحمة المهداة، ونبي الرحمة، أرسله الله رحمة للعالمين، بالمؤمنين رؤوف رحيم، يجده كل من صحبه أو رآه أو جالسه رفيقا حريصا صلى الله عليه وسلم.

فعلى الداعية أن يعيد الوصلة بالسيرة النبوية المجيدة، منها يستمد الخبرة والأسوة، منها يستقي الرحمة والحكمة. ولا بد له أن يقطع رباط الإعجاب والانبهار بالنماذج الفتنوية البعيدة عن الأصل الأصيل. وليكن له في جماعة المسلمين الملتفة حول رسول الله صلى الله عليه وسلم المرجعية والصورة التي يعرضها على أنظار الناس ليجعلوها لهم غاية. لأن المجتمع الفاضل الأول كانت الرحمة والمحبة والولاية والتعاطف فيما بين أعضائه السمة الغالبة فيهم، وكانت القاعدة فيه الأخوة والعطاء احتسابا لوجه الله.

ونحن نحتاج في زماننا هذا أن تحتل القيم الإيمانية، والأخوة الإسلامية محل قيم الفتنة في كل مجال لتعود الرحمة فتغطي الكراهية. نحتاج عالما تسوده المودة والعطاء المتبادل، لا النزاع والعداوة. أعضاءه كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.

ولأجل تحقيق هذه الغاية على رجال الدعوة قبل رجال الدولة أن تجتمع فيهم الكفاءتان الإيمانيتان: الرحمة القلبية والحكمة العقلية؛ رحمة في القلب ونورانية وكرامات، وفهم للواقع، وتخطيط للمستقبل وتنفيذ.

 رجال دعوة يتكلمون بالكلمة الهادية الهادئة بدلا من التشدد والتشنج. كان الثوري يقول: ‘إنما العلم الرخصة من تقي، فأما التشديد فكل أحد يحسنه’.

فرجل الدعوة هو النواة التي يلتف حولها المجتمع المنشود إن كان رحيما حكيما محبا لينا، “فمن التحاب في الله واللين للمؤمنين يبدأ التأليف. قال الله تعالى يخاطب رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}” ومن التحاب في الله واللين للمؤمنين تتألف عناصر القوة الجهادية، وعناصر الدفع في وجه العدو. قال تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}. ما قدروا على تلك الشدة إلا بوجود هذه الرحمة .

غير الرحماء لا يصلحون للتأليف بين قلوب الناس ورصهم في بنيان جماعة المسلمين، فقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يريد أن يستعمل رجلا، فجاء ابن لعمر، فقبله، فقال الرجل: إن لي منهم أربعة أو خمسة، ما قبلت منهم صبيا قط، فقال عمر: “أنت بالمؤمنين أقل رحمة، لا تَلِ لي على عمل أبدا”.

غير الرحماء أشقياء، نزعت الرحمة من قلوبهم لتجذر خصال النفاق في نفوسهم. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما نزعت الرحمة إلا من شقي). وقال صلى الله عليه وسلم: (فإن الله نزع الرحمة من قلوب المنافقين، وأسكنها في قلوب المؤمنين). “وأجلى مظاهر النفاق الكذب الكبرى، أي التعاظم واحتقار الناس” [15].

 الرحماء يرحمهم الرحمان، ويرحمهم من في السماء لرحمتهم من في الأرض.

الرحماء يبسطون يد الرحمة للمسلمين، يحملون همومهم، يرعون حقوقهم. ينظرون للخلق بعين الرحمة والشفقة، والتودد، يحسنون الظن بهم، يتحملون الأذى منهم في غير ضعف ولا بلادة، يجزون على السيئة الحسنة، يقولون للناس حسنا، ويعاملونهم بالحسنى. يبرهنون للناس كافة أنهم يريدون استبدال مجتمع العدل والرحمة والكرامة بمجتمع الظلم والعداوة والحقد.

الرحماء يعلمون أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ما هو الدين القيم. يحملون رسالة الله إلى العالمين، يبلغون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالة الرحمة والحكمة.

تخالط بادرة الرحمة بشاشة قلب المؤمن عند توبته، هذه الرحمة تدفعه إلى الناس ليدعوهم إلى الخير. يجب أن تصان هذه البادرة لئلا يدركها الفتور، “فمكان المؤمن مجالس الناس ونواديهم وتجمعاتهم مهما كانت. وكلمته لكل من لقي.. الدعوة إلى الله” [16].

يقول المرشد عبد السلام ياسين حفظه الله: “إن الأمة لا يمكن أن تواجه تحديا الحاضر والمستقبل إن لم تجمع ما فرقته عصور الخلاف. وإنما يمكن ذلك بنصب الجسور، والتعاون الفعلي في جهود البناء، لتكون نتائج البناء المشترك حافزا على توحيد النظرة بعد حين. لا ينبغي أن نؤجل الحوار” [17].

والحوار يحتاج إلى محاور رحيم، مخلص صادق يحرص على ظهور الحق، ويشفق على خصمه الذي يناظره من الضلال، ويخاف عليه من الإعراض والمكابرة، والتولي عن الحق.

محاور يسعى لهداية الآخرين واستقامتهم، فلذلك يبتعد عن كل معاني القسوة والغلظة والفظاظة والشدة. فلا يكون الحوار فرصة للكيد والانتقام، أو وسيلة لتنفيس الأحقاد، وطريقة إظهار الغل والحسد، ونشر العداوة والبغضاء.

والرحمة جسر بين المحاور والمحاور، ومفتح لقلبه وعقله، وكلما اتضحت معالم الرحمة على المحاور كلما انشرح صدر المحاور، واقترب من محاوره، وأذعن له واقتنع بكلامه.

   المصدر: موقع إسلاميات.

مواضيع ذات صلة