القائمة الرئيسية
 الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

السيرة النبوية ضرورة العصر

الشيخ طه عامر*

لن نفهم القرآن الكريم على نحو دقيق حتى ندرس السيرة النبوية، ولن نستوعب أحداث السيرة إلا في ظلال القرآن، ولن نحسن فهم كثير من الأحاديث النبوية حتى نرجع للقرآن والسيرة معا.

إن حاجة المسلمين حول العالم الآن لدراسة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم كبيرة، لأنها المنطلق الواسع للتغيير والإصلاح، والتربية والدعوة، والعلم والعمل، وبينما تُستهدَف الأمة في دينها وعقيدتها وجب علينا أن نَهْرع إلى السيرة العطرة لنقف على معالم البناء الإيماني والأخلاقي، وإذا كانت محاولات سَلْخ الشباب المسلم عن هويتهم وهدم الرموز في عقولهم وقلوبهم لا تهدأ حتى تستأنف دورها، فعلينا العودة للسيرة لنربي عليها الأجيال على خير مثال وخير قدوة، ونُعَمق ولاءهم لأعظم جيل أخرجه الله للكون.

وسط تَلاطُم الأفكار، وتناقُض المناهج وتعددها، فإن السيرة هي المعيار، وهي المنهل العذب، وفي رحابها تُحاكم الأفكار والآراء والمناهج. وإذا كانت الحضارة المعاصرة الآن عاكفة على أهوائها ورغباتها وقد قطعت حبالها مع السماء وأصبحت كمن يشرب من المالح ولا يزداد إلا ظمأً، فآن الأوان أن تُصغي لأعظم إنسان جعل من الكون محرابا واسعا لعبادة الله جل في علاه. وكلما نزل بالأمة ابتلاء، أو اشتدت بها الأزمات، وبلغت القلوب الحناجر، انبعثت من سيرته الشريفة أضواء تكشف لكل مكروب أو يائس طريق الحق، فيرى الأعلام ترفرف على جبينه، ويزداد الذين آمنوا إيمانا، ويحق الله الحق بكلماته، ويقذف به على الباطل فإذا هو زاهق.

سيرته أكْمَلُ السِّيَرِ وأعظمها

إن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكملُ السير وأشملُها وأدقُها، ولا توجد سيرة إنسان منذ خلق الله آدم ليومنا هذا نعرف جميع تفاصيل حياته في جوانبها المختلفة مثل ما عرفنا عن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، كما يقول العلامة أبو الحسن الندوي في كتاب السيرة النبوية: “والسيرة النبوية المحمدية تتميز من بين سير أفراد البشر – وفيهم الأنبياء وغير الأنبياء – بدقتها وشمولها واستيعابها لدقائق الحياة وتفاصيلها وملامحها وقسماتها، وذلك بفضل علم الحديث الذي لا يوجد له نظير لا في تاريخ الأنبياء ولا في تاريخ العظماء”.

إن السيرة النبوية تُشَكل الميدان الواسع الخصب لتطبيق تعاليم القرآن الكريم وقواعده وآدابه وأخلاقه، لهذا قالت السيدة عائشة رضي الله عنها عن خُلق رسول االله صلى الله عليه وسلم: “كان خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم القرآن” رواه مسلم.

ولأهمية السيرة النبوية عنى الصحابة الكرام بتعليمها لأبنائهم وحث الأمة على العكوف عليها دراسةً وتعليماً وتربيةً، فعن بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت ألزم الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار فأسألهم عن مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما نزل من القرآن في ذلك، وكنت لا آتي أحدا منهم إلا سُرَّ بإتياني لقربي من رسول الله صلى الله عليه وسلم…) رواه ابن سعد في الطبقات.

فقه النجاة رسالة الأنبياء

إن أهم مقصد لبعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي أن يعلم الناس فقه النجاة، أو بعبارة الندوي (علم النجاة) وهو نفس الطريق الذي خطا عليه النبيون من قبله وجاء هو مكملا ومتمما لرسالتهم، فما أحوج الإنسانية لهديه وتعاليمه ورسالته. ماذا يظفر المرء إذا حاز المال كله وفقد روحه ونفسه؟ ماذا تُغني عنه أعلى الشهادات العلمية إن جهل خالق الأكوان جلَّ في علاه وغفل عن لقائه؟ هذا كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم هي انقاد البشرية من الدوران حول نفسها، وألا ترى الدنيا محور كل شيء، لتكون في أعين الناس وقلوبهم مَعْبَرا ومَمَرا يوصلنا إلى دار القرار.

جاء الرسول ليقول للإنسان أنت سيدٌ في الكون، ولست سيد الكون، قيمتك عظيمةٌ، فلا يجوز أن تكون عبدا للمادة، لا يصح أن تكون خادما للأشياء من حولك، إن لك رسالة تتجاوز خدمة الجسد إلى الروح والقلب والناس من حولك، لقد حقق العالم انجازاتٍ كبيرةٍ في ميدان العلم والمعرفة والحضارة في جانبها المادي مما لم يحلم به السابقون، لكنَّ السؤال هنا: هل الإنسان سعيد في زماننا؟ هل يشعر بطمأنينة النفس وسكنية الروح؟ أم أنه نسي أن له روحا تتطلب عذاءً ودواءً من نوع آخر؟ هل أدرك يوما أنه لو فقد الرضا ومعرفة الغاية من الحياة فلن يستفيد كثيرا، ولو سكن قصرا عظيما وتوفرت له كل أسباب الراحة؟

قصة التلاميذ مع الحكيم

ذَكَرَ الإمام النَّدْوي قصة معبرة أُورُدها باختصار: “يُحكى أن فريقا من تلاميذ المدراس ركبوا سفينة للنزهة في البحر وكان المجدف رجلا أميا فخاطبه تلميذ جريء وقال يا عم: ماذا درست من العلوم؟ قال له: ولا شيء، قال: أما درست العلوم الطبيعية؟ قال: كلا ولا سمعت بها، وتحدث الثاني: أما درست الجبر والمقابلة؟ قال: أول مرة أسمع هذه الأسماء، ثم تحدث التلميذ الثالث ساخرا: ولكنني متأكد أنك درست الجغرافية والتاريخ؟ فقال: هل هما اسمان لبلدين، أو علمان لشخصين؟ وهنا علت أصوات الشباب بالضحك على الرجل قائلين: لقد أضعت نصف عمرك يا عمنا”.

وبعد قليل هاج البحر، وماجت الريح، واضطربت السفينة وأصبحوا في مواجهة الغرق، وكانت أول تجربة للشباب في ركوب البحر. وجاء دور الملاَّح وتحدث في هدوء ووقار: ما هي العلوم التي درستموها يا شباب؟ وبدأ الشباب يتلون قائمة طويلة بالعلوم التي درسوها دون أن يفطنوا لمقصد المَلاَّح، ثم قال لهم: لقد درستم كل هذه العلوم يا أبنائي فهل درستم علم السباحة؟ وهل تعرفون إذا انقلبت السفينة لا قدر الله كيف تسبحون وتصلون إلى الشاطئ بسلام؟ قالوا: لا، قال: إذا كنتُ أضعتُ نصف عمري كما قلتم، فقد أضعتم عمركم كله، ولن تغني عنكم تلك العلوم أمام هذا الطوفان.

ولا يفهمنَّ أحد التهوين من شأن العلوم المعاصرة ودورها في عمارة الحياة وإصلاح الأرض وتحقيق الرفاهية للناس، بل المقصود أن تكون تلك العلوم خادمة للقيم الإنسانية والدينية، منضبطة بالأخلاق، لهذا نقرأ قول الله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)}، كل قراءة تَسْبَح في فَلَك الدنيا وزينتها، غافلة عن الغاية الكبرى من الوجود، مقطوعة الصلة بمن خلق الإنسان وعلَّمه البيان، فلصاحبها ما سلف وأمره إلى الله،  {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ ۖ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)}.

العلم والأخلاق لا ينفصلان

عند وفاة أحد الحائزين على جائزة نوبل دَارَ جدال ونقاش عريض، حاصله أنَّ فريقا رفعه مكانا عليا والآخر وضع من شأنه وشيعه باللعنات، والاعتدال أن ننصف فنعطي لكل ذي حق حقه، ونحفل بالعلم وأهله، وإذا كنا ننكر تسخير العلم لدعم الباطل وجب علينا أن نصنع نماذج تجمع بين العلم والأخلاق المُطلقة.

وهناك كلمة حول نوبل وغيرها وددت ذكرها هنا: إننا نرى كثيرا من الجوائز العالمية التي تمنحها دول ومؤسسات مختلفة حول العالم لا تحتكم لمعايير ثابتة بعيدة عن التحيز والهوى، فهناك رجال ونساء كثر يستحقون ألف نوبل وغيرها، لكنَّ الملأ يقدمون من حقه التأخير، ويؤخرون من يستحق الصدارة بين العالمين، بينما تَسلَّم آخرون جوائز كان الأَوْلى أن تكون قيودا في أيديهم، وأغلالا في أعناقهم ليحاكموا على ما اقترفوا من جرائم في حق الإنسانية. لكنَّ ميزان العدالة في الأرض معطوب.

إن العالم الذي يعتمد القوة معيارا وحيدا للتفاضل بين الأمم والشعوب والأفراد لهو تعيس حقا، ولسوف يجني مزيدا من الشقاء. لقد علَّمنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نُقيم الوزن بالقسط ولا نخسر الميزان، وأن ننزل الناس منازلهم وِفْق ما لديهم من جهد وعطاء وانتاج وخُلق، أمَّا ما وهبهم الله من مال أو جاه أو عقل أو قوة أو جمال، فإنما هي وسائل، لاترفع من خسيسة إنسان إذا ملكها، ولا تضع منه إن فقدها.

روى البخاري عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: “مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ: مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟، فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ، هَذَا وَاللَّهِ حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ، هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لاَ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لاَ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لاَ يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا”.

والسيرة الشريفة زاخرة بكل نفيس.

—–

  • رئيس هيئة الدعاة والعلماء بألمانيا، والمقال منقول من “مدونات الجزيرة”.

مواضيع ذات صلة