القائمة الرئيسية
 الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

الداعية الميداني

رضا بن أحمد الصمدي

إنه الداعية المتحرك في كل صوب، المتقن لدعوته في كل ثوب، إن كان في بيته فنعم العائل والمربي، وإن نزل إلى الشارع وخالط الناس وَسِعَهُم بدعوته، فإن ركب وسيلة مواصلات

لا يترك مجالا إلا ويدعو فيه

لا يترك مجالا إلا ويدعو فيه

تناثرت بركات دعوته على من حوله من الركب، وإذا دخل مصلحة لم يخرج منها إلا بغنيمة دعوية:

نصيحة يسارُّ بها موظفاً، أو موعظة يُسمعها لسافرة، أو كلمة معروف يذكِّر بها من يقف معه في قطار(1)، إنه المبارك في حله وترحاله، كالغيث أينما وَقَعَ نَفَعَ:

فلا مُزْنةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا *** ولا أرضٌ أَبْقَلَت إبْقَالَها

قلبٌ عامرٌ وعقلٌ يثابرُ، وعزمٌ مغامر وإيمان يجاهر، تقي حفي، نقي أبيّ، جبهته شمَّاء، كبرياءُ دينه بلغ عنان السماء، ونفعه متعد، وخيره عام، يتجذر هداه في كل أرض أقام فيها، ويينع غرسه حتى في الأرض القاحلة، تنداح جحافل وعظه كالسيل العرم تذهب بكل سد منيع جاثم على قلوب الغافلين، إذا قال أسمع، وإذا وعظ أخضع، دؤوب الخطو بدهي التصرف، إذا اعترضته العوائق نظر إليها شَزْراً وقال: أقبلي يا صعاب أو لا تكوني، محمديُّ الخُلُق، صدِّيقيُّ الإيمان، عُمَريُّ الشكيمة، عثمانيُّ الحياء، علويُّ الصلابة، فُضَيْليُّ العَبْرة، حنبليُّ الإمامة، تَيْمَوِيُّ الثبات.

إنه الداعية الذي لا تعوقه عوائق الكون عن القيام بواجب الدعوة أينما كان، إذا حيل بينه وبين الدعوة فكأنما أخرجت سمكاً من ماء، أو أسكنت بشراً في الصحراء، حركي كالنمل والنحل لا يعرف القرار.

إنه الداعية الفصيح، جنانه حاضر، وبديهته كالبرق الخاطف، ولسانه لا يفتر عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير، وما عدا ذلك فذاكر شاكر، أو صامت صابر.

إن مظهره متناسق مع وظيفته السرمدية، هندام نظيف ومتواضع، وهيئة تقية، وإخبات غير متكلف، إذا رآه الخلق ذكروا الله تعالى.

وهو داعية متعالٍ على السفاسف، لا يستنكف عن فعل الخير وإن استهجنه الناس، إنه لا يأنف من إماطة الأذى عن الطريق، يسلّم على من عرف ومن لم يعرف، يبتسم في وجوه الناس أجمعين، ويحفظ حشمته من نزق الطائشين وسمود العابثين.

مستعد للدعوة في كل ميدان، إذا فتشت حقيبته وجدتها مليئة بالحلوى والكتيبات والهدايا الصغيرة غير المكلفة. يصطحب معه في سيره أشرطة القرآن الكريم وأشرطة الدعاة والخطباء والوعاظ وغير ذلك مما يناسب أسلحة الداعية الميداني.

يستخدم الهدايا في التعارف، والكتيبات في التأليف والوعظ والإرشاد مع دعوة لحضور محاضرة أو خطبة.

إذا ما ألقى السلام فكأنك تسمع ترنيمة كونية تطرب لها أذناك، ذاك صوت الداعية الشجي، فإذا ما رأيته أقبل بوجهه الضحوك وسلامه المرونق ذكَّرتك اللهَ رؤيته.

لقد وقع القلب في شَرَك هذا الداعية، واشتبكت القلوب المؤمنة وائتلفت، والتقت العيون والمقل، فإذا أدْمُعُ الخوف من الله تتعرف على نفسها، حتى إذا ما سكب ذلك الداعية الميداني كلمات الود والمحبة في الله، والتقت إرادة الله بالهداية أبصرت الهوى صريعاً في ساحته، والقلب تتهاوى شهواته وغرائزه أمام هذا السيل الدافق من فيض الإيمان والتقى، وكأنك بالشيطان رابض ينادي بالويل والثبور: وَيْلي وَيْلي قد اختطفه فلان الصالح مني!

ولنحاول صياغة بعض وظائف هذا الداعية الميداني واستعداداته وصفاته في نقاط مركزة فيما يلي:

1- داعية مخلص يمحص النية قبل العمل، ولا يعتذر عن أي جهد يستطيع القيام به بزعم العجز أو خوف الرياء، بل يتعلم ويعالج الهوى ويخوض غمار التكليف مملوء الثقة بمعونة الله وكلاءته.

2- لا يبخل على الدعوة بأي مجهود أو طاقة؛ فأينما دعاه داعي البذل شمر، لا يدخر وقتاً خاصاً للدعوة، بل أصل عمره موقوف للدعوة إلى الله تبارك وتعالى.

3- يهتم بالمظهر الذي له دور في التأثير على الناس، هندامه محترم، منظم الخطوات، رشيق العبارة (ينتقي الألفاظ ولا يلقيها خبط عشواء)، يخلب اللب إذا تحدث أو وعظ أو حاضر أو نصح، طيب الرائحة، حلو المعشر، طلق الوجه متبسمة.

4- مستعد لكل موقف؛ فلديه الأساليب الجاهزة لغزو القلوب، والطرق المنمقة لاستمالتها، والأسلحة الفتاكة في محاربة هوى النفوس، والمغريات الشرعية في جذب الشاردين.

5- يتفانى في تقديم كل معونة للرقي بحال المدعوين إلى أي مستوى ينقذهم من نفوسهم الأمارة بالسوء وشياطينهم الغوية أو أعداء ملَّتهم المتربصين بهم.

6- يترقب الفرص ويسعى إليها ولا ينتظر مجيئها إليه، يباغت المواقف ولا يكون هو رد فعل لها، لا يترك فرصة لما يسميه الناس المصادفة أو الفجأة، بل تراه بدهياً مستعداً لكل موقف بما يناسبه.

7- يتجاوب مع المشكلات التي تهدد المجتمع المسلم، ولا يشغل نفسه بتوافه الأمور وسفسافها، يقيم لأولويات الدين قسطاساً مستقيماً يضبط اهتماماته، ويوجه تحركاته، يتعامى عن أذية المغرضين وسفه المستهزئين، يمضي إلى هدفه غير ملتفت، قد أرَّقه حال الإسلام والمسلمين، وأفزعه طرق العدو لأبواب الحصون؛ فكأنه في رباط ينافح عن ثغر مثلوم يرد العدو من قِبَله.

8- يستعين بكل الإمكانات المتاحة، ويستغل الظروف لصالحه، لا يلعن الظلام ولكنه يشارك في إيقاد شمعة، إذا قصَّرَتْ به وسيلة نزل إلى التي دونها، حتى لو لم يجد إلا لسانه أو الإشارة باليدين لاستعملهما متوكلاً على الله الهادي إلى صراط مستقيم.

9- من أكثر سمات الداعية الميداني جدية أنه يعمل في صمت، ويُؤْثِر العمل الدؤوب على الثرثرة والتفيهق، ليس بالمنان ولا بالعجب.

وبهذه الصفة الأخيرة نختم ناقلين قول بعض السلف: «ما ادَّعى أحد قط إلا لخُلُوِّهِ عن الحقائق، ولو تحقق في شيء لنطقت عنه الحقيقة وأغنته الدعوى».

—————

(1) القطار: هو في اللهجات العامية: (الطابور).

———

المصدر: موقع إسلاميات.

مواضيع ذات صلة