د. محمد أحمد عزب (خاص بمهارات الدعوة)
الذين يحملون همَّ الدعوة ويتحركون بها أصناف شتى من الخلق؛ إذ الدعاة هم خلائق شتى، لا يقتصر التعريف بهم على المسجلين في كشوف الهيئات والمؤسسات الراعية للمساجد؛ فالدعوة مجال يرتاده من شاء وفق ضوابطه وحدوده، فهي ساحة رحيبة واسعة، يتحرك فيها كل شخص يستشعر مسئولية تجاه دين الله تعالى الذي سيُسأل عنه لا محالة يوم القيامة: ماذا عملت لهذا الدين؟ فهي لا تتوقف على طالب علم في مؤسسة دينية.
تصادف الدعوة أخلاطًا من الدعاة مختلفين، منهم السهل السمح لين العريكة، ومنهم الصعب الوعر الجاف، وبينهما أصناف شتى، وطبائع وسجايا متعددة.
يتطلع الداعية دائما إلى النجاح، وكلما كسب في طريق دعوته روادًا وطلابًا وسعاة للهداية أشرقت نفسه، وانفرجت أساريره؛ فطبيعة النفس تواقة للنتائج والثمار والآثار.
تعاني الدعوة عند بعض حملتها من جفوة وجفاء تتسم به نفوس بعضهم، وغضب مكتوم في دواخلهم، وثورة طافحة تتبدى في أصغر المواقف، وفورة نفس يجليها إشاحة طفل.
كان نبينا صلى الله عليه وسلم يحمل همومًا تنوء بحملها الجبال، وكان دائم الاستعاذة من الهم والحزن، كانت همومه لهداية الناس وإدخالهم في دائرة الحق تبلغ درجة لا مثيل لها، تحدث القرآن عن حرصه صلوات ربي عليه على هداية الناس، وكيف عظم في نفسه صدودهم وصدوفهم عن الحق وتوليهم عنه، كان في حياته الشخصية يجوع زمنا ليس بالقصير، وربما خرج يبحث عمن يضيفه، فقد خرج يومًا قد بلغ به الجوع مبلغه، وذهب هو وصحبه إلى أبي الهيثم بن التيهان لينال عنده بعض الطعام (الترمذي (2369) وصححه الألباني). وكان يقوم من الليل أكثره، لكن رغم هذا كله يقول الحسين رضي الله عنه: “سألت أبي عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في جلسائه، فقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم دائم البشر، سهل الخلق لين الجانب، ليس بفظٍّ ولا غليظٍ ولا صخابٍ، ولا فحاشٍ، ولا عيابٍ، ولا مداحٍ، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يؤيس منه، ولا يجيب فيه“([1]) وانظر إلى قوله: “في جلسائه” أي مجتمعه المحيط به، ثم انظر إلى وصفه له بأنه صلى الله عليه وسلم: كان دائم البشر، فسماحة وجهه وإشراقه بالبشر والبسمة سمة لا تفارقه، ثم كان يشارك أصحابه في مجتمعهم، يقول الواصف فيه: “يضحك مما يضحكون منه ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته”([2]).
البسمة طريقك للقلوب
إن الداعية يحتاج إلى إيجاد البسمة في كل موقف، يحتاج لإيجاد البسمة وهو يدلل على كلامه يحتاج لها وهو يناظر، يحتاج لها وهو يلقي خطبته أو درسه أو كلمته، أما التوقف عند أحاديث وآثار تحذر من الضحك، فهي محمولة على الإيغال لا على البسمة والطرفة.
إن الكآبة والاكتئاب، والهيبة الفارغة التي تصاحب العبوس، والتي يتلحف بها بعض الدعاة لا تفيد في طريق الدعوة، ولا تنفع الداعية قطُّ، فالبسمة الصافية في طريق الدعوة تذيب جبال الحجارة التي قد توجد في قلوب بعض المدعوين، وهي عون على البلاغ المبين، وهي من أبسط الوسائل في البيان، ومن حرم بسمة الدعوة فليعلم أنه كالمحلق بلا جناح يوشك أن يسقط.
لكن صناعة البسمة فن وحيلة ذوي الفطانة، كيف يصنع من القول طرفة، ومن الموقف بسمة، كيف يوظف القصص الباسمة في بيانه وكلامه، وانظر إلى داعية أراد أن يدلل إلى خطورة الكلمة وهو يشرح قوله صلى الله عليه وسلم الذي رواه مالك في الموطأ: “إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه“([3]).
فذكر للتدليل على ذاك ما جاء في قول الأعرابي: “اللهم اغفر لي وحدي. فقيل له: لو عممت بدعائك؛ فإن الله واسع المغفرة، فقال: أكره أن أثقل على ربي“([4]) ففي كلام الأعرابي ما فيه من المخالفة، مما يدخل تحت التحذير الوارد في الحديث، لكن فيه ما فيه من الطرافة، وإنما يُعتذر عن قائله بكونه مغفلًا لا يدرك كنه قوله لضيق أفقه.
وربما تناول الداعية ما جاء من الذكر عند اشتداد الريح، ثم في ثنايا شرحه أو توجيهه يذكر ما ورد عن بعضهم لما هبت ريح شديدة اضطرب الناس منها وفزعوا للتوبة، فقال لهم قائلهم: “لا تتعجلوا التوبة، إنما هي زوبعة وتسكن”([5])!
إنها كلمات جوفاء لو وزنت بميزان الشرع لربما وجد العابس فيها مروقًا، لكنها في باب الطرف والمُلح وتجديد نشاط السامع تعين على توصيل القضية للسامع، وتجد نشاطه وحيوته، وتوقفه على مكمن الأمر بسلاسة وبساطة، وتجلي له المقصود بأيسر قصة وأقربها لعقله.
إن الدعوة تحتاج اليوم من حملتها بل وكل يوم إلى نفس سمحة ووجه لا يتلبد بالغيم، ونفس تكتم الغيظ وتظهر البشر، إنها بحق تحتاج إلى ما يمكن أن نطلق عليه: الخروج عن النص للتدليل على النص، تحتاج إلى استلهام واقع المجتمع المسلم للانتقال من ممارساته إلى ممارسات شبيهة، فالمذموم هو الضحك المصحوب بالصخب، ومن الاعتداء والتعدي جعل ذلك ينطلق إلى البشر والبسمة، ومن الوهم جعل العبوس دليل الهيبة وتاج الوقار، فإن العابس ربما كسب نفسه وخسر أكثر المحيطين به، وإنما تؤتى الدعوة أحيانا من سوء عرضها، أو من جهامة الحاملين لها، الصادفين عن الابتسام، المجافين للبِشْر والبشر.
([1]) شرح السنة، للبغوي (13/ 274)
([2]) الشمائل المحمدية (ص: 291).
([3]) الموطأ، برقم (1781)، ونحوه في البخاري برقم (6113).