محمد علي المطري
الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، هو الكبير الأحد الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤا أحد.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون.
أما بعد..
فدولة بوروندي دولة أفريقية صغيرة تعد من منابع نهر النيل، تقع غرب تنزانيا، وتطل على بحيرة تنجانيقا أطول بحيرة في العالم، وهي أرض خضراء كثيرة الأنهار والأمطار والفواكه والخيرات، ومع وقوعها على خط الاستواء فإنها معتدلة وليست شديدة الحرارة، وكما أنها خصبة في أرضها فهي كذلك خصبة للدعوة، دخلها الإسلام قريبا بواسطة التجار المسلمين لا سيما العُمانيين، وفي نحو قرن من الزمان صارت نسبة المسلمين فيها نحو 20%، ولا يزال أكثر أهلها نصارى إلا أنهم بفضل الله ثم بجهود الدعاة إلى الله صاروا يدخلون إلى الإسلام بكثرة لا سيما بعد انتهاء الحرب الأهلية التي لم يشارك فيها المسلمون، وكان موقفهم فيها محمودا.
وقد وفقني الله للذهاب إلى دولة بوروندي للإشراف على الدعاة والأئمة والمناظرين المكفولين من مؤسسة الشيخ عيد الخيرية القطرية، وأحببت أن أدوِّن باختصار بعض ما شاهدته وما اطلعت عليه من أخبار الدعوة والدعاة؛ ليستفيد من هذه الأخبار من شاء الله من المسلمين الذين يهتمون بالدعوة ويحرصون على الخير، والله الموفق.
نشاط الدعاة
الأئمة متفاوتون في النشاط، ونشاط كثير منهم لا يكاد يصدق، الصلاة بالناس والتعليم لهم بعد كل صلاة، وحلقة لتلقين القرآن بعد الفجر إلى الشروق، وفي الصباح تدريس الطلاب القرآن والفقه واللغة العربية إلى الظهر، وقبل العصر بساعة تعليم للقرآن، وبعد العصر حلقة تعليم للنساء، وبعد المغرب درس لجماعة المسجد ثم بعد صلاة السنة تعليم للمسلمين الجدد إلى صلاة العشاء، أو حلقة مدارسة القرآن أو العلم الشرعي، ثم بعد صلاة العشاء درس، ومنهم من يقوم في الليل بزيارات للنصارى لدعوتهم إلى الإسلام، ومنهم من يجعل الزيارات والدعوة الفردية الصباح وبعد العصر، ومنهم من هو مدرِّس في مدرسة حكومية أو طالب في مدرسة أو جامعة ويقوم بما يمكنه من هذه الأعمال، ويجعل من يخلفه عند غيابه مع القيام بالدعوة الفردية في المدرسة أو الجامعة، ومنهم داعية يأخذ الميكرفون، ويمر بالناس في الطرقات يدعوهم ويعظهم ولا يبالي بمن يعجب أو يضحك منه!!
وبعضهم قائم على عدة أنشطة في مساجد متعددة، يتعاهدها بالخطبة وإلقاء المحاضرات للرجال وللنساء، ومنهم من يتولى عقد النكاح للمسلمين وحل مشاكلهم ونحو ذلك، وبعضهم مناظر يشارك في المناظرات لدعوة النصارى.
وأقلهم نشاطا الذي يكتفي بالتعليم بعد بعض الصلوات، ومن وجدناه كذلك نصحناه بالتدريس بعد كل صلاة، والمصلون في بوروندي يجلسون بعد الصلاة ويسمعون الدرس برغبة، وليس عندهم عجلة للانصراف، لكنا نوصي الأئمة بعدم الإطالة وأن لا يزيد الدرس لجماعة المصلين عن خمس دقائق، بخلاف الحلقة بعد الفجر وبعد المغرب لأنها ليست لجميع المصلين.
ومن أقلهم نشاطا الذي يقتصر نشاطه داخل مسجده، ولا يهتم بدعوة الناس خارج المسجد، ومن وجدناه كذلك نصحناه بالدعوة خارج المسجد خاصة للنصارى، وأذكر أني سألت إماما عن عدد الذين دخلوا الإسلام على يديه خلال أسبوعين، فلم يذكر أحدا، فعاتبته على تقصيره، وحثثته على دعوة النصارى وذكرت له بعض الأساليب، ثم بعد أسبوعين التقيت به، فبشرني أنه أسلم على يديه سبعة من النصارى منهم امرأة!!
سهولة إسلام النصارى في بوروندي
ما أسهل دخول النصارى إلى الإسلام في بوروندي! وما أعظم أجر من يهتدي أحد على يديه! فإذا كان المجاهد في سبيل الله يؤجر على قتل كافر في سبيل الله، فما بالك بأجر من يُحيي الكافر بإذن الله ويدخله في دين الله؟!!
في المناظرة الواحدة قد يعلن الدخول في الإسلام خمسة أو عشرة أو عشرون أو ستون أو مائة أو أكثر.
وكذلك ما أكثر من يدخل من النصارى إلى الإسلام بالدعوة الفردية، وكنت في حلقة مع بعض الدعاة فطلبت أن يخبرني كل واحد منهم بعدد الذين دخلوا في الإسلام على يديه، فأكثرهم قالوا: لا نستطيع التحديد لكثرتهم!! فقلت: اذكروا العدد بالتقريب، فمنهم من ذكر ثلاثة، ومنهم خمسة، ومنهم عشرة، ومنهم من ذكر عشرين، ومنهم خمسين، ومنهم سبعين، ومنهم من ذكر أكثر من مائة، وقال أحدهم: نحن جماعة من المناظرين دخل على أيدينا بالمناظرات أكثر من ألف وسبعمائة شخص!!
وكثير من الأئمة معه سجل بأسماء المهتدين الجدد الذين أسلموا على يديه، فيه أسماؤهم وأعمارهم وتاريخ إسلامهم، وقد طلبنا من الجميع تسجيل ذلك مع ذكر رقم الهوية إن وجدت ورقم الهاتف، ليسهل متابعة هؤلاء المسلمين الجدد، والحرص على أن يلتحقوا بدورات المهتدين ليتعلموا ما يجب عليهم تعلمه من أركان الإيمان والإسلام وسورة الفاتحة وكيفية الوضوء والصلاة وغير ذلك.
وبعض النصارى قد يدخل في الإسلام طمعا، لشدة فقرهم وحاجتهم إلى الطعام واللباس، ومثل هؤلاء لا بأس أن يُعطَوا شيئا ليدخلوا في الإسلام ثم يُحرص على متابعتهم وتعليمهم، فمن الناس من يدخل طمعا ثم يثبت ويحبب الله الإيمان إلى قلبه، ومن مصارف الزكاة المؤلفة قلوبهم.
كنا في سفر فمر بنا رجل نصراني فقال: أعطوني قميصا وسأسلم، ولم يكن معنا قميص لنعطيه فمر ولم يسلم!!
وكلمت شابا عن الإسلام وبينت له بطلان النصرانية ثم قلت له: هل يوجد شيء في الإسلام غير صحيح؟ فقال: لا، فقلت له: فلماذا لا تسلم لتدخل الجنة؟! فقال: ليس عندي قميص وطاقية!! فقلت له: أعطيك الآن قميصا وطاقية وتُسلم؟! قال: نعم، فأعطيته من ملابسي قميصا وطاقية فأعلن إسلامه مباشرة، ثم كنت أعلمه الفاتحة فحفظها بعد أكثر من عشرة أيام؛ لأنه ليس عربيا، واشترينا له كتاب تفسير جزء عم بلغته الكيروندية، وكثيرا ما كنت أراه يصلي والحمد لله.
وأعطيت أحد الدعاة أربع طاقيات جديدة وقلت له: أريد أن يسلم أربعة أشخاص وتعطي كل واحد منهم طاقية، فأسلم على يديه بعد مدة وجيزة أربعة، ثم قال لي: يوجد اثنان وليس عنده طاقية!! فقلت له: كلمهم أنه ليس واجبا أن يستروا رءوسهم في الصلاة بالطاقية!!
معيشة الدعاة
من العجب أن الدعاة يقومون بذلك النشاط وهم في أشد الفقر والقلة، فبوروندي من أفقر دول العالم، وأكثر الناس فيها لا يجدون ثلاث وجبات في اليوم، يكتفون بوجبة أو وجبتين وقد لا يشبعون في الوجبة، وأخبرني بعض الدعاة المشهورين بالنشاط في العاصمة بوجنبورا أنه أحيانا يمر عليه يوم ولا يجد ما يأكل!
واتصل بي أحد الدعاة ليسأل عن الكفالات التي وعدتهم بها مؤسسة الشيخ عيد وأخبرني أنه ليس في بيته طعام!
وسألت أحد الدعاة: كم يأكل وجبة في اليوم؟ قال: وجبة واحدة، إن كان صائما أكل في الليل، وإن كان مفطرا أكل في النهار أكلة واحدة فقط!! وهو متزوج وله ولد، وقال: الحمد لله نحن في نعمة، من الناس في بوروندي من هو أشد منا فقرا!! وسألته: كم راتبه؟ فقال: 30000 فرنك (20$) فقط!!!
وأدخلني أحد الدعاة إلى بيته فتفاجأت أن امرأته -وكانت محجبة- داخل البيت وعندها امرأتان من جيرانهم، واستغربت منه كيف يدخلني بيته وامرأته داخل الغرفة! ثم علمت أن بيته هو تلك الغرفة فقط، فتلك الغرفة هي غرفة النوم وغرفة الضيوف وهي المطبخ والمخزن وفيها كتبه، وليس له حمام خاص، بل يوجد حمام واحد خارج البيت مشترك لجميع الجيران المستأجرين وهم تسعة بيوت من المسلمين والنصارى!!
وسألت هذا الأخ الداعية عن إيجار بيته فقال: الإيجار ب 50000 فرنك + 5000 فرنك للماء + 5000 فرنك للكهرباء = 60000 فرنك (40$)، وراتبه 100000فرنك فقط (66$)، فيبقى معه 40000 فرنك (26$) للمعيشة طوال الشهر!! وقال: هذا الراتب عينه له أهل المسجد، ولا يستطيع أن يزيد فيه شيئا سواء كان يكفيه أو لا يكفيه، وقال لي هذا الأخ: أنا طلبت العلم لأعلم الناس، ولن أترك الدعوة إن شاء الله سواء جاءنا مال أو لم يأت مال، قد نجوع وقد نمرض ولكن نصبر وسيسهل الله أمرنا إذا علم صدق قلوبنا!! كلمات مؤثرة من قلب أحسبه صادقا، والله المستعان.
وأدخلني داعية آخر إلى بيته، فوجدت امرأته مضطجعة على الموكيت من غير فراش، فاستحت مني وجلست، وفي يدها ولدها الصغير، وأخبرني أنها حامل، ورأيتهم يطبخون الطعام خارج الغرفة (البيت) عند الباب على الفحم، حيث إن الغاز غالي جدا لا يشتريه إلا الأغنياء، حتى في المطاعم يطبخون على الفحم، وأخبرني هذا الأخ أنه تزوج قبل ثلاثة أشهر وعمره ثمان وثلاثون سنة، وأن امرأته ثيب لها ولد من غيره، وسألته عن الإيجار فقال: 40000 فرنك، وراتبه 60000فرنك، ويبقى معه 20000 فرنك (13$) لمعيشتهم طوال الشهر!!!
وقال لي: نحن في فقر شديد، ولا أحد يرانا بعين الرحمة، ولكن سنصبر ونستمر في الدعوة!!!
وهذا الأخ هو الذي يترجم لي خطبي ومحاضراتي، ومرة ذهبنا إلى مناظرة وأعطيته 2000 فرنك فاشترى له خمس حبات طماطم، وأنا اشتريت ست حبات أناناس وأردت أن أعطيه ثلاثا منها، فلما أوصلنا صاحب التاكسي إلى بيته أولاً قلت له: خذ ثلاث حبات أناناس. ففرح فرحا عظيما ليطعم زوجته الحامل وأخذ حبتين فقط وكأنه يحمل كنزا إلى أهله، فأعطيت الثالثة السائق النصراني، وكنا قد دعوناه إلى الإسلام فوعدنا أن يفكر في الدخول في الإسلام بعد أن أعجب به.
ومرة اشتريت لي ولهذا الأخ المترجم عشاء لحما مشويا على حسابي ب 5000 فرنك في كيسين، فأكل قليلا ثم أبقى البقية لزوجته !!
ومرة أعطيته 2000 فرنك (أقل من دولار ونصف) أجرة الدراجة النارية؛ لأنه جاءني إلى مسجد بعيد منه ليترجم درسا لي بين المغرب والعشاء، فعلمت أنه مشى إلى أهله بعد صلاة العشاء بقدميه ولم يركب دراجة توفيرا لذلك المبلغ اليسير لمعيشتهم.
وأجرة العمال في بوروندي قليلة جدا، فالحارس يُعطى 30000 فرنك (20$) مع كونه يحرس البيت 24 ساعة ويقوم ببعض الأعمال في البيت كالنظافة أو فتح الباب للسيارة ونحو ذلك، وحارس مركز الهداية الذي سكنت فيه يُعطى 50000 فرنك (33$) فقط ومنها يأكل!! وسألته بواسطة المترجم: هل تكفيه؟ فقال: هو يرسل نصفها إلى أهله في القرية، ويُبقي نصفها الآخر لنفسه، وقال: أحيانا يأكل وأحيانا يبقى بلا أكل!!!
والمدرِّس في كتاتيب القرآن راتبه نحو 60000 فرنك فقط (40$)وبعضهم أقل من هذا!! والمدرِّس في المدارس الحكومية راتبه في حدود 180000فرنك (120$) بالإضافة إلى بدل السكن والمواصلات، فهم أحسن حالا، وسألت مدرسا يدرس الأولاد في المسجد صباحا ومساء ويؤذن للصلاة: كم راتبه؟ فقال: 50000 فرنك فقط (33$) مع السكن في غرفة للمسجد وصالون صغير، ومعه زوجة وعدة أولاد ويستخدمون نفس حمامات المسجد التي يستخدمها المصلون!!
وسألت أحد مدرسي التحفيظ عن راتبه فقال: 60000 فرنك، وهو شاب أعزب مستأجر غرفة ب 35000 فرنك، ويبقى معه 25000 فرنك (16$) لأكله طوال الشهر، وسألته: كيف تكفيه؟! فقال: يأكل وجبة واحدة الغداء فقط، ولا يتعشى بل يشرب أي شيء وينام، قال: وكثيرا ما يرزقني الله فيدعوني بعض الناس للطعام؛ لكونه مدرسا للأولاد ومدرسا في الليل لأسرة في منزلهم، ورأيته وقد اشترى دراجة هوائية جديدة ب 100000 فرنك، فقال: إنه كان يدخر من راتبه حتى جمع قيمة الدراجة الهوائية.
والدراجة الهوائية في بوروندي كالسيارة النقل، فالناس رجالا ونساء يستأجرون الدراجة الهوائية ليوصلهم أصحابها إلى الأماكن التي يريدون الوصول إليها وإن كانت مسافة طويلة جدا، ويحملون عليها الأثقال بشكل غريب، رأيت مرة دراجة هوائية عليها شخصان يحمل الراكب في يده شاة، ومرة أخرى رأيت دراجة هوائية وعليها باب كبير من الخشب، ومرة أخرى رأيت عليها بابا كبيرا من الحديد، ومرة رأيت عليها نحو أربعين دبة زيت فارغة سعة عشرة لتر، وصاحب الدراجة يسوقها بشكل عادي!!
يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف
الدعاة في بوروندي لا يُظهرون فقرهم مع كونهم في أشد الفقر والبؤس، يعلمون الناس ويقومون بمختلف النشاطات الدعوية ولا يظهرون الفاقة والقلة، ومع أحدهم ثوبان أو ثلاثة من أفخم الثياب العربية يلبسونها ويحرصون على نظافتها، وأكثرهم نعالهم حسنة، ولكن آثار الفقر بادية على أبدان كثير منهم بسبب سوء التغذية {يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا}.
وكثير منهم أعزب لا يجد زوجة مع كون المهور رخيصة، فمن يجد 400$ أو 500$ يستطيع أن يتزوج، لكن من أين لأكثرهم هذا المبلغ؟!
والتبرج في بوروندي كثير جدا، فالنساء على النمط الفرنسي والغربي، تفسخ وفجور وفتن كثيرة جدا، أخبرني أحد الدعاة العرب العاملين في بوروندي أنه مرة جاءه شاب يطلب المساعدة للزواج وهو يبكي ويقول: كاد أن يقع في الزنا!!
والحمد لله الصادق في وعده: {وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله}، فكثير منهم يتزوج ولو بعد سن الثلاثين، ومن يتصبر يصبره الله، ومن يستعفف يعفه الله، والله المستعان.
ذكاء الدعاة
الدعاة وطلاب العلم في بوروندي عندهم ذكاء ونباهة، والأصل فيهم إجادة أكثر من لغة، يتكلمون اللغة السواحلية ومعها اللغة الكيروندية أو العربية، وما أكثر الذين يتكلمون اللغات الثلاث، والذين درسوا في المدارس يتكلمون أيضا اللغة الفرنسية؛ لأن المناهج المدرسية بالفرنسي، وهي اللغة الرسمية مع الكيروندية، وكثير منهم يجيد أيضا اللغة الإنجليزية، فهذه خمس لغات يجيدها كثير من الدعاة، وبعضهم يتكلم أكثر من خمس لغات، وقليل الذين يتكلمون لغتين فقط!!
وكثير منهم يحفظ القرآن، جاءني أحدهم ليستفيد مني في القرآن، فحددت له وقتا في المسجد، فسألته عن آيات متشابهات من عدة مواضع، فوجدته متقنا للقرآن أحسن مني، وأخبرني أنه يراجع كل يوم ستة أجزاء.
طريقة المناظرات
يقوم الدعاة المناظرون -وهم نحو خمسة أو أكثر أو أقل- بتحديد مكان المناظرة، ويستأجرون مكبرات الصوت إن لم تكن معهم، ويأتون بالقرآن العظيم ونسخ من الأناجيل، ويعلنون عن المناظرة من قبل إقامتها بيوم أو يومين بواسطة أئمة المساجد وربما بالأوراق التي تعلق على الجدران، وأحيانا بالإذاعة بأجرة يسيرة في إذاعة الدولة أو مجانا في إذاعة تابعة لأحد كبار المسلمين، ويقومون أيضا بدعوة الناس للحضور بمكبرات الصوت.
ويكون المكان المهيأ فيه مجموعتان من الكراسي متقابلة، يجلس في إحدى الجهات القارئ للإنجيل وبجواره أحد النصارى لإلقاء أسئلته والإجابة عن أسئلة المناظرين، فيتكلم أحد المتناظرين ويجيبه الآخر والناس متجمعون في حلقة كبيرة رجالا ونساء، مسلمين ونصارى، منهم الجالس وأكثرهم قائمون، وإذا لم يجلس أحد النصارى للمحاورة يتكلم الدعاة المناظر، ويبينون للناس ما في الأناجيل من كون عيسى عبد الله، ويقرؤون تلك النصوص من الإنجيل، ويقرؤون بعض الأشياء التي تبين بطلان عقيدة النصارى، وغالبا تكون المناظرة يومي السبت والأحد، ويُسلم بعد انتهاء المناظرة بعض الحضور من النصارى، ومن لم يسلم يكون في شك من دينه الباطل؛ لأنه يسمع الحقائق الواضحة، ويكون الأثر أكبر عندما يعجز المناظر النصراني عن إنكار الحقائق، لا سيما إن كان قسيسا، وصدق الله إذ يقول: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون}؛ فالإسلام ظاهر حتى بين ظهراني النصارى وفي دولتهم، ولا أحد يستطيع أن يقارع الإسلام بالحجة والبيان.
المساجد في بوروندي
كل مسجد له مسؤولون من كبار السن والوجهاء، وبعد كل صلاة يمر بعض الشباب بالصفوف لجمع التبرعات من المصلين، وتمر بعض النساء لجمع التبرعات من المصليات، وغالبهم فقراء ولكن يتصدقون باليسير ليجمعوا راتب الإمام والمؤذن وما يستمرون به في بناء المسجد إن كان ما يزال يبنى.
أحد المساجد في العاصمة له أربع سنوات وهو ما يزال يبنى شيئا فشيئا بما يجمعه المصلون، ويصلون فيه وهو لم يكتمل بناؤه بعد، والإمام يصلي ويحمل الميكرفون في يده ليس معهم العمود الذي يركَّب فيه الميكرفون، وقد رأيت هذا في أكثر من مسجد؛ لأنهم يجدون قلة في المال فيحرصون على جمع المال للبناء، ولا يهتمون بالكماليات، وكثيرا من المساجد ليست مفروشة بفرش واحد، بل عدة مفارش مستعملة أو حصر بالية، وما أكثر المساجد التي يصلي فيها المسلمون وهي ما زالت تبنى من تبرعاتهم، وسيستمرون في البناء شيئا فشيئا عدة سنوات حتى ينتهوا من المسجد إلا أن يوفق الله بعض المحسنين فينال الفضيلة بمساعدتهم في إكمال المسجد.
وخطبت الجمعة في مسجد آخر في العاصمة وهو ما زال يبنى، وليس فيه إلا أربعة مصاحف ليست جديدة، وكنت أخطب ويراني المارة من خارج المسجد إذ ليس له باب، وسقف المحراب ما زال طرابيل، وبعد الصلاة قام الإمام يرغب المسلمين في الصدقة، ورأيتهم يمرون بين الصفوف لجمع التبرعات من الرجال والنساء، والحاجز بين الرجال والنساء ستارة شفافة فقط، والله أعلم بالمدة التي سيبقون يجمعون المال فيها إلى أن ينتهوا من البناء؟!
وهذه بعض المساجد التي في العاصمة فكيف بالمساجد التي في القرى؟!
صلينا المغرب مرة في قرية، فرأيت المسجد غرفة فيها قطعة حصير وليس فيه أي ضوء، وأخبروني أنهم استأجروا تلك الغرفة من أحد النصارى واتخذوها مسجدا، وطلبوا مني 10000 فرنك (6$) لشراء ساعة للمسجد ليعرفوا أوقات الصلاة، فأعطيتهم ذلك المبلغ من مال كان معي للدعوة، والمؤسف أن في تلك القرية عدة كنائس، ومنها كنيسة كبيرة جدا، وعندما علم النصارى بخبر هذا المسجد بنوا بجواره كنيسة فخمة مبنية بالآجر الأحمر بينهما نحو عشرين مترا!!
وصلينا مرة في مسجد على الطريق ونحن مسافرون، فإذا به ما زال يبنى، وليس فيه حمامات، وفراشه غير مكتمل، فأدخلني أحد المسلمين بيته للوضوء، ثم جاء إمام المسجد فأخبرنا أنه علم أن هذا المسجد ليس له إمام فانتقل من بلده ليؤم المسلمين بمبادرة ذاتية من غير طلب من أحد جزاه الله خيرا، وأخبرونا أن بعض العرب يأتي يصور هذا المسجد ويعِدونهم بإتمام بنائه ثم لا يعودون، يجمعون الأموال بزعم إكمال بناء المساجد التي يصورونها ويأكلونها، فلا بارك الله في أموالهم التي يجمعونها بالحيلة والتزوير والكذب، والله المستعان.
السلبيات في الدعوة والدعاة في بوروندي
1- عدم توافر المطويات والكتيبات الصغيرة باللغة الكيروندية والسواحلية والفرنسية ليتم توزيعها على الناس ليعرفوا الإسلام وما يدعو إليه، فالكنيسة توهم أتباعها أن القرآن كلام الشيطان، وأن المساجد فيها الشياطين، ومرة كنا مع سائق سيارة أجرة نصراني فكلمناه عن الإسلام فلم يكن يعرف شيئا عن الإسلام، واستغرب من كون القرآن ذكر عيسى ومريم، وطلب منا كتبا عن الإسلام ليقرأ عنه ويتعرف عليه أكثر، ولكنا لم نجد كتبا لنعطيه!!
وجميع الجمعيات والمؤسسات الإسلامية التي تعرفت عليها ليس عندهم كتب ليعطوا من يطلبهم فضلا عن أن يوزعوها بأنفسهم للناس في الشوارع والتجمعات!! وهذا نقص كبير جدا ينبغي تداركه، والحمد لله قد توجهت مؤسسة عيد الخيرية لطباعة بعض الكتب باللغات المحلية، وهذا مشروع دعوي عظيم يحتاج للاستمرار فيه جهد كبير ومال كثير، فعسى أن يعجلوا بطباعتها، وأن يبذل أهل الخير من أموالهم لطباعة تلك الكتب بكميات كبيرة ليتم توزيعها مجانا على أكبر عدد ممكن من النصارى.
2- عدم تنسيق الجهود بين الجمعيات والمؤسسات الإسلامية العاملة في بوروندي، فينبغي التعاون فيما بينها ليكون خيرها أكثر، وأثرها أعظم.
3- التلاعب بالأموال الدعوية من بعض كبار المسلمين، فعلى المؤسسات المانحة والجهات الداعمة أن تتأكد من وصول الأموال إلى أماكنها التي صرفت من أجلها، فالمال فتنة هذه الأمة كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -:: “لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال”؛ فكما أن المرأة فتنة ولا أحد يأمن نفسه إذا خلا بها بلا محرم، فكذلك لا أحد يأمن نفسه أن يخلو بمال الدعوة بلا رقيب ولا محاسبة، فالأموال خضرة حلوة، والنفس طماعة وأمارة بالسوء، فعلى المؤسسات أن لا تكون فتنة للدعاة، وأن تقطع عنهم طريق الشيطان الرجيم، فتبعث المراقبين وتدقق في الحسابات، وتأخذ بسياسة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – مع ولاته وهم أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم -: ” من أين لك هذا؟! ” وهذا أقوم لأداء الأمانة وأبعد عن الريبة وآمن من الفتنة، والله المستعان.
4- اقتصار المناظرين على ما عندهم من معلومات قليلة في مناظرة النصارى، ولذلك صارت المناظرات مكررة، فعليهم أن يتزودوا من العلم الشرعي عامة، ومن القراءة في كتب الرد على النصارى خاصة، ومن أحسنها كتاب إظهار الحق لرحمة الله الهندي، والجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لشيخ الإسلام ابن تيمية، وهداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى لابن القيم.
5- عدم الاهتمام بتفسير القرآن الكريم، لا في دراسة طلاب العلم، ولا في التعليم الشرعي، ولا في الخطب، ولا في المناظرات، والقرآن الكريم أعظم كتاب وأثره أكبر من غيره: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله}، وأخبر عن تجربتي فإن دروسي وخطبي كانت تفسيرا لبعض السور أو الآيات فتنال إعجاب الحاضرين ويستفيدون من التفسير استفادة كبيرة والحمد لله كما أخبرني بذلك المترجم وكثير من السامعين، ومرة دعوت بعض النصارى إلى الإسلام وبينت له -بواسطة المترجم- الإسلام وبطلان النصرانية، ثم أخبرته عن القرآن الذي أنزله الله على محمد -صلى الله عليه وسلم-، وبينت له معاني أول سورة في المصحف الفاتحة، وبينت له أيضا معاني سورة الإخلاص، فأعجب كثيرا بكلام الله، وتأثر جدا بالقرآن، ووعدنا أنه سيسلم، قال الله: {فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون}، وقال – سبحانه-: {وجاهدهم به جهادا كبيرا} أي بالقرآن، وقال الله – تعالى-: {فما لهم لا يؤمنون * وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون}، وكم من آية في القرآن يخبر الله أن الكافرين تتلى عليهم آيات الله فيكذِّبون بها ويحرصون أن يلغوا فيها ولا يسمعونها.
فعلى الدعاة والمناظرين أن يبينوا للكفار أن هذا كلام الله، ويتلون عليهم بعض الآيات المناسبة ويفسرونها لهم، والله يهدي من يشاء، كما قرأ جعفر بن أبي طالب على النجاشي أول سورة مريم فأسلم، وقد لا يسلمون ولكن تقوم عليهم الحجة كما أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل قيصر الروم آية واحدة من القرآن فكاد أن يُسلم ولكنه ضن بملكه، وهذه الآية هي: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون}، ويقول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: “بلغوا عني ولو آية”.
6- عدم الاهتمام بمتابعة المسلمين الجدد، ولذلك كثير منهم يسلم ثم يرتد؛ لأنه لم يجد متابعة له من المسلمين، مع مغريات الدنيا والشهوات، وعداوة أهله له، وبعد الدعاة عنه، وقد بدأت بعض المؤسسات الدعوية في بوروندي بإنشاء مراكز المهتدين لتعليم المسلمين الجدد، وينبغي تكثير هذه المراكز في جميع المدن، والاجتهاد في إقامة الدورات فيها للمسلمين الجدد.
7- الاختلاف بين الدعاة والتفرق بسبب الخلاف السائغ، فعليهم أن يتقوا الله ويصلحوا ذات بينهم، ويتحلوا بالأخلاق الفاضلة عند الخلاف، فأدب الخلاف من أهم المهمات كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ وأبي موسى -رضي الله عنهما- عندما بعثهما داعيين إلى اليمن: “بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا تختلفا”.
8- التساهل في الاختلاط، وتدريس كثير من الدعاة للنساء من غير حجاب، وفي ذلك فتنة، والتدريس من وراء حجاب أطهر لقلوب الرجال والنساء، وآمن من الفتنة، فينبغي أن لا يتأثر الدعاة بالمجتمع الذين يعيشون فيه، وليحرصوا على أمر النساء بالحجاب، فكثير من المسلمات قد يتساهلن بالحجاب ويحسبن أنهن غير مقصرات، بسبب المجتمع المتفسخ الذي يعشن فيه.
التوصيات والاقتراحات
1- الاهتمام بالدعوة في بوروندي بجميع الأساليب المتاحة من توزيع الكتب والمطويات، وإقامة المحاضرات والمناظرات، وإرسال القوافل الطبية الدعوية، وتوزيع الملابس الجديدة أو المستعملة التي يظهر بها شعار المسلمين (قمصان للرجال وخمارات للنساء)، وغير ذلك من الأساليب، فهي أرض خصبة جدا للدعوة، والحكومة الحالية متسامحة مع المسلمين، فالأذان يرفع من المآذن، والدعاة يتحركون بحريتهم، والمناظرات تقوم بإذن الدولة، فالبدار البدار.
2- إنشاء مكتب لترجمة الكتب النافعة باللغة الكيروندية، وليبدأ بترجمة معاني القرآن بالكيروندية، إذ ليس هناك تفسير كامل باللغة الكيروندية، بل الموجود تفسير جزء عم فقط!
3- الاهتمام بتفسير القرآن العظيم، وإقامة الدورات العلمية في تفسير بعض سور القرآن كالفاتحة وجزء عم وجزء تبارك وبقية سور المفصل وسورة البقرة وآل عمران وسورة الكهف، وإقامة المسابقات في تفسير القرآن الكريم كما تقام المسابقات السنوية في الحديث النبوي الشريف.
4- التنسيق بين جميع الجهات الإسلامية الدعوية والخيرية العاملة في بوروندي، والتعاون فيما بينها لتحقيق أهدافها الدعوية والتعليمية والإغاثية.
5- الحرص على متابعة المسلمين الجدد، وتعليم المسلمين أمور دينهم، وحثهم على دعوة غيرهم، وقد بدأت بعض الجمعيات الخيرية بإنشاء مراكز المهتدين الجدد فينبغي دعمها بالجهد والمال، وحث القائمين عليها على زيادة النشاط والاجتهاد.
6- الاهتمام الكبير بالقوافل الطبية الدعوية، وإرسالها إلى المناطق البعيدة، فيعالجون أبدان المرضى بالأدوية، ويعالجون قلوبهم الغافلة بإدخالهم في الإسلام.
7- الحرص على تحسين صورة المسلمين أمام النصارى، مثل ما قام به الشيخ علي السويدي مدير مؤسسة عيد الخيرية من زيارة المستشفى الحكومي في العاصمة بوجمنبورا، والتبرع بدفع ما على جميع المرضى المسجونين من المسلمين والنصارى الذين لم يتمكنوا من دفع أجرة المستشفى، وكان عددهم كثيرا من الرجال والنساء، وبعضهم كان مسجونا مدة طويلة لعجزه عن سداد 100$ أو50$، فكان لهذا العمل الطيب أثر عظيم في تحسين صورة المسلمين، وقد نُشر هذا الخبر في وسائل الإعلام المحلية.
8- السعي في تحسين معيشة المسلمين عامة والدعاة خاصة، بتوفير فرص العمل المناسبة لهم بإعانة الدارسين على إكمال الدراسات الجامعية أو تعليم غير الدارسين حرفة أو إعطائهم رأس مال لإقامة مشروع صغير أو كفالة الدعاة بمال مجزئ ليتفرغوا للأعمال الدعوية.
9- الاهتمام بتزويج المسلمين، فالفساد كبير، والمهور بحمد الله رخيصة، مما يجعل المستفيدين من هذا المشروع شريحة كبيرة جدا، فيقل الفساد، ويتحصن الشباب، ويكثر المسلمون، ويرغب الناس في الدخول في الإسلام.
10. الحرص على إكمال المساجد التي تبنى بجهود المسلمين الفقراء، ولها عدة سنوات ولم يتم بناؤها بعد، وهي أولى من بناء مساجد جديدة، فالحاجة لها ماسة، ولذلك فهم يصلون فيها قبل انتهاء بنيانها، فلعل الله يوفق من يقوم بمشروع إكمال المساجد التي تبنى منذ سنوات، وإنما الأعمال بالخواتيم.
المصدر: المختار الإسلامي