شريف عبد العزيز
حديث النهوض والإصلاح حديث ذو شجون عند سائر المهتمين بأمر الأمة الإسلامية؛ من مصلحين ودعاة ومفكرين وعلماء، وحتى عند عموم المسلمين من الغيورين والراغبين في رؤية أمتهم تتعافى من أزمتها وتنهض من كبوتها بعد عهود طويلة من الانحطاط والتخلف عن قيادة الركب، فرغم تعرض الأمة للعديد من النكبات العامة مثل الحروب الصليبية والغزو التتاري والتحالف الأوروبي والحملات الاستعمارية إلا أنها ظلت متمسكة بقيمها ومبادئها الأساسية التي حافظت على هويتها، وشكلت وعيها الذي صمدت به أمام هذه النكبات والتحديات الخارجية، ولما تخلت الأمة عن قيمها ومبادئها وانهزمت أمام تيارات التغريب والغزو الثقافي الكاسح أخذت زاوية السقوط في الانفراج سريعا حتى وصلنا إلى هذا المستوى المروع من السقوط والذي يلمسه ويشعر به آحاد المسلمين فضلا عن خاصتهم من الدعاة والمصلحين والمفكرين.
والمسئولية الأولى نحو بناء نهضة المجتمع تقع على عاتق الدعاة والمصلحين، وذلك بإيجاد حالة عامة من الوعي والاستنارة لدى جماهير الأمة بمشاريع النهضة ومقوماتها وثقافتها وبيئتها ومتطلباتها؛ ذلك لأن قناعات الناس بحاجتهم للنهوض والتقدم تعتبر بمثابة خطوة البدء نحو تحملهم مسئوليتهم حيال نهضة أمتهم، فلا بد لهم أن يعرفوا الفارق بين النهضة وثقافتها وبيئتها، وأن أصعب بنود النهضة هو بناء البيئة الملائمة لهذا النهوض، فالتثقيف هو مسئولية النخبة أما بناء البيئة فتحتاج جهود كل العقلاء والراشدين مهما كانت وظائفهم أو مراكزهم.
وبما أننا دعاة وعلينا مسئولية مخاطبة الجماهير بشتى شرائحهم، فلابد من تقنين خطابنا الدعوي عن بيئة النهضة في المجتمعات المسلمة، فلابد من أن يكون الحديث عن النهضة مؤطرا بالسياج العقائدي والأخلاقي والسلوكي والقيمي الإسلامي، وإلا فلا معنى لكل أحاديث النهضة، بل تصبح مثل قبض الريح وحرث البحر، لا طائل من ورائها أبدا.
ومن أهم مقومات بيئة النهضة في المجتمعات المسلمة:
أولا- الإيمان
إن الحديث عن النهضة في بيئة مجتمعات إسلامية يحتم أن يكون الإيمان أول وأهم مقوم من مقومات بيئة النهوض؛ لأنه بمثابة الأرضية الصلبة وقاعدة الأساس الجامعة لكل أبناء المجتمعات المسلمة على المستوى الفكري والحركي، وهو ما يمثل ضمانة النهوض على بصيرة واتساق؛ فالمجتمع الذي يتجادل أفراده حول الأصول والكليات والرئيسيات يجد نفسه مكبلا مرتبكا مهتزا، يهدر كثيرا من الطاقات والأوقات في قضايا مفروغ منها، وصراعات بيزنطية لا طائل من ورائها سوى الجدال المورث للشقاق والتضارب وفساد ذات البين.
ولو استطعنا أن نؤسس لقواعد كلية تحكم نظرات المتصدين للبناء والنهوض.. عندها نستطيع أن نحقق قفزات نوعية عملية تدفع الجميع للتخلص من الجدل العقيم والتركيز على العمل والإنجاز؛ فمجتمعاتنا تعاني -فعلا- من تباين واسع بين أنظار المفكرين الإسلاميين وغيرهم من العلمانيين والليبراليين في تقييمهم للواقع ومشكلات الأمة، يضفي على المشهد الحضاري في المجتمعات الإسلامية ضبابية وتوهانا، والإيمان بمعناه الواسع العام الذي يضم قطعيات الشريعة وكليات الدين يمثل ضمانة الأساس لبيئة النهضة في مجتمعاتنا.
ثانيا- المعرفة
البشر أعطاهم الله -عز وجل- نعمة القدرة على التكيف مع الأوضاع المتقلبة والمتباينة، واحتمال الشدائد والمصاعب، كما أن للبشر قدرة هائلة على معرفة الظروف العادية من غيرها الاستثنائية، ولكن آفة الوعي البشري أنه مستعد دائما للاندماج مع واقعه وترجمته إلى أطر ثابتة للتفكير والتخطيط والحركة، وهذه الآفة تقتل الإبداع وتوقف عجلة المعرفة والتفكير وإدراك مشاكل الأمة؛ فإدراك مشكلات الواقع يحتاج إلى معرفة، وحلها يحتاج إلى معرفة، ودون هذه المعرفة يدور الناس في فلك أزماتهم المزمنة، ونفس مشاكلهم الموروثة ويستنسخونها من جيل إلى جيل على نحو صامت دون الخروج منها؛ فالنهضة التي يجب أن يدعو إليها الدعاة ويحببوا الناس فيها هي نهضة روحية خلقية في المقام الأول، وتقدمنا الحقيقي ذو طابع إيماني ومعنوي.
وهذا يقتضي القول بأن المعرفة التي نحتاجها هي معرفة بعقائدنا ومبادئنا وأحكامنا الشرعية، ومن خلالها نستطيع أن نفهم مشاكلنا المزمنة التي كانت سببا لأزماتنا الحضارية والاجتماعية، فالمشاكل الكثيرة التي يعاني منها قطاع الشباب في عالمنا الإسلامي والتي أخذت أشكالا وصورا كثيرة أثرت بشدة في تقدم أمتنا ونهضتها، مردها إلى الفراغ العقلي والخواء الروحي بسبب البعد عن الدين وضعف الصلة بالله عز وجل، ففهم ومعرفة هندسة إدارة الحياة الشخصية هو الذي يجعل الشاب يعرف الضرر الحقيقي للتفريط في الطاعات والبعد عن المنكرات، فالمعاصي والشهوات والانغماس في ملذات الدنيا يؤثر على المسلم أضعاف أضعاف ما يؤثر على الكافر والفاجر، فالذنوب والمعاصي تقتل الإيجابية والإبداع والتفوق عند المسلم، وتتركه فريسة لشهواته بحيث لا ينشغل إلا بها، وتدور حياته كلها في خدمة تحقيق هذه الملذات والشهوات، يظل يلهث وراءها طوال حياته، أما الكافر والفاجر فقلبه مطبوع عليه لا تؤثر فيه معاصٍ ولا منكرات، فيقضي ليله كله في مقارفة المعاصي وفي الصباح ينتج ويخترع وينجز دون أن تقعده المعاصي والشهوات عن عمله ووظيفته، ولعل هذا هو السر وراء تقدم الغرب ونجاح حضارته في التفوق، وفي نفس الوقت في تخلف المسلمين وانحدارهم.
ثالثا- المصداقية
الصدق والمصداقية هي المصدر الأول للثقة التي تعتبر من المقومات الأساسية في نهوض المجتمع وإصلاح بيئته الحضارية، فالمصداقية لبنة من لبنات الاستقامة على مستوى الحياة الشخصية للفرد والحياة الاجتماعية للجماعة، هذا نلمحه في المعني النبوي الجامع في فضل الصدق والمحافظة على المصداقية، “إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا”. فالبر لفظة جامعة لكل دروب الخير، ومعناها في تطبيقها الشخصي والاجتماعي هو نقل الفرد والمجتمع لوضع الخيرية الدائمة التي يواصل من خلالها المجتمع تطهيره الذاتي ونهوضه المستمر، وتطوير منظومة المصداقية في المجتمع يحتاج إلى تحويلها لهدف قومي يشترك في تحقيقه كل أطياف وشرائح المجتمع، فالمدارس والجامعات والأسر تغرس فضيلة الصدق في قلوب الناشئة، والمصالح والمؤسسات وقطاع الأعمال يسهم في نشر المصداقية بالمزيد من الشفافية والإفصاح عن حقيقة إنجازاتهم والأرقام الفعلية لإنتاجهم، والحكومات أيضا من أهم المؤسسات التي تحتاج لتفعيل المصداقية في أدائها وسن القوانين والتشريعات التي تحاصر الكذب والكذابين في حياتنا.
نحن قد رأينا كيف أن الكذب خطيئة لا تغتفر عند المجتمعات الغربية، يطيحون بسببها بقادتهم وزعمائهم وحتى أبطالهم؛ لأن ثقتهم قد اهتزت في هؤلاء الرموز، وما انتشر الكذب في بلادنا إلا لأن المجتمع لم يقم بدوره الرقابي والتأديبي في ردع هؤلاء الكذابين، وإن عقوبة التهاون مع جريمة الكذب المجتمعي تصل بالمجتمع لدرجة فقدان البوصلة، والخلط بين الباطل والحق والضار والنافع، وهذا ترجمة قوله صلى الله عليه وسلم: “يأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكذاب، ويكذب الصادق، ويؤتمن الخائن، ويخون الأمين، وينطق فيها الرويبضة “.
ربما يكون ثمة مقومات أخرى تساهم في إصلاح بيئة النهضة في المجتمع، ولكني اقتصرت على أهمها من حيث إضفاء المشروعية الأخلاقية على أسس ولبنات هذا البناء النهضوي الكبير الذي أمتنا في أمس الحاجة إليه في هذه الأيام، والطريق طويل وشاق يحتاج إلى جهود كل المخلصين والعقلاء وكل من له قدرة على الارتقاء بأمتنا وتوسيدها في مكانها الذي يليق بتاريخها وأمجادها وما تمتلكه من منهج هو الأعظم والأضمن؛ ألا وهو منهج الإسلام.
المصدر: موقع إسلاميات.