د. السيد نوح
الدعوة الفردية في العصر النبوي لها صورة متعددة نقدمها؛ باعتباره عصر التشريع وعصر الأسوة والقدوة، وذلك على النحو التالي:
صور الدعوة الفردية
الصورة الأولى: دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر الصديق
أورد الحافظ ابن كثير في ” البداية والنهاية ” صورة دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر الصديق فقال:
أخرج الحافظ أبو الحسن الأطرابلسي عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرج أبو بكر يريد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان له صديقا في الجاهلية، فلقيه فقال: يا أبا القاسم، فقدت من مجالس قومك واتهموك بالعيب لآبائها وأمهاتها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ” إني رسول الله، أدعوك إلى الله “، فلما فرغ من كلامه أسلم أبو بكر، فانطلق عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما بين الأخشبين أحد أكثر سرورا منه بإسلام أبي بكر.
ولعل السبب في هذه الاستجابة السريعة من أبي بكر -رضي الله عنه- ما تذكره كتب السيرة من أنه كان صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة، وكان يعلم من صدقه وأمانته، وحسن سجيته وكرم أخلاقه، ما يمنعه من الكذب على الخلق، فكيف يكذب على الله، ولهذا بادر – بمجرد ما ذكر له أن الله أرسله – إلى تصديقه، ولم يتلعثم، ولم يتوقف، وقد صرح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذلك فقال: ” ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة، وتردد، ونظر، إلا أبا بكر ما عكم عنه حين ذكرته، ولا تردد”.
الصورة الثانية: دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- الحصين والد عمران
أورد ابن حجر في “الإصابة” قصة إسلام الحصين هذا فقال:
أخرج ابن خزيمة عن عمران بن خالد بن طليق بن محمد بن عمران بن حصين قال: حدثني أبي عن أبيه عن جده: أن قريشا جاءت إلى الحصين – وكانت تعظمه – فقالوا له: كلم لنا هذا الرجل، فإنه يذكر آلهتنا، ويسبهم فجاءوا معه حتى جلسوا قريبا من باب النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ” أوسعوا للشيخ ” – وعمران وأصحابه متوافرون فقال – حصين: ما هذا الذي بلغنا عنك أنك تشتم آلهتنا، وتذكرهم، وقد كان أبوك حصينة وخيرا؟ فقال: “يا حصين، إن أبي وأباك في النار يا حصين، كم تعبد من إله؟ ”
قال: سبعا في الأرض، وواحدا في السماء.
قال: ” فإذا أصابك الضر من تدعو”؟ قال: الذي في السماء قال: “فإذا هلك المال من تدعو؟ قال الذي في السماء.
قال: ” فيستجيب لك وحده، وتشركهم معه، وأرضيته في الشكر أم تخاف أن يغلب عليك؟ ” قال: ولا واحدة من هاتين.
قال: وعلمت أني لم أكلم مثله.
قال: ” يا حصين، أسلم تسلم “.
قال: إن لي قوما وعشيرة، فماذا أقول؟
قال: ” قل: اللهم أستهديك لأرشد أمري، وزدني علما ينفعني “.
فقالها حصين فلم يقم حتى أسلم.
فقام إليه عمران فقبل رأسه ويديه ورجليه، فلما رأي ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- بكي، وقال: ” بكيت من صنيع عمران دخل حصين وهو كافر فلم يقم إليه عمران، ولم يلتفت ناحيته، فلما أسلم قضى حقه فدخلني من ذلك الرقة “.
فلما أراد حصين أن يخرج قال لأصحابه: ” قوموا فشيعوه إلى منزله” فلما خرج من سدة الباب رأته قريش، فقالوا: صبأ، وتفرقوا عنه.
ولعل الذي حدا بالحصين والد عمران أن يسلم بهذه السرعة، سلامة فطرته، وحسن استعداده من ناحية، وقوة حجة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسلامة منطقة من ناحية أخري.
الصورة الثالثة: دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- عدي بن حاتم
عن عدي بن حاتم قال: جاءت خيل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا بعقرب، فأخذوا عمتي، وناسا، فلما أتوا بهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: فصفوا له، قالت: يا رسول الله، بان الوافد، وانقطع الولد، وأنا عجوز كبير ما بي من خدمة، فمن على من الله عليك، فقال: “ومن وافدك؟ ” قالت: عدي بن حاتم، قال: ” الذي فر من الله ورسوله؟ ” قالت: فمُن علي، فلما رجع، ورجا إلى جنبه نري أنه علي، قال: سليه حملانا قال: فسألته، فأمر لها، قال عدي: فأتتني فقالت: لقد فعلت فعلة ما كان أبوك يفعلها، وقالت: إيته راغبا أو راهبا، فقد أتاه فلان، فأصاب منه، وأتاه فلان فأصاب منه، قال: فأتيته، فإذا عنده امرأة وصبيان – أو صبي – فذكر قربهم منه، فعرفت أنه ليس ملك كسري، ولا قيصر، فقال له: ” يا عدي بن حاتم، ما أفرك؟ أفرك أن يقال: لا إله إلا الله فهل من إله إلا الله؟ ما أفرك؟ أفرك أن يقال: الله أكبر فهل شيء هو أكبر من الله عز وجل؟ ” قال: فأسلمت فرأيت وجهه استبشر، وقال: ” إن المغضوب عليهم اليهود، وإن الضالين النصارى “.
وفي رواية أخري أنه قال: لما بلغني خروج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كرهت خروجه كراهية شديدة، فخرجت حتى وقعت ناحية الروم – وفي رواية: حتى قدمت على قيصر – قال: فكرهت مكاني ذلك أشد من كراهتي لخروجه.
قال: قلت: والله لولا أتيت هذا الرجل فإن كان كاذبا لم يضرني، وإن كان صادقا علمت.
قال: فقدمت فأتيته، فلما قدمت قال الناس: عدي بن حاتم، عدي بن حاتم، فدخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال لي: ” يا عدي بن حاتم، أسلم تسلم ” – ثلاثا –
قال: قلت: إني على دين قال: “أنا أعلم بدينك منك “.
فقلت: أنت أعلم بديني مني؟
قال: ” نعم ألست من الركوسية، وأنت تأكل مرباع قومك؟ ” قلت: بلى قال: ” هذا لا يحل لك في دينك “.
قال: فلم يَعْدُ أن قالها فتواضعت لها
فقال: ” أما إني أعلم الذي يمنعك من الإسلام
تقول: إنما اتبعه ضعفة الناس، ومن لا قوة لهم، وقد رمتهم العرب، أتعرف الحيرة؟ ”
فقلت: لم أرها، وقد سمعت بها، قال: ” فو الذي نفسي بيده، ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد، وليفتحن كنوز كسري بن هرمز “.
قال: قلت: كسرى بن هرمز؟
قال: نعم، كسرى بن هرمز، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد ” قال عدي بن حاتم: فهذه الظعينة تأتي من الحيرة فتطوف بالبيت في غير جوار، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى، والذي نفسي بيده، لتكونن الثالثة؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد قالها.
ولعل الذي حدا بعدي بن حاتم أن يدخل في الإسلام بهذه الصورة المشرقة، سلامة فطرته، ونضج فكره من ناحية، وقوة حجة الرسول -صلى الله عليه وسلم- واهتدائه إلى الطريق التي دخل منها إلى عقل وقلب عدي بن حاتم رضي الله عنه وأرضاه من ناحية أخري.
الصورة الرابعة: دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- الطفيل بن عمرو الدوسي
ذكر ابن إسحاق فقال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ما يرى من قومه يبذل لهم النصيحة، ويدعوهم إلى النجاة مما هم فيه، وجعلت قريش حين منعه الله منهم، يحذرونه الناس، ومن قدم عليهم من العرب، وكان طفيل بن عمرو الدوسي يحدث أنه قدم مكة، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بها.
فمشى إليه رجال من قريش – وكان الطفيل رجلاً شريفاً، شاعراً لبيبا – فقالوا له: يا طفيل، إنك قدمت بلادنا، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا، فرق جماعتنا، وإنما قوله كالسحر يفرق بين المرء وبين أبيه، وبين الرجل وبين أخيه، وبين الرجل وبين زوجته، وإنما يخشي عليك وعلي قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمه، ولا تسمع منه قال: فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت على ألا أسمع منه شيئاً، ولا أكلمه، حتى حشوت أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفا فرقا من أن يبلغني من قوله، وأنا لا أريد أن أسمعه.
قال: فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائم يصلي عند الكعبة قال: فقمت قريبا منه، فأبي الله إلا أن يسمعني بعض قوله. قال: فسمعت كلاما حسنا.
قال: فقلت في نفسي: واثكل أمي، إني لرجل لبيب شاعر، ما يخفى علي الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟ فإن كان الذي يأتي به حسنا قبلته، وإن كان قبيحا تركته.
فمكثت حتى انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بيته، فاتبعته، حتى إذا دخل بيته دخلت عليه، فقلت: يا محمد، إن قومك قالوا لي كذا وكذا – للذي قالوا لي – فوالله مابرحوا يخوفونني أمرك، حتى سددت أذني بكرسف ؛ لئلا أسمع قولك، ثم أبي الله إلا أن يسمعنيه فسمعت قولا حسنا، فأعرض على أمرك، فعرض على الإسلام، وتلا على القرآن.
قال: فوالله ما سمعت قولا قط أحسن، ولا أمر أعدل منه.
قال: فأسلمت وشهدت شهادة الحق
وقلت: يا نبي الله، إني امرؤ مطاع في قومي، وأنا راجع إليهم، وداعيهم إلى الإسلام فادع الله أن يجعل لي آية تكون لي عونا عليهم فيما أدعوهم إليه.
قال: فقال: ” اللهم اجعل له آية ” القصة).
الصورة الخامسة: دعوة معاذ بن جبل وآخرين من بني سلمة عمرو بن الجموح
ذكر ابن إسحاق فقال: “لما قدم الأنصار المدينة بعدما بايعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ظهر الإسلام بها، وفي قومهم بقايا على دينهم من أهل الشرك، منهم عمرو بن الجموح، وكان ابنه معاذ قد شهد العقبة وبايع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بها، وكان عمرو بن الجموح قد اتخذ في داره صنما من خشب يقال له “مناة” -كما كانت الأشراف يصنعون- يتخذه إلها، ويطهره فلما أسلم فتيان بني سلمة: معاذ بن جبل، ومعاذ بن عمرو بن الجموح في فتيان منهم – ممن أسلم، وشهد العقبة – كانوا يدلجون بالليل على صنم عمرو ذلك، فيحملونه، فيطرحونه في بعض حفر بني سلمة، وفيها عِذَرُ الناس منكسا على رأسه، فإذا أصبح عمرو قال: ويلكم من عدا على إلهنا في هذه الليلة؟ قال: ثم يغدو يلتمسه حتى إذا وجده غسله، وطهره، وطيبه.
ثم قال: وايم الله لو أني أعلم ما صنع بك هذا لأخزينه، فإذا أمسى عمرو ونام عَدَوا عليه ففعل به مثل ذلك.
فلما أكثروا عليه استخرجه من حيث ألقوه يوما، فغسله، وطهره، وطيبه، ثم جاء بسيفه فعلقه عليه، ثم قال: إني والله ما أعلم من يفعل بك ما ترى، فإن كان فيك خير فامتنع فهذا السيف معك.
فلما أمسي، ونام عَدَوَا عليه، فأخذوا السيف من عنقه ثم أخذوا كلبا ميتا فقرنوه معه بحبل، ثم ألقوه في بئر من آبار بني سلمة فيها عذرة من عذر الناس، وغدا عمرو بن الجموح فلم يجده مكانه الذي كان فيه، فخرج في طلبه حتى وجده في تلك البئر منكسا مقرونا بكلب ميت، فلما رآه، وأبصر شأنه، وكلمه من أسلم من قومه أسلم – يرحمه الله – وحسن إسلامه، وقال حين أسلم، وعرف من الله ما عرف، وهو يذكر صنمه ذلك، وما أبصره من أمره، ويذكر الله الذي أنقذه مما كان فيه من العمى، والضلالة، يقول:
والله لو كنت إلها لم تكن أنت وكلب وسط بئر في قرن
أف لملقاك إلها مستدن الآن فتشناك عن سوء الغبن
الحمد لله العلي ذي المنن الواهب الرزاق ديان الدين
هو الذي أنقذني من قبل أن أكون في ظلمة قبر مرتهن
ولعل السبب في إسلام عمرو بن الجموح – بعد فضل الله عز وجل ومننه – يرجع إلى هذه الحيلة الكريمة التي صنعها ابن عمرو بن الجموح ومعاذ بن جبل والتي بينت بشكل علمي واقعي أن ما يدعي من دون الله أو مع الله لا يملك ضرا،ولا نفعا، ولا موتا، ولا حياة، ولا نشورا، فضلا عن أن يملك ذلك غيره.
الصورة السادسة: دعوة عبد الله بن رواحة أبا الدرداء
قال الواقدي: (كان أبو الدرداء رضي الله عنه فيما ذكر، آخر أهل داره إسلاما، لم يزل متعلقا بصنم له، وقد وضع عليه منديلا، وكان عبد الله بن رواحة يدعوه إلى الإسلام فيأبي فيجيئه عبد الله بن رواحة، وكان له أخا في الجاهلية قبل الإسلام فلما رآه قد خرج من بيته، وأعجل امرأته، وإنها لتمشط رأسها فقال: أين أبو الدرداء؟ فقالت: خرج أخوك آنفا، فدخل بيته الذي كان فيه الصنم، ومعه القدوم فأنزله، وجعل يقدده فلذا، فلذا، وهو يرتجز سرا من أسماء الشياطين كلها: ألا كل ما يدعى مع الله باطل، ثم خرج، وسمعت المرأة صوت القدوم، وهو يضرب ذلك الصنم فقالت: أهلكتني يا ابن رواحة، فخرج على ذلك فلم يكن شيء حتى أقبل أبو الدرداء إلى منزله، فدخل فوجد المرأة قاعدة شفقا منه، فقال: ما شأنك؟ قالت: أخوك عبد الله بن رواحة دخل علي فصنع ما ترى، فغضب غضبا شديدا، ثم فكر في نفسه فقال: لو كان عند هذا خير لدفع عن نفسه، فانطلق حتى أتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه ابن رواحة فأسلم).
ولعل السبب المباشر في إسلام أبي الدرداء، حكمة عبد الله بن رواحة في تعرية هذا الإله الخشبي الصنم من كل مظهر من مظاهر القدرة، هذا من ناحية، واستعمال أبي الدرداء عقله من ناحية أخري.
الصورة السابعة: دعوة أم سليم أبا طلحة الأنصاري
عن أنس رضي الله عنه قال: إن أبا طلحة خطب أم سليم -يعني قبل أن يسلم- فقالت: يا أبا طلحة، ألست تعلم أن إلهك الذي تعبد نبت من الأرض؟ قال: بلى، قالت: أفلا تستحي تعبد شجرة؟ إن أسلمت فإني لا أريد منك صداقا غيره.
قال: حتى أنظر في أمري فذهب ثم جاء
فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله.
فقالت: يا أنس، زوج أبا طلحة، فزوجها.
ويرجع السبب في إسلام أبي طلحة إلى صفاء فطرته من ناحية، وحكمة أم سليم في الدعوة من ناحية أخرى.
الصورة الثامنة: دعوة مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة أسيد بن حضير
ذكر ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وغيره أن أسعد بن زرارة خرجَ بمصعب بن عمير يريد به دار بني عبد الأشهل، ودار بني ظفر – وكان سعد بن معاذ ابن خالة أسعد بن زرارة – فدخل به حائطا من حوائط بني ظفر على بئر، يقال له: بئر مرق، فجلسا في الحائط، واجتمع إليهما رجال ممن أسلم – وسعد بن معاذ، وأسيد بن حضير يومئذ سيدا قومهما من بني الأشهل، وكلاهما مشرك على دين قومه – فلما سمعا به قال سعد لأسيد: لا أبا لك انطلق إلى هذين الرجلين قد يأتينا دارينا، ليسفها ضعفاءنا فازجرهما، وانههما أن يأتيا دارينا، فإنه لولا أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت كفيتك ذلك، هو ابن خالتي، ولا أجد عليه مقدما قال: فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إليهما فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب: هذا سيد قومه، وقد جاءك فاصدق الله فيه، قال مصعب: إن يجلس أكلمه
قال: فوقف عليهما متشتما
فقال: ما جاء بكما إلينا، تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة – يعني: إن كنتما تريدان الإبقاء على حياتكما – فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره.
قال: أنصفت.
قال: ثم ركز حربته، وجلس إليهما فكلمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن فقالا فيما يذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهله، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله، كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل فتطهر، وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي فقام فاغتسل، وطهر ثوبيه وتَشَهدَ شهادة الحق، ثم قام فركع ركعتين.
الصورة التاسعة: دعوة مصعب بن عمير وأسيد بن حضير سعد بن معاذ
ذكر ابن إسحاق أنه لما أسلم أسيد بن حضير قال لمصعب بن عمير، وأسعد بن زرارة: إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله إليكما الآن: سعد بن معاذ، ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه، وهم جلوس في ناديهم فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلا قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين: فوالله ما رأيت بهما بأسا، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليحقروك قال: فقام سعد بن معاذ مغضبا مبادرا تخوفا للذي ذكر له من بني حارثة وأخذ في يده ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئاً، ثم خرج إليهما سعد، فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيد إنما أراد أن يسمع منهما، فوقف متشتما ثم قال لأسعد بن زرارة، يا أبا أمامة، أما والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني، أتغشانا في دارنا بما نكره؟ قال: وقد قال أسعد لمصعب: أي مصعب، جاءك والله سيد وراءه من قومه إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان.
قال له مصعب: أو تقعد فتسمع، فإن رضيت أمراً ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره؟ قال سعد: أنصفت، ثم ركز الحربة، وجلس، فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن، وذكر موسى بن عقبة أنه قرأ عليه أول الزخرف قالا: فعرفنا والله من وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهله، ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم، ودخلتم في هذا الدين؟ قال: تغتسل فتطهر، وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين.
قال: فقام فاغتسل، وطهر ثوبيه، وشهد شهادة الحق، ثم ركع ركعتين، ثم أخذ حربته فأقبل عائدا إلى نادي قومه، ومعهم أسيد بن حضير، فلما رآه قومه مقبلا قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا، وأفضلنا رأيا، وأيمننا نقيبة.قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله.
قال: فوالله ما أمسي في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما أو مسلمة.
ولعل السبب في إسلام أسيد بن حضير وسعد بن معاذ بهذه الصورة، إنما يرجع إلى حكمة مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة في الدعوة من ناحية، وتحكيم عقل الرجلين، واستجابتهما لنداء الفطرة من ناحية أخري.
الصورة العاشرة: دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- ضمادا رضي الله عنه
يروي ابن عباس رضي الله عنهما فيقول: قدم ضماد مكة – وهو رجل من أزد شنوءة – وكان يرقي من هذه الرياح، فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون: إن محمداً مجنون.
فقال: أين هذا الرجل؟ لعل الله يشفيه على يدي.
فلقيت محمداً فقلت: إني أرقي من هذه الرياح، وإن الله يشفي على يدي من شاء فهلم.
فقال محمد: ” إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ” – ثلاث مرات –
فقال: والله لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل هؤلاء الكلمات فهلم يدك أبايعك على الإسلام، فبايعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له: “وعلى قومك “.
فقال: وعلي قومي.
فبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- جيشا فمروا بقوم ضماد.
فقال صاحب الجيش للسرية: هل أصبتم من هؤلاء القوم شيئاً؟ فقال رجل منهم: أصبت منهم مطهرة، فقال: ردها عليهم فإنهم قوم ضماد، وفي رواية فقال له ضماد: أعد علي كلماتك هؤلاء، فلقد بلغن قاموس البحر.
ولعل السبب في إسلام ضماد بهذه السرعة صفاء فطرته وسلامة عقله من ناحية، وحكمة النبي -صلى الله عليه وسلم- في دعوته، وحسن تخيره الكلمات التي أسمعه إياها من ناحية أخري.
—-
* المصدر: كتاب “فقه الدعوة الفردية في المنهج الإسلامي”.