د. مسعود صبري
ما أعظم الإسلام حين يحثنا على العمل الإنساني للبشرية جمعاء، دون أن يقتصر عمل الخير عند المسلم على الأخوة في الإسلام، ليتعداها إلى الأخوة الإنسانية، والعمل الخيري أو الإنساني هو العمل الذي لا يعتمد على تحقيقِ أي مردودٍ مادي أو أرباح؛ بل يعتمد على تقديم مجموعةٍ من الخدمات الإنسانية للأفراد المُحتاجين لها.
ذلك أن مقصود العمل الإنساني عند المسلمين هو ابتغاء الأجر من الله تعالى، فالمسلم حين يتعامل مع غيره فهو يتعامل معه ظاهرا، لكنه في حقيقته يتعامل مع الله تعالى يتوجه بقلبه وعقله إلى الله تعالى بهذا العمل، قاصدا الأجر والثواب من الله سبحانه وتعالى.
إن مفهوم العمل الخيري والإنساني يتعدى دائرة الإسلام إلى دائرة الإنسانية، ويتعدى دائرة الإنسانية ليشمل دائرة الحيوان والجماد والنبات، لأن فلسفة الإسلام في هذا المجال قائمة على “الكون الخيري”.
إن المعيار الأعظم للعمل الإنساني في الإسلام كون هذا العمل قد أذن الشارع في العمل به، سواء كان الإذن بالوجوب اللازم، أم كان بالاستحباب والندب، أو كان بالجواز والإباحة، فالعمل الإنساني قد يكون واجبا مفروضا، وقد يكون مستحبا مندوبا، وقد يكون مباحا جائزا، أما محل إيقاع العمل فهو أيضا مرتبط بخطاب الشارع سبحانه وتعالى، وليس في دين الله تعالى ما يحرم عمل الخير لغير المسلم، بل تتسع دائرة العمل الإنساني لتشمل المسلم – في القلب من العمل- وغير المسلم معه أيضا.
أما كون العمل الخيري يقدم للمسلمين الفقراء والمساكين والمحتاجين فلا يحتاج إلى ذكر أدلة أو بيانها من الكتاب والسنة، وهما مليئان بالأدلة والبراهين على ذلك، أقلها أنه من واجبات الأخوة في الدين.
أما دليل مشروعيته لغير المسلم (الإنسان)، فأعظمه قوله سبحانه وتعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]، وقد جاءت الآية عامة، متوجها لمن يفعل الخير، مبينة علة وسبب عمل الخير، وهو الحصول على الفلاح من الله في الدنيا والآخرة.
كما أن العمل الإنساني هو من البر الذي أمرنا به لغير المسلمين ما داموا مسالمين لنا غير محاربين، كما قال سبحانه: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]، ذلك أن الله تعالى هو رازق العباد جميعا، المتعطف عليهم بالإنعام، فيكون العمل الإنساني هو من باب التشبه بعمل الله الذي يحبه.
وحفلت السنة النبوية بأحاديث كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه على إحياء فطرة الإنسانية، وأن يقرر ما كان موجودا من الصفات المحمودة عند العرب، ومنها الكرم والجود، وقد عرف فيهم أناس بالعمل الإنساني مثل حاتم الطائي الذي ضرب به المثل في الكرم، ومثل زيد بن عمرو بن نفيل الذي كان يدفع كل ماله لإنقاذ البنات من الموت والوأد في الجاهلية، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: “خياركم في الإسلام خياركم في الجاهلية إذا فقهوا”.
وقد أسس النبي دولته ومجتمعه على تبني الخير ونشره في العالم، بل قامت فلسفة الإنسان على إنقاذ البشرية؛ عقديا، وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا، ومما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في بث روح الإنسانية:” والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن. قيل: من يا رسول الله. قال: “من باب شبعان، وجواره بجواره جائع وهو يعلم”، فالنبي صلى الله عليه وسلم يؤسس للعمل الإنساني مع الجيران أيا كان الجار.
بل يتعدى الخير ليكون لكل ما في الكون لتحقيق خيرية الكون، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في سنن النسائي: “ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة”. فهذا الحديث يؤسس لمفهوم الإنسانية في العمل الخيري، ليشمل الإنسان والطير والحيوان، حتى يكون المسلم نافعا لكل الناس، وهذا هو الشهود الحضاري للأمة الذي قال الله تعالى فيه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]، فيشهد الناس في المسلمين الإسلام مطبقا، فهم إسلام يتحرك بين الناس.
ولذا، فإن أهم معالم العمل الإنساني في الإسلام ما يلي:
العناية بالإنسان:
فبنو آدم هم الخلفاء في الأرض، والله تعالى أوجد آدم وذريته وأسكنهم في الأرض وذلل لهم سبل الحياة فيها، حتى يعيش حياة هنيئة، وتكفل الله تعالى لهم بالرزق كما قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [هود: 6]، غير أن زرق الله لعباده له أسباب، من تلك الأسباب العمل الخيري والإحسان على عباد الله، اعترافا بنعمة الله وفضله، وتأدية لشكر نعمة الجليل الواهب عباده الرزق.
ومن جمال الإسلام أنه اعتنى بالإنسان بوصفه مخلوقا من مخلوقات الله تعالى، فسخر له كل ما في الكون ليكون هو مسخرا لله تعالى، كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً } [لقمان: 20]، ولكن ليعلم الإنسان أن كل شيء مسخر له في الأرض فهو من الله، فيرد النعمة إلى المنعم سبحانه كما قال جل في علاه: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: 13]
مقصد الخير:
كما أن عمل الخير مقصد من مقاصد الشريعة مقصود لذاته، فعمل الخير في حد ذاته مما يحبه الله تعالى، ويقصده، ويأمر الناس بفعله، ويحث عليه، حتى يكون منتشرا بين الناس جميعا، كما قال تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]، فالمسلم مرتبط بالخير ارتباط الروح بالجسد، فهو دائما يسعى إلى عمل الخير ونشره بين الناس، حتى تتم خيرية هذه الأمة، ليتحقق فيها قول ربها سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]
عالمية الإسلام:
وحين يحث الإسلام أتباعه على عمل الخير في جميع الميادين ولجميع الأجناس والشعوب فهو يقرر عالمية هذا الدين، وأنه ليس دينا محليا، يعتني بالجزيرة العربية وساكنيها، وإنما هو يعتني بالإنسان في هذا الكون كله، محققا بذلك رحمة الإسلام الواسعة التي وسعت الثقلين، ووسعت الإنسان والحيوان والنبات والجماد، تلك الرحمة العامة التي قررها القرآن بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } [الأنبياء: 107]، وحين يرى فقراء العالم أن المسلمين يمدون إليهم يد العون فهم يتعرفون على الإسلام وتعالميه بلسان الفعل لا بلسان القول، ويفهمون عظمة هذا الدين الذي يجعل أتباعه يمشون في الناس بسيرة السلام، ونشر الخير بينهم دون انتظار مكافأة أو مقابل لما يفعلون.
إخوة الإنسانية:
إن عظمة الإسلام أنه لم يجعل الأخوة درجة واحدة ولا نوعا واحدا، فهناك أخوة النسب والقرابة، وهناك أخوة الدين، وهناك أخوة الوطن والإنسانية، وقد أشارت آيات كثيرة في القرآن إلى هذا النوع من الأخوة، كما في قوله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف: 65]، وقوله: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} [الأعراف: 73]، وقوله: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [الأعراف: 85]، ولما كان لوط عليه السلام ليس من القرية التي أرسل إليها، عبر القرآن بقوله: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} [العنكبوت: 28]، ومن لوازم تلك الأخوة أن كل نوع منها يحتم على المسلم حقوقا لأخيه عليه، وجب عليه أداؤها؛ تحقيقا لمعنى الأخوة.
وقد قرر النبي صلى الله عليه وسلم مبدأ الأخوة الإنسانية فقال:” كلكم لآدم وأدم من تراب”. غير أن هذه الأخوة مجالها الدنيا وليس مجالها الدين والآخرة، ذلك أن أمر الآخرة لله، وأمر الدنيا مبني على مصالح الناس، فلم يمنعنا الله من تحقيق مصالحنا في الدنيا، على أن نبتغي بها وجه الله أيضا.
الشراكة الإنسانية:
ثم إن العمل الإنساني من المسلمين يجعلهم في شراكة في الخير مع غيرهم، فإن حل ببلاد المسلمين بعض المصائب سيسارع بعض غير المسلمين إلى الوقوف مع المسلمين في مصابهم، وكذلك المسلمون يقفون مع غيرهم في مصائبهم وحوائجهم، وهذا من معاني التعاون على البر والتقوى الذي جاء القرآن ليؤسسه، كما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، فالله تعالى الذي خلق الكون لبني آدم أباح لنا أن نتعاون فيما بيننا على العيش الرغيد، والحياة الهانئة، كي نحقق مقاصدنا في هذه الحياة بالوصف القرآني لها: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } [النحل: 97]
عوائد العمل الإنساني:
ثم إن العمل الإنساني يعود بالنفع على الإنسان في الدنيا والآخرة. فعمل الخير يعود بالنفع على الإنسان في صحته، فقد شكت امرأة وجعا، وكانت في الحرم، فخشيت إن ذهبت للطبيبة أن يضيع الوقت عليها في حرم الله، فجالت في خاطرها أن تتصدق بنية تسكين الألم، فتصدقت على فتاة بمبلغ، فسكن الألم ولم يعد مطلقا.
ومن بركات العمل الخيري أنه يزيد رزق الإنسان ويبارك له في ماله، فكم من أناس تصدقوا بشيء قليل فأخلف الله تعالى عليهم بأضعاف ما أنفقوا، فالله يضاعف لهم أموالهم كما يضاعف لهم حسناتهم، كما قال سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة: 261]
بل العمل الخيري والإنساني حافظ للإنسان من عذاب الله، وقد ورد: “إن الصدقة تطفئ غضب الرب”، وقد جاء رجل يسأل صفوان بن سليم، ويقول له: لقد رأيت في المنام أن الله يبشرك بالجنة. ثم سأله عن سر هذه الرؤيا، فقال صفوان: لقد كسوت مسكينا ثوبا. فسأله عن قصة هذا الكساء. فقال صفوان: كنت ذاهبا إلى الصلاة في ليلة باردة، فرأيت مسكينا يرتجف من شدة البرد، فخلعت قميصي وألبسته إياه.
إن العمل الخيري الإنساني يظهر وجوها مشرقة للحضارة الإسلامية، وأنه دين لم يقف عند حدود التعبد لله بالمعنى الخاص، بل هو دين عالمي، يعتني بالبشرية جميعا، بل بكل ما في الكون من البيئة والحيوان والجماد والنبات والطير فضلا عن الإنسان بوصف الإنسانية التي تجمع بنو آدم جميعا، مما يحتم عليهم أن يكون يساعد بعضهم بعضا، وأن يؤازر بعضهم بعضا، وأن يعطي الغني الفقير، وأن لا يعيش الإنسان لنفسه، بل يعيش لنفسه وأهله ووطنه وأمته والعالم أجمع.