تاريخ النشر الأصلي 2014-01-05 21:01:31.
غادة العزب
مع كثرة المتغيرات المحيطة بواقعنا العربي ظهرت العديد من الآراء والاتجاهات المختلفة وأحياناً المتنافرة وعجت الساحة بالمؤيدين
والمعارضين لكافة التيارات والأيدلوجيات، إلا أنه –مع الأسف– كثيراً ما صاحب هذا الاختلاف نزاع وشقاق بل ودعوات للإقصاء وأحيانا للتكفير، مما دفعنا للتساؤل هل هناك حل جذري لهذه الخلافات ورأي يمكن توحيد الأطراف المختلفة عليه أم أن الاختلاف ضرورة لا يمكن تجنبها؟ وإن كان ولا بد من الاختلاف فعلام يقوم هذا الاختلاف بحيث لا يتحول الأمر إلى فرقة وشتات؟
وفي بحثنا هذا محاولة للإجابة عن هذه الأسئلة تبدأ بتعريف الاختلاف ومدى لزومه للبشر وتسعى لاستنباط الدعائم الفكرية للاختلاف من النصوص القرآنية وصحيح السنة مع الاستعانة بسيرة الصحابة والأئمة وتفاسير العلماء وطرحهم في هذا المجال.
والاختلاف هو عدم الاتفاق أو عدم التساوي[1]. وقد ورد لفظ الاختلاف أكثر من مرة في القرآن الكريم تارة بمعنى التباين والمغايرة {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ}[2] وتارة أخرى بمعنى التنوع {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}[3].
هل الاختلاف ضرورة؟
الاختلاف سنة كونية، فالله هو الواحد والوحدة مقصورة على ذاته الكريمة وما دونه من خلق ومخلوقات متعدد في الأنواع والأشكال والصفات والطباع. وعليه فالاختلاف فطرة وطبيعة في البشر وهو ما تخبرنا به الآية الكريمة {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاّ مَن رّحِمَ رَبّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}[4] ويفسرها صاحب المنار بقوله: “خلقهم مستعدين للاختلاف والتفرق في علومهم ومعارفهم وآرائهم وشعورهم وما يتبع ذلك من إراداتهم واختيارهم في أعمالهم ومن ذلك الدين والإيمان والطاعة والعصيان”[5].
وبغير الاختلاف لكان الناس بعقل رجل واحد ولما تمايزت الأمم مما يعطل شريعة الله واستخلاف الإنسان في الأرض. وفي هذا يقول سيد قطب مفسراً لقوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ}[6]: “إن من طبيعة الناس أن يختلفوا لأن هذا الاختلاف أصل من أصول خلقتهم يحقق حكمة عليا من استخلاف هذا الكائن في الأرض والاختلاف في الاستعدادات والوظائف ينشئ بدوره اختلافا في التصورات والاهتمامات والمناهج والطرائق. ولقد كانت الحياة كلها تأسن وتتعفن لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض، ولولا طبيعة الناس التي فطرهم الله عليها أن تتعارض مصالحهم واتجاهاتهم الظاهرية لتنطلق الطاقات كلها تتزاحم وتتغالب وتتدافع فتنفض عنها الكسل والخمول، وتظل أبداً يقظة عاملة مستنبطة لذخائر الأرض وفي النهاية يكون الصلاح والخير والنماء”[7].
إلا أنه ليس كل الاختلاف محموداً؛ فهناك من الاختلاف ما يوحي بالتكامل والتناغم وغيره مما يدفع للشقاق والنزاع. وللاختلاف المحمود شروط ودعائم بمراعاتها يتحقق الهدف من التدافع ويتم عمران الأرض وبدونها يتحول الاختلاف إلى نقمة تسعى لإقصاء وإفناء الآخرين في تعصب وجاهلية تحت ستار امتلاك الحقيقة أو في أحسن الفروض البحث عنها.
الدعائم الفكرية للاختلاف
1- الاختلاف في الفروع:
أول الدعائم أن يكون الاختلاف في الفروع وليس في الأصول، وقد عرف الإمام أبو حامد الغزالي الأصول بأنها ثلاثة: “الإيمان بالله وبرسوله وباليوم الآخر وما عداه فروع”[8]. وأضاف ابن عاشور إلى هؤلاء ما اجتمع عليه الناس أنه من أصول الدين وذلك في تفسيره للآية: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}[9]؛ حيث قال: “وتفريق دين الإسلام هو تفريق أصوله بعد اجتماعها… وأمّا تفريق الآراء في التّعليلات والتَّبيينات فلا بأس به، وهو من النّظر في الدّين: مثل الاختلاف في أدلّة الصّفات، وفي تحقيق معانيها، مع الاتّفاق على إثباتها. وكذلك تفريق الفُروع: كتفريق فروع الفقه بالخلاف بين الفقهاء، مع الاتّفاق على صفة العمل وعلى ما به صحة الأعمال وفسادها. كالاختلاف في حقيقة الفرض والواجب”[10].
2- تحديد المرجعية:
فالاختلاف من غير مرجع لا يؤدي إلا إلى خلاف آخر، وبتحديد المرجعية يسهل تحديد النقاط المتفق عليها والتي يمكن التعاون فيها والوقوف عندها إذا احتدم الخلاف. ومرجعية أمة الإسلام في المسائل الشرعية هي القرآن والسنة {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}[11]، وفيها يكون التركيز على المحكمات لا المتشابهات. أما في غيرها من شئون الحياة، فيجب أن تكون هناك نصوص أو قيم محددة يؤطر من خلالها الاختلاف.
3- التركيز على الهدف:
كلما كبرت الغاية قل الاختلاف، وكلما خلت النفوس من الأهداف الكبرى غرقت في بحور الجدل وتنازعت حول المسائل الفرعية الهامشية. عدم وضوح الهدف يؤدي إلى سلسلة لا نهائية من الجدل كذلك فالاختلاف في صغائر الأمور لا طائل من ورائه سوى إضاعة الوقت لذلك غضب ابن عمر عند سؤاله عن دم البعوض يكون في ثوب الرجل[12].
4- بناء الاختلاف على الدليل والحجة:
تحذرنا الآية الكريمة {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}[13] من الخلاف غير المبني على حجة شرعية ولا على أصول صحيحة. ويدخل في ذلك من يأخذ ببعض الكتاب، ويدع بعضاً أو يضخم بعض الأمور على حساب بعضها الآخر؛ ولهذا قال الله سبحانه (زبرا) إشارة إلى التنازع المبني على الادعاء العلمي أو الركون إلى أصل صحيح، لكن أسيء أو تجوز به حده[14].
5- الأخذ عن أهل العلم:
لا يؤخذ العلم إلا ممن تحقق منه، وشروط العالم أن يكون: عارفاً بأصول العلم وما ينبني عليه، قادراً على التعبير عن مقصوده فيه، عارفاً بما يلزم عنه، قائماً على دفع الشُبه الواردة فيه. غير أنه لا يشترط السلامة عن الخطأ البتة ولا يقدح في كونه عالماً ولا يضر في كونه إماماً يقتدى به[15]، ويجب أن ننأى بمن ليس من أهل العلم عن الدخول في مسائل الخلاف والترجيح بين الأقوال تحقيقاً لأمر الله تعالى {ولا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم}[16].
6- الوضوح والدقة في العبارات:
هناك من الألفاظ ما يختلف معناه باختلاف السياق ومثال ذلك كلمة “كفر” التي وردت في القرآن الكريم بمعنى جحود وجود الله أو جحود الأنبياء والرسالة وساقها الرسول عليها الصلاة والسلام بمعنى النكران في قوله “يكفرن العشير”[17] . وعليه يجب الالتزام بمعان واضحة ومتفق عليها للعبارات، كما يجب التعويل على المفاهيم المصرح بها وليس على النوايا الخفية وراءها أسوة بحديث الرسول الكريم “أفلا شققت عن قلبه”[18]
7- رجحان أحد الآراء لا ينفي الحكمة عن الآخر:
ويخبرنا بذلك القرآن الكريم في سورة الأنبياء: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}[19]؛ فالآية تدلنا على صدور حكمين – كلاهما صواب – إلا أن الأول راعى العدل فقط بينما أضاف الآخر إلى العدل البناء والتعمير فكان أولى دون نفي الحكمة عن الأول[20]. وعلى غرار هذا قال عمر بن الخطاب: “ليس هناك رأي بأدلى من رأي، وليس هناك فهم بأدلى من فهم حتى لو كان رأي عمر ورأي زيد بن ثابت”[21] . وعليه يجب احترام الرأي الآخر واحترام صاحبه وعدم تحقيره أو السخرية منه ويرشدنا لذلك نبي الهدى بقوله: “بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم”[22].
8- الاختلاف لا يفسد للود قضية:
وتسليمنا بما سبق يقودنا لرفض أن يتحول الاختلاف إلى نزاع. فقد قال الله عز وجل: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[23]؛ ذلك أن يكون الحق هو هدف الاختلاف وليس العصبية أو الهوى، وقد اختلف عمر وابن مسعود في 100 مسألة وما نقص من حب أحدهما لصاحبه[24]، وقال أبو حنيفة: “هذا الذي نحن فيه رأي ولا نجبر أحداً عليه. إنه أحسن ما قدرنا عليه، ومن جاءنا بشيء أحسن منه قبلناه”[25]، وكما يصح ذلك في الأمور الشرعية، يصح أيضاً في الأمور الدنيوية، كما يقول الإمام الأصولي ابن برهان: “فإن الشرائع سياسات يدبر الله بها عباده، والناس مختلفون في ذلك بحسب اختلاف الأزمنة، فلكل زمان نوع من التدبير وحظ من اللطف والمصلحة تختص به، كما أن لكل أمة نوعا من التدبير يصلحهم وإن كان ذلك مفسدة في حق غيرهم”[26].
9- الحوار بالتي هي أحسن:
قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[27]؛ فعلى المخالف أن يختار أرق التعبيرات وألطفها في مخاطبة الطرف الآخر؛ فهو أقرب إلى تأليف القلوب، وأجدر أن يثير التفكر، ويقود إلى الاقتناع، وقد نهى عليه الصلاة والسلام الصحابة عن تدبر القرآن إذا ما اختلفت قلوبهم “اقرءوا القرآن ما ائتلفت قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا عنه”[28].
10- الإنصاف:
وهو أن تنزل الآخرين منزلة نفسك في الموقف وله معايير وتطبيقات منها:
• أن ما ثبت بيقين لا يزول إلا بيقين.
• أن الخطأ في الحكم بالإيمان أهون من الخطأ في الحكم بالكفر.
• أنه لا تأثيم ولا هجران في مسائل الاجتهاد.
• أن تقبل ما لدى خصمك من الحق والصواب حتى لو كان فاسقا أو مبتدعاً أو كافراً.
• ألا يكتم العالم من الحق الذي يعلمه شيئاً؛ فإن هذا شأن أهل البدع يكتبون الذي لهم، ولا يكتبون الذي عليهم.
• أن تلتمس العذر للمخالف إما لجهله بحقيقة ما، أو لاجتهاده حسب رؤيته، أو لاختلاف العلماء في موضع النقاش.
11- المعيار هو الصواب والخطأ وليس الكفر والإيمان:
وأخيراً فإن معيار الخلاف –فيما عدا الأصول– هو الصواب والخطأ والنفع والضرر وليس الكفر والإيمان. وفي ذلك يقول حجة الإسلام الغزالي: “واعلم أنه لا تكفير في الفروع أصلا إلا في مسألة واحدة، وهي أن ينكر أصلا دينيا علم من الرسول صلى الله عليه وسلم بالتواتر لكن في بعضها تخطئة كما في الفقهيات، وفي بعضها تبديع كالخطأ المتعلق بالإمامة وأحوال الصحابة. واعلم أن الخطأ في أصل الإمامة وتعينها وشروطها وما يتعلق بها لا يوجب شيئا منها تكفيرا. والمبادرة إلى التكفير إنما تغلب على طباع من يغلب عليهم الجهل”[29]، ولنا في سيدنا علي بن أبي طالب أسوة؛ إذ رفض تكفير الخوارج رغم محاربته لهم وخروجهم عليه.
الهوامش:
1. انظر لسان العرب ، القاموس المحيط
2. الزخرف : 65
3. فاطر : 27-28
4. هود : 118-119
5. تفسير المنار – محمد رشيد رضا
6. البقرة : 251
7. في ظلال القرآن – سيد قطب
8. الاقتصاد في الاعتقاد – أبو حامد الغزالي نقلاً عن الإسلام والتعددية الاختلاف والتنوع في إطار الوحدة – د. محمد عمارة
9. الأنعام : 159
10. انظر تفسير الآية في التحرير والتنوير – ابن عاشور
11. الشورى : 10
12. أخرجه البخاري
13. المؤمنون : 53
14. كيف نختلف – د. سلمان العودة (بتصرف)
15. أدب الاختلاف في مسائل العلم والدين – محمد عوامة
16. الأسراء : 36
17. أخرجه البخاري
18. رواه مسلم
19. الأنبياء : 79
20. انظر تفسير “في ظلال القرآن” للآية
21. أدب الخلاف والاختلاف في الإسلام – عبد العزيز الشناوي
22. رواه أبو داود
23. الأنفال : 46
24. أدب الخلاف والاختلاف في الإسلام – عبد العزيز الشناوي
25. نقلاً عن الإسلام والتعددية الاختلاف والتنوع في إطار الوحدة – د. محمد عمارة
26. المرجع السابق
27. النحل : 25
28. رواه البخاري
29. التعددية الرؤية الإسلامية والتحديات الغربية – د. محمد عمارة
المراجع:
1. تفسير المنار
2. في ظلال القرآن
3. التحرير والتنوير
4. الإسلام والتعددية الاختلاف والتنوع في إطار الوحدة – د. محمد عمارة
5. كيف نختلف – د. سلمان العودة
6. أدب الخلاف والاختلاف في الإسلام – عبد العزيز الشناوي
7. أدب الاختلاف في مسائل العلم والدين – محمد عوامة
8. التعددية الرؤية الإسلامية والتحديات الغربية – د. محمد عمارة
9. أدب الاختلاف – عبد الله بن بيه
10. الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم – د.يوسف القرضاوي.
———-
* المصدر: يقظة فكر (بتصرف يسير).