القائمة الرئيسية
 الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

الداعية ومخالطة الناس والصبر على أذاهم

هند بنت مصطفى شريفي

مخالطة الداعية للناس

مخالطة الداعية للناس ضرورة دعوية واجتماعية

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: الإنسان مدني بالطبع، ولا بد له من أن يعيش مع الناس، والناس لهم إرادات وتصورات واعتقادات، فيطلبون منه أن يوافقهم عليها، فإن لم يوافقهم آذوه، وإن وافقهم حصل له الأذى إن كانت على باطل، ولا ريب أن ألم المخالفة لهم في باطلهم أيسر وأسهل من الألم المترتب على موافقتهم[1].

وليقوم الداعية المسلم بمهمته، لا بد له من مخالطة الناس، حتى لو نتج من جراء ذلك مشقة أو تعرض لأذى، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم “أفضلية من يخالط الناس، مخالطة يأمرهم فيها بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويحسن معاملتهم، فإنه أفضل من الذي يعتزلهم، ولا يصبر على المخالطة، والأحوال تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان، ولكل حال مقال”[2]، فقال صلى الله عليه وسلم: “المسلم إذا كان مخالطاً الناسَ ويصبر على أذاهم، خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم”[3].

وتتضح أهمية مخالطة الداعية للناس في النقاط الآتية:

  • إن الواقع الذي يعيشه الناس يثبت ضرورة المخالطة حتى يتمكن الإنسان من تلبية مطالبه واحتياجاته الأساسية، ويتمكن من تحقيق أهدافه، وهداية الناس من أهداف الداعية الأساسية، وطريق ذلك اختلاطه بالمدعوين.
  • إن مخالطته لهم، هي مخالطة دعوة وتوجيه، ونصح وتعليم، وتأليف وأخوة، فعندما يتلقى الناس الدعوة ممن يعيش معهم واقعهم، ويشاركهم آمالهم وآلامهم، فإن ذلك أدعى لاستجابتهم له، والداعية الذي آتاه الله العلم ورزقه الحكمة في الدعوة، مع الإخلاص له تعالى، يعلم أن أفضل الأعمال وأحبها إلى الله، ما أفضى إلى مرضاته، ويعلم أن قيامه بالدعوة إلى الله تفتح له أبوب عديدة لتحصيل الأجر، لتعدي نفعها للناس، وذلك خير له من القيام بالعبادات التي يقتصر نفعها عليه.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “والعالم الذي يعرف السنة والحلال والحرام، وطرق الخير والشر: مخالطة الناس وتعليمهم ونصحهم في دينهم، أفضل من اعتزاله وتفريغ وقته للصلاة وقراءة القرآن والتسبيح”[4].

  • إن مخالطته للناس تعرفه بعاداتهم وأخلاقهم، ومواطن الضعف والقوة فيهم، وينكشف له ما يشيع بينهم من معروف ومنكر، فيتيسر له القيام بالاحتساب عليهم، ولو أنه بقي في منزله، مغلقا بابه لما أدرك وعلم ما يشيع بين الناس من المنكرات، فمخالطته لهم تجعله يقوم بالدعوة على علم وبصيرة بأحوالهم، ويكون هو العنصر المؤثر في المجتمع.
  • إن الناس جُبلوا على حب من يجلب لهم النفع، ويدفع عنهم الشر، دون أن تتعلق مصلحته بأي منهما، بل احتسابا لوجه الله، ولن يتمكن الداعية من خدمة الناس وقضاء حوائجهم، من خلال ترديد الكلام فحسب، بل أنه في كثير من الأحيان تحول هموم الناس ومشاكلهم، بينهم وبين التلقي منه، وتصبح هذه الهموم سدا منيعا في وجه الدعوة، فهنا على الداعية أن يبذل ما يستطيع من جهد لإزالة هذه العوائق من طريق دعوته، وذلك كله لا يتم إلا بمخالطته للناس في مجتمعه.
  • إن الأخوة الإسلامية نفسها، تقوم على الحب في الله، والبغض في الله، ولا يمكن أن تتحقق على أرض الواقع، ويتحقق نقلها من حيز الادعاء إلى حيز التطبيق، إلا من خلال المخالطة وقضاء حاجات الناس ومعايشتهم، فإذا قامت هذه الوشائج بين الداعية وبين الناس تحقق التأثر، ونجحت الدعوة وآتت أكلها بإذن الله[5].
  • كما أنها تعين المسلم على اكتشاف أبعاد شخصيته ومعالمها، وما تنطوي عليه من كمال أو ضعف، فيعينه ذلك على إصلاح نفسه، وتقويم قصوره وعوجه.
  • إنها سبب في تجديد نشاط الداعية مما يقوي عزيمته ويعلي همته ويضاعف جهوده[6].

ولقد كانت مشاركة الناس معيشتهم ومجالسهم والتحدث إليهم والسماع منهم، هو ديدنه صلى الله عليه وسلم في معظم أحواله، حتى نقل الصحابة لنا أدق الأمور والتفاصيل في حياته.

وبعد الفتح والتمكين، استمر عليه الصلاة والسلام على نفس المنهج، فلم يعتزل الناس، أو يغلق دونهم باب قصر أو بيت، بل إنه يخالط الناس كلهم بجميع طبقاتهم، بلا إهمال لأحد منهم، أو تمييز بين غني وفقير، أو حر وعبد، فدعوته للناس كافة، بل إنه لا يستهين حتى بالأطفال الصغار، حين أحضرهم أهلوهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فمسح على رؤوسهم، فأطفال اليوم هم رجال الغد، ولم يهمل النساء، فهن شقائق الرجال، ولم يفرق في الدعوة بينهن وبين الرجال، بل أفردهن ببيعة خاصة.

وإن من الخطأ أن ينقطع الداعية في مسجد أو زاوية ويحبس نفسه في بيته، ويمتنع عن الخروج، ويظن أن في خروجه ومخالطته للناس تبذلا لهم، يسقطه من أعينهم، ويذهب هيبته من قلوبهم، فإن ذلك من كيد الشيطان ومكره[7]، ومدخلا واسعا لظهور الكبر والعجب في أخلاقه ونفسه مما يحبط عمله.

كما أن استنكاف الداعية عن الاختلاط بالناس، بحجة بعدهم عن الإسلام وكثرة انحرافاتهم، سيزيد المشكلة تعقيدا، ويوسع الهوة بين هؤلاء وبين الإسلام، وإذا كان الناس مرضى، واستنكف الطبيب عن معالجتهم، فإن المرض سوف يستفحل، وقد يقتل الطبيب نفسه، فضلا عن المريض[8].

———

[1] بتصرف، إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان 2/193.

[2] سبل السلام شرح بلوغ المرام 4/211، وانظر تحفة الأحوذي 7/210.

[3]سنن الترمذي كتاب صفة القيامة باب 55 4/663 ح 2507، وشرح السنة 13/163 ح 3585، وسنن ابن ماجه كتاب الفتن باب الصبر على البلاء 2/1338 ح 4032، وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 2/373 ح 3257.

[4] عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين ص 93، تصحيح: زكريا علي يوسف دار الكتب العلمية لبنان ط: بدون.

[5] بتصرف، فقه الأخوة في الإسلام: د. علي عبد الحليم محمود ص 128،دار النشر والتوزيع القاهرة، ط: بدون. وانظر الاستيعاب في حياة الدعوة والداعية ص 62 -64، والدعوة قواعد وأصول ص 239.

[6] للاستفادة انظر توجيهات نبوية على الطريق من ص 344- 352.

[7] بتصرف، إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان 2/121.

[8] بتصرف، الاستيعاب في حياة الدعوة والداعية ص 111.

——-

المصدر: الألوكة.

مواضيع ذات صلة