د. مصطفى عطية
الشخصية الخيرية تمثل النموذج البناء لنهضة المجتمع، فهي تسعى من خلال جهودها إلى القيام بجهد كبير في مساعدة ذوي الحاجات والمعسرين، من دون كلل أو تفرقة بين صغير أو كبير.
عندما نتأمل مختلف المجتمعات الإنسانية، نجد أمثال هذه الشخصيات تقوم بأعمال توازي في ثمراتها ما تقوم به الحكومات والمؤسسات.
ويطلق الباحثون الاجتماعيون المعاصرون على عمل هذه الشخصيات مصطلح «العمل التطوعي»، الذي يعرف بأنه: «كل ما يبذله الفرد بهدف تقديم الخدمات الاجتماعية أو الإغاثية أو التربوية، بلا أجر مادي، سواء كان ما يبذله علما أو وقتا أو جهدا بدنيا أو رأيا.. مما يمتلكه الفرد ويحتاجه الآخرون» (1)، وجاء في بيان المؤتمر العالمي للتطوع في العام 2001م أن التطوع هو: «اللبنة الأساسية في بناء المجتمع المدني. فالتطوع يجسد في الحياة أنبل أماني الإنسان في تحقيق السلام والحرية، وإيجاد مختلف الفرص والأمان والعدالة لكل البشر»(2).
ونلاحظ أن كلا التعريفين السابقين يحدد أطر العمل الخيري التطوعي وماهيته، وفي الوقت نفسه يبتعد عن المذاهب السياسية وصراعاتها واختلافاتها الأيديولوجية، ويصف العمل التطوعي (الخيري) بأنه بلا أجر، وهو ما ينطبق على العاملين في مجال الأعمال الخيرية، مثل الموظفين والفنيين… إلخ.
إن هذين التعريفين يتناولان العمل الخيري من منظور مدني بحت، فهما يتعاملان من منطلق الرؤية الغربية التي تعزز الخدمة المجتمعية المدنية، من منطلق علماني، كما أنه لا يشير إلى الأفراد أو الشخصيات الداعمة للعمل الخيري، لذا يجدر بنا أن نتبنى تعريفا يستقي الرؤية الإسلامية، يكون مقتصرا على مفهوم الشخصية الخيرية، وسماتها، ودورها المجتمعي.
يقصد بالشخصية الخيرية: هي الشخصية التي تتطوع دائما لفعل الخير في المجتمع المسلم، لا تضن في سبيل ذلك بمال أو جهد أو وقت، وتتوجه بجهودها نحو الفئات المحرومة والمحتاجة في المجتمع المحلي والمجتمع الخارجي (3).
يسم التعريف السابق الشخصية الخيرية بملامح وسمات عديدة، أبرزها:
– أن عملها يتجه إلى ميادين الخير دائما، وهي متسعة ومتعددة بتعدد أبواب الخير وأفعاله.
– أنها لا تكتفي بفعل الخير مرة أو مرات، بل إن الديمومة تميز حركتها.
– أنها تتجه بفعل الخير نحو أبناء المجتمع المسلم، محليا (داخل المجتمع) أو دوليا (على صعيد الدول الإسلامية الأخرى).
– أنها لا تبخل بالجهد أو بالمال أو بالوقت في سبيل ذلك، وبالطبع تختلف الشخصيات الخيرية في هذه الأمور، فبعضها يبذل المال، ويقعده السن الكبيرة أو ضعف الصحة عن العطاء، وبعضهم يقدم جهوده مضحيا براحته، مفارقا أهله ووطنه، وبعضهم يضع وقته للتيسير على الناس في حاجاتهم ومصالحهم، والكثير يجعل حياته مسلطة على عمل الخير كله فكل ما يملك من مال أو صحة أو وقت أو جهد مبذول في سبيل الله والخير.
ولعل الشيخ عبدالله علي المطوع يمثل النموذج الثالث؛ فقد كان ماله ووقته وجهده مسخرا في سبيل الدعوة الإسلامية والناس.
ومن أبرز القيم التي تؤمن الشخصية الخيرية:
< قيمة الإخاء مع أفراد المجتمع المسلم: فالأخوة الإسلامية تفوق كل العصبيات (عصبية القبيلة والأرض والنسب…)، وأساسها الاعتصام بحبل الله الذي يجعل الجميع سواسية، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} (آل عمران:103). والإخاء عام في كل زمان ومكان، يستشعره ويعمل به كل من ترسخ في قلبه الإيمان، فيسعى إلى مساعدة إخوانه المسلمين قدر ما يستطيع، نبراسه خلق الصحابة: المهاجرين والأنصار.
< قيمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ومساعدة المحتاج والمحروم لب الأمر بالمعروف، وكما يذكر رب العزة على لسان لقمان يوصي ابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (لقمان:17). هذا على المستوى الفردي، أما على المستوى الجماعي فتؤكده الآية القرآنية: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران:110)، فكيف ننهى الجائع والعاري والجاهل عن المنكر وهو لم ير منا معروفا يداوي آلامه؟ وهل سيسمع منا نحن المسلمين ذوي المال واليسار؟ وعندما نأمره بالمعروف ونسمعه كلام الله سينصت ويستجيب لأنه وجد أفعالنا سبقت أقوالنا.
< قيمة التعاون والتراحم: وهذا من لوازم الإخاء، إذ ما قيمة الأخوة إذا لم تعاون أخاك عند الحاجة، وتساعده عند الشدة؟ (4) وقد صور الرسول -صلى الله عليه وسلم- تلاحم المؤمنين بقوله: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر» (5).
< قيمة النصرة: وتركز على الجانب الإيجابي المتمثل في سرعة الفعل والنجدة نحو كل مستنجد من المسلمين، وكما يقول الرسول الأعظم: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم، يرد مشدهم على مضعفهم، ومسرعهم على قاعدهم» (6).
< قيمة التكافل المادي والأدبي: وهو تكافل مادي ومعنوي، اقتصادي وسياسي، عسكري ومدني، اجتماعي وثقافي (7)، وكما جاء في الحديث الشريف: «أيما أهل عرصة فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله وذمة رسوله» (8)، فلا يقتصر التكافل على البذل المادي، بل يتخطاه إلى سائر الوجوه. فمهمة الشخصية الخيرية لا تنتهي عند تقديم المساعدة المالية، بل تتخطاها إلى المشاركة في إنشاء المساجد والمؤسسات الاجتماعية والتعليمية والثقافية، كي تؤمن للمحتاج زاد الروح جنبا إلى جنب مع زاد الجسم.
< الإيمان بنظرة الإسلام للمال: وهي تدور حول محورين: الأول: مصدر المال، ولابد أن يكون من حلال، بعيدا عن الغش والاحتكار والربا وكل ما يخالف شرع الله ويلحق الضرر بالمجتمع. والثاني: وجه إنفاقه، ويكون في أعمال البر والخير، فالمال مال الله، ونحن مستخلفون فيه، والذكي من سلط نفسه لإهلاك ماله في الحق وفي مساعدة الآخرين، دون غمط ورثته حقوقهم (9)، مصداقا للآيتين الكريمتين: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (آل عمران:189)، {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} (النور: 33).
العمل التطوعي
إن التطوع جوهر سلوك الشخصية الخيرية بشكل عام، ولكن دوافع التطوع تختلف وفق الثقافة والمعتقد، حيث نرى في المجتمعات الغربية اعوجاجا في السلوك؛ فالمتطوعون قد يكونون لا دينيين (علمانيين) يندفعون إلى العمل الخيري تحت ما يسمى خدمة الإنسان أو المجتمع، وهذا في النهاية هدف دنيوي، تدخل فيه نوازع النفوس الدنيوية من شهرة وجاه وتوسل سياسي، ولعل كثيرا من الشبهات تحيط بالأعمال الخيرية في الغرب؛ لأنها تبغي من وراء ذلك نشر ثقافة دولة بعينها. وفي الغرب أيضا متطوعون خيريون دينيون، يعملون لحساب الكنائس الغربية، ويتوجهون في جل أعمالهم نحو الشعوب الإسلامية في آسيا وأفريقيا، يقرنون الدواء والغذاء بالإيمان بالديانة النصرانية (10)، ويسعون لمحو الشخصية الإسلامية في نفوس هؤلاء الفقراء، من أجل خلق مسخ إنساني، لا هو بالمسلم صحيح الإسلام، ولا بالنصراني المؤمن بنصرانيته، لأنه نسي إسلامه، ولم يقتنع بغيره، فإن هدفي التنصير هما: تنصير المسلمين، أو تشكيك المسلمين في إسلامهم وثقافتهم وعقيدتهم، على حد قول زعيم المبشرين زويمر في مؤتمر القدس عام 1935م مخاطبا جموع المبشرين: «إن مهمة التبشير التي ندبتكم الدول المسيحية للقيام بها في البلاد المحمدية ليست إدخال المسلمين في المسيحية، فإن هذا هداية لهم وتكريم، وإنما مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام، ليصبح مخلوقا لا صلة له بالله ولا صلة له بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها، وبذلك تكونون أنتم بعملكم هذا طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية، وهذا ما قمتم به في الأعوام المئة السالفة خير قيام» (11).
يفترق نمط الشخصية الخيرية عن باقي الشخصيات المجتمعية في كونها متطوعة لعمل الخير بدافع ذاتي أساسه السعي لمرضاة الله تعالى، واغتنام كل الفرص للفوز بالمثوبة الربانية، وهذا قوام التطوع في الإسلام، إنه تسابق من المسلمين في فعل الخير، مصداقا للآية الكريمة: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} (المطففين: 26).
ومن المعلوم أن فعل التطوع -في منظور الإسلام- يمثل مرحلة تالية، بعد ترسيخ العقيدة، والقيام بالفرائض، فتنطلق إلى مجال أرحب، عبر التطوع، وقد شرع التطوع: «ليكون جبرا عسى أن يكون قد وقع في الفرائض من نقص» (12)، وكما جاء في الحديث الشريف، قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: «إن أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة الصلاة، يقول ربنا لملائكته، وهو أعلم، انظروا في صلاة عبدي أتمها أم نقصها؟ فإن كانت تامة كتبت له تامة، وإن كان انتقص منها شيئا، قال: انظروا لعبدي من تطوع؟ فإن كان له تطوع، قال: أتموا فريضته من تطوعه، ثم تؤخذ الأعمال على ذلك» (13)، وهذا يصدق على الصلاة، وسائر الفرائض، مصداقا لقوله: «ثم تؤخذ الأعمال على ذلك».
وهذا المفهوم عن التطوع عمقه القرآن الكريم وربطه بالجانب المادي، حيث يقول الله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} (البقرة: 177)، فالآية الكريمة تحث على التطوع المادي، فيما يسمى بصدقة التطوع، وهي التي: «يتبرع بها المسلم إلى الفقراء والمحتاجين، وإلى أي جهة من جهات البر من غير إلزام مطلقا ومن غير تحديد» (14)، والله تعالى يقول: {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } (آل عمران:92)، وقوله جل شأنه: {وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} (الحديد: 7).
لذا، فإن التطوع -بوصفه مفهوما وسلوكا وقيمة- ارتبط في تكويننا بالعبادات، وهذا ما يجعل اللفظة إذا ذكرت في أي سياق معاصر تستدعي الكثير من المستقر في أعماق المسلم عن المبادرة إلى فعل الخيرات، كما أنها تعزز ما يسمى بـ «الضمير الديني»، وصاحبه هو الذي: «يراقب الله في العمل، ويستغني عن إشراف الغير عليه، ويستغني كذلك عن مغالبة هوى نفسه وشهواتها في أداء ما يجب عليه أداؤه، سواء نحو نفسه أو غيره، لأنه انتقل فيما يعمل من خشية الناس إلى خشية الله، ومن إرضاء نفسه إلى إرضاء الله» (15)، ومن المعلوم أن الضمير هو المحرك الأساسي لنفوسنا للخير، فيعرفه العلماء بأنه: «ما استتر في داخل النفس، وهو الوازع الباطني الذي يرشدنا إلى الصواب ويوجه إلى الخير…، إن ضمير الإنسان يتكون من عقيدته التي تحدد نظرة الإنسان للحياة ومفاهيمه عنها» (16).
إن الضمير الديني غائب عن نفوس الكثير من المسلمين في الزمن الحاضر، وهذا سبب لتراجع المسلمين الحضاري، فقد صارت العبادات تؤدى بلا روح، وتعمق فصل الدين عن الدنيا، وفصل إيمان القلوب عن رؤى العقول. لذا، ينتعش العمل التطوعي في المجتمعات المسلمة ذات الفهم الصحيح، وهذا يختلف من مجتمع إلى آخر، ومن فئة اجتماعية إلى أخرى، وكلما ازدهر التطوع دل ذلك على حيوية المجتمع، وعمق إيمان أفراده، وارتباطهم الحميم بمشاكل المجتمع محليا وخارجيا.
إذن.. التطوع من أنبل أهداف المسلم في الحياة، وكما يقول أحد المفكرين: «إذا كانت التقوى هي معيار الحساب في الآخرة، فإن مصلحة المسلمين، والمجتمع بأسره، هي المعيار الذي ينبغي أن يحتكم إليه في الدنيا، ولا تناقض بين المعيارين في الواقع؛ لأن الوضع الأمثل في التصور الإسلامي يدعو إلى الجمع بين الاثنين…، والعمل الصالح هو هذا الجهد الذي يلتقي فيه عنصرا نفع الناس وإخلاص النية لله»(17).
والتطوع من أجل خدمة الناس جزء أساسي من «العمل الصالح»، وهذا يأتي مصداقا لقوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة: 105)، فضمير الخطاب موجه إلى المجموع، والأمر بالعمل -بأشكاله كافة- لمصلحة الجماعة، وهو عمل يسير وفق أحكام الشريعة ومقاصدها، وتؤكد الآية على رقابة الله لعمل عباده، وشهادة الرسول والمؤمنين الصالحين.
والمسلم -في المنظور الإسلامي- له شخصيتان:
شخصية مستقلة (خاصة): يسأل بها عن نفسه وجسمه وعقله وروحه وماله وعمله، وإليها تتجه التكاليف الفردية، وهي التي تدفع وتحافظ على الضمير الديني في أعماق نفسه.
وشخصية عامة: يكون بها لبنة في بناء المجتمع، ويسأل بها عن صلاح مجتمعه، ومدى ما يقدم له من خدمات، وعما يحققه من سعادة، وإليها تتجه التكاليف الجماعية (18).
مكافحة الفقر
عندما يمتنع الأغنياء عن العطاء والبذل، أو يحال بينهم وبين بذل أموالهم، فإن الأثرة والشح والأنانية ستملأ نفوسهم، وسيوجهون أموالهم نحو الشهوات والملذات، وتصبح الكماليات الحياتية -بالنسبة إليهم- ضرورات، ومن ثم يموت الحس الفردي والجماعي في نفوسهم، وتغيب عنهم روح الانتماء الوطني والإنساني، ومن ثم تشتد الضغائن في نفوس الفقراء نحو الأغنياء، ويرتكبون الجرائم؛ إشباعا لحاجاتهم الأساسية من طعام وملبس (19).
فكثير من الجرائم التي تكثر في المجتمعات الفقيرة إنما سببها الحرمان لفقير ومسكين، يرى القطط السمان تتنعم بالثروات، بينما أطفاله يتضورون جوعا، ويموتون مرضا، فيكون الحقد والحسد داءين فاتكين في نفسه، ومسوغين له للانتقام ممن ضنوا وهم يملكون. والعجب أن الحكومات تنفق المليارات في مكافحة الجريمة، وتتغافل عن حث الغني على البذل، وإقامة مؤسسات مستقلة له ليضع ما تجود به نفسه بعيدا عن موظفي الدولة وجهازها البيروقراطي (20).
إن الفقر المدقع خطر على العقيدة، حيث يجعل الفرد نهبا للمنظمات التنصيرية، وخطر على الأخلاق والسلوك، فهو مدعاة لانحراف النساء واحترافهن البغاء طلبا للقمة العيش، ومدعاة لانخراط الشباب والأطفال في عصابات الجريمة والمخدرات، وخطر على الفكر الإنساني، حيث يخسر المجتمع طاقات أبنائه المبدعين بسبب فقرهم وعدم قدرتهم على التعلم وتنمية قدراتهم، وخطر على المجتمع واستقراره بصفة عامة (21).
وقد عالج الإسلام هذه المشكلة بطرق عدة؛ فأمر الفرد بالعمل والكسب، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ} (الملك:15)، ثم حض الموسرين على كفالة أقاربهم من الفقراء: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (الأنفال:75)، وفرض زكاة المال وجعلها ركنا مكينا من أركان الإسلام، وشدد على دور بيت مال المسلمين في مساندة الفقراء والمدينين والعجزة، فإن عجز بيت المال فقد أوجب الإسلام على الموسرين من أهل البلد كفالة فقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك إن امتنعوا، هذا إذا لم تكف أموال الزكاة عن سداد احتياجات الناس، ثم حبب الإسلام الصدقات الاختيارية والتطوعية فجعل ثوابها سبعمئة ضعف، كما قال المولى تعالى: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة:261)، ولو أخذ المجتمع المسلم بكل الوسائل السابقة فلن يوجد فقير أو محتاج على أرضه (22).
ومن المهم الإشارة إلى أن الوسائل السابقة لا تعمل بشكل متدرج، بل متكامل، فكل وسيلة لها دورها الاجتماعي، ولابد من تفعيل هذه الوسائل، فإن تراجعت الدولة والحكومة عن دورهما، فلتتقدم الشخصيات الخيرية المتطوعة؛ تنظم جباية الزكوات والصدقات، وتنشئ المؤسسات، وتخطط للعمل الخيري داخل البلد وخارجه.
إن الشخصية الخيرية المسلمة تتطوع لفعل الخير منطلقة من فهمها الدقيق لصحيح الإسلام، الذي يكشف الفطرة الصحيحة للنفس البشرية، وهذا الأمر لا يحتاج إلى ثقافة شرعية عميقة للفرد المتطوع، بقدر ما يحتاج إلى نفس عميقة الإيمان، تتألم بألم المحروم، وتبكي لبكاء الطفل والأرملة والشيخ، ويكون تجاوبها فعلا لا قولا.
الهوامش
1- العمل التطوعي، أوراد يحيى، مجلة الهلال الأحمر الكويتي، يونيو 2001، ص10.
2- نشرته مجلة الهلال الأحمر الكويتي، عدد يونيو 2001، ص8 و9، ضمن تغطيتها لأعمال المؤتمر العالمي للتطوع. ومفهوم المجتمع المدني حديث مرتبط بالعصر الحديث، حيث ازدهرت المدن في أوروبا بوصفها حاضنة للمصانع والمتاجر والمؤسسات… إلخ، حيث يتكدس السكان بالملايين، وتغيب القيم الإنسانية الطيبة مثل: الرحمة والتكافل ومساعدة المحتاجين في خضم المادة، بعكس القرية، حيث قلة عدد السكان، وترابط العائلات، وشيوع التكافل فيما بينها. انظر تفصيلا لذلك: المجتمع المدني بين النظرية والتطبيق، د. الحبيب الجنحاني، دراسة منشورة في مجلة عالم الفكر، الكويت، المجلد 27، مارس 1999م.
3- تعدد استعمال مصطلح الشخصية الخيرية في كثير من البحوث والكتب والمراجع دون تقديم مفهوم شامل محدد له، فاجتهد الباحث في وضع هذا المفهوم ليكون مرتكزا أساسيا في الدراسة.
4- ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده، د. يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1422هـ، 2001م، ص163. وقد ذكر ذلك في فصل بعنوان: القيم الإنسانية في المجتمع المسلم، وعدد منها: الحرية والشورى والعدل والإخاء والمحبة والوحدة. وقد وفق المؤلف في عنونة الفصل بالقيم الإنسانية؛ لأنها قيم مشتركة بين بني البشر من ذوي الفطرة الطيبة، تخص المسلم وغير المسلم، وتكون لغير المسلم عونا له على الدخول في الإسلام.
5- رواه مسلم، عن النعمان بن بشير “رضي الله عنه” .
6- رواه أبوداود، وابن ماجه، عن عبدالله ابن عمرو بإسناد حسن.
7- ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده، مرجع سابق، ص165.
8- رواه الإمام أحمد، وأبويعلى، والبزار والحاكم.
9- التكافل الاجتماعي في الإسلام، عبدالله عوان، الدار السعودية للنشر، الطبعة الثانية، 1408هـ، 1987م، ص16.
10- انظر: حاضر العالم الإسلامي: الآلام والآمال، د. توفيق يوسف الواعي، مكتبة المنار الإسلامية، الكويت، الطبعة الأولى، 1421هـ، 2000م. ويعرف المؤلف التبشير (التنصير) بأنه: «نشر المسيحية…، وقد توجه التبشير للعقيدة لمحاولة قتلها، وهو يستغل ذلك لتبييض وجه المسيحية ونشرها»، ص54.
11- المرجع السابق، ص54.
12- فقه السنة، السيد سابق، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1418هـ، 1997م، الجزء الأول، ص134.
13- رواه أبوداود في مسنده.
14- المجتمع المتكافل في الإسلام، د. عبدالعزيز الخياط، دار السلام للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الثالثة، 1406هـ، 1986م، ص174.
15- الإسلام في حياة المسلم، د. محمد البهي، دار الفكر، القاهرة، دون طبعة، 1970م، ص222.
16- المجتمع المتكافل في الإسلام، مرجع سابق، ص161 و162.
17- القرآن والسلطان: هموم إسلامية معاصرة، فهمي هويدي، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى، 1981م، ص235.
18- انظر: من توجيهات الإسلام (تصحيح بعض المفاهيم الدينية) الشيخ محمود شلتوت، دار الشروق، القاهرة، دون طبعة، 1987م، ص255.
19- راجع: التطبيقات التاريخية والمعاصرة لتنظيم الزكاة ودور مؤسساتها، د. محمد عقلة، بحث منشور ضمن كتاب: «أبحاث وأعمال مؤتمر الزكاة الأول»، تنظيم بيت الزكاة بالكويت، شهر شعبان، 1404هـ، 1984م، ص228 إلى ص 230.
20- انظر: آثار الزكاة في الأفراد والمجتمعات، د. يوسف القرضاوي، بحث ضمن أبحاث المؤتمر السابق، ص 35 وما بعدها.
21- انظر بشكل مسهب: مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام، د. يوسف القرضاوي، منشورات دار العرب للطباعة والنشر، بيروت، 1967م، ص18-25.
22- انظر شرحا تفصيليا للنقاط السابقة في كتاب: مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام، مرجع سابق، الصفحات 24، 62، 121، 130، 138، 141.
__________
* المصدر: الوعي الشبابي.